1

النظم الفهرسية الموسوعية الببلوجرافية للأحاديث النبوية وأهميتها

bad-8/77


الأحد، 17 أبريل 2022

من {1- }الي [727] تطريز رياض الصالحين تَألِيْفُ الفَقِيْر إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَبَارَكْ فَيْصَلْ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ آل مُبَارَك (1313 هـ ـ 1376 هـ)


تطريز رياض الصالحين  تَألِيْفُ الفَقِيْر إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَبَارَكْ فَيْصَلْ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ آل مُبَارَك (1313 هـ ـ 1376 هـ) 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشارح
الحمدُ لِلَّهِ الذَّي منَّ على الصالحين بذِكره وطاعَتِه، فَرَتَعوا في رياض الجنَّة لشُغْلِهم بمُراقَبَتِه وعِبَادَتِه.
وَأشْهَدُ أنْ لا إِله إِلا اللهُ، وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه في ربوبيَّته وإلهيَّته وأسمائِهِ وصفاتِهِ، وأَشْهَدُ أَنَّ سيَّدَنَا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه من مخلوقاتِه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِِ وأتباعِهِ: أهلِ دينِه ووُلاته وسلَّم تسليمًا.
أما بعد: فإنَّ كتاب (رياض الصَّالحين) مِن أنفع الكتب المختصرة؛ لأنَّه مشتمل على أحاديث صحيحة وآيات كريمة، تَحُثُّ على سلوك الطُّرق الموصلة إلى الجنَّة، من الأعمال الصَّالحة، والآداب الباطنة والظَّاهرة، فَجَزى الله مؤلَّفه خيرًا، وغَفَر له، ولوالديه، ومشايخه، وسائر أحبابه، والمسلمين أجمعين.
(1/5)
=====

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمْدُ للهِ الواحدِ القَهَّارِ، العَزيزِ الغَفَّارِ، مُكَوِّرِ اللَّيْلِ على النَّهَارِ، تَذْكِرَةً لأُولي القُلُوبِ والأَبصَارِ، وتَبْصرَةً لِذَوي الأَلبَابِ واَلاعتِبَارِ، الَّذي أَيقَظَ مِنْ خَلْقهِ مَنِ اصطَفاهُ فَزَهَّدَهُمْ في هذهِ الدَّارِ، وشَغَلهُمْ بمُراقبَتِهِ وَإِدَامَةِ الأَفكارِ، ومُلازَمَةِ الاتِّعَاظِ والادِّكَارِ، ووَفَّقَهُمْ للدَّأْبِ في طاعَتِهِ، والتّأهُّبِ لِدَارِ القَرارِ، والْحَذَرِ مِمّا يُسْخِطُهُ ويُوجِبُ دَارَ البَوَارِ، والمُحافَظَةِ على ذلِكَ مَعَ تَغَايُرِ الأَحْوَالِ والأَطْوَارِ.
أَحْمَدُهُ أَبلَغَ حمْدٍ وأَزكَاهُ، وَأَشمَلَهُ وأَنْمَاهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ البَرُّ الكَرِيمُ، الرؤُوفُ الرَّحيمُ، وأشهَدُ أَنَّ سَيَّدَنا مُحمّداً عَبدُهُ ورَسُولُهُ، وحبِيبُهُ وخلِيلُهُ، الهَادِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ، والدَّاعِي إِلَى دِينٍ قَويمٍ، صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَليهِ، وَعَلَى سَائِرِ النَّبيِّينَ، وَآلِ كُلٍّ، وسَائِرِ الصَّالِحينَ.
أَما بعد، فقد قال اللهُ تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات (56، 57) ] وَهَذا
(1/6)
تَصْريحٌ بِأَنَّهُمْ خُلِقوا لِلعِبَادَةِ، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاعْتِنَاءُ بِمَا خُلِقُوا لَهُ وَالإعْرَاضُ عَنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا بالزَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا دَارُ نَفَادٍ لا مَحَلُّ إخْلاَدٍ،
وَمَرْكَبُ عُبُورٍ لا مَنْزِلُ حُبُورٍ، ومَشْرَعُ انْفصَامٍ لا مَوْطِنُ دَوَامٍ، فلِهذا كَانَ الأَيْقَاظُ مِنْ أَهْلِهَا هُمُ الْعُبَّادُ، وَأعْقَلُ النَّاسِ فيهَا هُمُ الزُّهّادُ. قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس (24) ] . والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ. ولقد أَحْسَنَ القَائِلُ:
إِنَّ للهِ عِبَاداً فُطَنَا ... ??? ... طَلَّقُوا الدُّنْيَا وخَافُوا الفِتَنَا ... ???
فَنَظَروا فيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا ... ???? ... أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا ... ????
جَعَلُوها لُجَّةً واتَّخَذُوا ... ? ... صَالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا ... ???
فإذا كَانَ حالُها ما وصَفْتُهُ، وحالُنَا وَمَا خُلِقْنَا لَهُ مَا قَدَّمْتُهُ؛ فَحَقٌّ عَلَى الْمُكلَّفِ أَنْ يَذْهَبَ بنفسِهِ مَذْهَبَ الأَخْيارِ، وَيَسلُكَ مَسْلَكَ أُولي النُّهَى وَالأَبْصَارِ، وَيَتَأهَّبَ لِمَا أشَرْتُ إليهِ، وَيَهْتَمَّ بمَا نَبَّهتُ عليهِ. وأَصْوَبُ طريقٍ لهُ في ذَلِكَ، وَأَرشَدُ مَا يَسْلُكُهُ مِنَ المسَالِكِ، التَّأَدُّبُ بمَا صَحَّ عَنْ نَبِيِّنَا سَيِّدِ الأَوَّلينَ والآخرينَ، وَأَكْرَمِ السَّابقينَ واللاحِقينَ، صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيهِ وَعَلى سَائِرِ النَّبيِّينَ. وقدْ قالَ اللهُ تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة (2) ] وقد صَحَّ عَنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قالَ: ... «واللهُ في عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ» ، وَأَنَّهُ قالَ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ» . وأَنَّهُ قالَ: «مَنْ دَعَا إِلى هُدىً كَانَ لَهُ
مِنَ الأَجرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيئاً» ، وأَنَّهُ قالَ لِعَليٍّ - رضي الله عنه -: «فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» .
(1/7)
فَرَأَيتُ أَنْ أَجْمَعَ مُخْتَصَراً منَ الأحاديثِ الصَّحيحَةِ، مشْتَمِلاً عَلَى مَا يكُونُ طَرِيقاً لِصَاحبهِ إِلى الآخِرَةِ، ومُحَصِّلاً لآدَابِهِ البَاطِنَةِ وَالظَاهِرَةِ. جَامِعاً للترغيب والترهيب، وسائر أنواع آداب السالكين: من أحاديث الزهد ورياضات النُّفُوسِ، وتَهْذِيبِ الأَخْلاقِ، وطَهَارَاتِ القُلوبِ وَعِلاجِهَا، وصِيانَةِ الجَوَارحِ وَإِزَالَةِ اعْوِجَاجِهَا، وغَيرِ ذلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعارفِينَ.
وَألتَزِمُ فيهِ أَنْ لا أَذْكُرَ إلا حَدِيثاً صَحِيحاً مِنَ الْوَاضِحَاتِ، مُضَافاً إِلى الْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُوراتِ. وأُصَدِّر الأَبْوَابَ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِآياتٍ كَرِيماتٍ، وَأَوشِّحَ مَا يَحْتَاجُ إِلى ضَبْطٍ أَوْ شَرْحِ مَعْنىً خَفِيٍّ بِنَفَائِسَ مِنَ التَّنْبِيهاتِ. وإِذا قُلْتُ في آخِرِ حَدِيث: مُتَّفَقٌ عَلَيهِ فمعناه: رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
وَأَرجُو إنْ تَمَّ هذَا الْكِتَابُ أنْ يَكُونَ سَائِقاً للمُعْتَنِي بِهِ إِلى الْخَيْرَاتِ حَاجزاً لَهُ عَنْ أنْواعِ الْقَبَائِحِ والْمُهْلِكَاتِ. وأَنَا سَائِلٌ أخاً انْتَفعَ بِشيءٍ مِنْهُ أنْ يَدْعُوَ لِي، وَلِوَالِدَيَّ، وَمَشَايخي، وَسَائِرِ أَحْبَابِنَا، وَالمُسْلِمِينَ أجْمَعِينَ. وعَلَى اللهِ الكَريمِ اعْتِمادي، وَإِلَيْهِ تَفْويضي وَاسْتِنَادي، وَحَسبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
(1/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
1- باب الإخلاص وإحضار النية
في جميع الأعمال والأقوال البارزة والخفية
الإخلاص هو: إفراد الله سبحانه وتعالى بالقَصْدِ، وهو أن يريد العبد بطاعته التقرُّب إلى الله دون شيء آخر.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة (5) ] .
أي: وما أُمِرَ أهل الكتاب وغيرهم إلا بِعِبَادة الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحنفاء هم: المائلون عن جميع الأديان إلى دين الإسلام.
{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، أي: الملة المستقيمة.
وَقالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج (37) ] .
أي: لن يصل إلى الله لحوم الهدايا والضحايا، ولا دماؤها، ولكن يصله منكم النية والإِخلاص.
قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يلطخون البيت بدماء البُدْن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزلت هذه الآية.
(1/9)
وَقالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران (29) ] .
أي: فهو العالِم بخفيّات الصدور، وما اشتملت عليه من الإخلاص أو الرياء.
[1] وعن أمير المؤمِنين أبي حَفْصٍ عمرَ بنِ الخطابِ بنِ نُفَيْلِ بنِ عبدِ العُزّى بن رياحِ بنِ عبدِ اللهِ بن قُرْطِ بن رَزاحِ بنِ عدِي بنِ كعب بنِ لُؤَيِّ بنِ غالبٍ القُرشِيِّ العَدويِّ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: «إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْه» . مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. رَوَاهُ إمَامَا الْمُحَدّثِينَ، أبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعيلَ بْن إبراهِيمَ بْن المُغيرَةِ بنِ بَرْدِزْبهْ الجُعْفِيُّ البُخَارِيُّ، وَأَبُو الحُسَيْنِ مُسْلمُ بْنُ الحَجَّاجِ بْنِ مُسْلمٍ الْقُشَيريُّ النَّيْسَابُورِيُّ رضي اللهُ عنهما فِي صحيحيهما اللَّذَيْنِ هما أَصَحُّ الكُتبِ المصنفةِ.
هذا حديث عظيم، جليل القدر كثير الفائدة.
قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: ينبغي لكل من صنَّف كتابًا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث، تنبيهًا للطالب على تصحيح النية.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: يدخل في سبعين بابًا من العلم.
وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى، فدخل فيه: الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام.
(1/10)
قوله: «إنما الأعمال بالنيات» ، إنما للحصر، أي: لا يعتد بالأعمال بدون النية. «وإنما لكل امرئ ما نوى» .
قال ابن عبد السلام: الجملة الأولى لبيان ما يعتبر مِنَ الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها. انتهى. والنية: هي القصد، ومحلها القلب.
قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله» ، أي من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدًا، فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا. «ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
قال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: من نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوج المرأة معًا، فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة. والله أعلم.
[2] وعن أمِّ المؤمِنينَ أمِّ عبدِ اللهِ عائشةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ» . قَالَتْ: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ
وَآخِرِهِمْ وَفِيهمْ أسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟! قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيّاتِهمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. هذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
في هذا الحديث: التحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم، وأن العقوبة
(1/11)
تلزمه معهم، وأنه يعامل عند الحساب بقصده من الخير والشر. وفي حديث ابن عمر مرفوعًا: «إذا أنزل الله بقوم عذابًا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم» .
[3] وعن عائِشةَ رضيَ اللهُ عنها قَالَتْ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمَعناهُ: لا هِجْرَةَ مِنْ مَكّةَ لأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ إسلاَمٍ.
قال الخطَّابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم؛ لقلة المسلمين بالمدينة، وحاجتهم إلى الاجتماع. فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد، والنية على من قام به، أو نزل به عدو.
وقال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لما يترجى من دخول غيره في الإسلام.
قال الحافظ: كانت الحكمة في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم إلى أن يرجع عن دينه.
[4] وعن أبي عبدِ اللهِ جابر بن عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضي اللهُ عنهما قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزَاةٍ، فَقالَ: «إِنَّ بالمدِينَةِ لَرِجَالاً ما سِرْتُمْ مَسِيراً، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِياً، إلا كَانُوا مَعَكمْ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» . وَفي روَايَة: «إلا شَرَكُوكُمْ في الأجْرِ» . رواهُ مسلمٌ.
(1/12)
ورواهُ البخاريُّ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنَّ أقْواماً خَلْفَنَا بالْمَدِينَةِ مَا سَلَكْنَا شِعْباً وَلا وَادياً، إلا وَهُمْ مَعَنَا؛ حَبَسَهُمُ العُذْرُ» .
في هذا الحديث: دليل على أن من صحت نيته، وعزم على فعل عمل صالح وتركه لعذر، أن له مثل أجر فاعله.
[5] وعن أبي يَزيدَ مَعْنِ بنِ يَزيدَ بنِ الأخنسِ - رضي الله عنهم - وهو وأبوه وَجَدُّه صحابيُّون قَالَ: كَانَ أبي يَزيدُ أخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ في الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فأَخذْتُها فَأَتَيْتُهُ بِهَا. فقالَ: واللهِ، مَا إيَّاكَ أرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لكَ مَا نَوَيْتَ يَا يزيدُ، ولَكَ ما أخَذْتَ يَا مَعْنُ» . رواهُ البخاريُّ.
في هذا الحديث: دليل على أن من نوى الصدقة على محتاج، حصل له ثوابها، ولو كان الآخذ ممن تلزمه نفقته، أو غير أهل لها، كما في قصة الذي تصدَّق على ثلاثة.
[6] وعن أبي إسحاقَ سَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ مالِكِ بنِ أُهَيْب بنِ عبدِ منافِ ابنِ زُهرَةَ بنِ كلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ بنِ لُؤيٍّ القُرشِيِّ الزُّهريِّ - رضي الله عنه - أَحَدِ
العَشَرَةِ المشهودِ لهم بالجنةِ - رضي الله عنهم - قَالَ: جاءنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بي، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي قَدْ بَلَغَ بي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مالٍ وَلا يَرِثُني إلا ابْنَةٌ لي، أفأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لا» ، قُلْتُ: فالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فقَالَ: «لا» ، قُلْتُ: فالثُّلُثُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ،
(1/13)
والثُّلُثُ كَثيرٌ - أَوْ كبيرٌ - إنَّكَ إنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أغنِيَاءَ خيرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يتكفَّفُونَ النَّاسَ، وَإنَّكَ لَنْ تُنفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بِهَا وَجهَ اللهِ إلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فِيِّ امْرَأَتِكَ» ، قَالَ: فَقُلتُ: يَا رسولَ اللهِ، أُخلَّفُ بعدَ أصْحَابي؟ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعملَ عَمَلاً تَبتَغي بِهِ وَجْهَ اللهِ إلا ازْدَدتَ بِهِ دَرَجةً ورِفعَةً، وَلَعلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتّى يَنتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخرونَ. اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابي هِجْرَتَهُمْ ولا تَرُدَّهُمْ عَلَى أعقَابهمْ، لكنِ البَائِسُ سَعدُ بْنُ خَوْلَةَ» . يَرْثي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ ماتَ بمَكَّة. مُتَّفَقٌ عليهِ.
في هذا الحديث: مشروعية عيادة المريض.
وفيه: الإنفاق على من تلزمه مؤنتهم، والحث على الإخلاص في ذلك.
وفيه: أن من ترك مالاً قليلاً، فالاختيار له: ترك الوصية، وإبقاء المال للورثة، ومن ترك مالاً كثيرًا، جاز له الوصية بالثلث فما دون. والله أعلم.
[7] وعنْ أبي هريرةَ عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لا ينْظُرُ إِلى أجْسَامِكُمْ، ولا إِلى صُوَرِكمْ، وَلَكن ينْظُرُ إلى قُلُوبِكمْ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: الاعتناء بحال القلب وصفاته، وتصحيح مقاصده، وتطهيره عن كل وصف مذموم؛ لأن عمل القلب هو المصحح للأعمال الشرعية، وكمال ذلك بمراقبة الله سبحانه وتعالى.
[8] وعن أبي موسى عبدِ اللهِ بنِ قيسٍ الأشعريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سُئِلَ ... رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ يُقاتلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذلِكَ في سبيلِ الله؟ فقال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَاتَلَ
(1/14)
لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا، فَهوَ في سبيلِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عباس: كلمة الله: «لا إله إلا الله» .
وفي هذا الحديث: أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة.
وفيه: ذم الحرص على الدنيا، وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة.
وفيه: أن الفضل الذي يورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لإِعلاء دين الله.
قال ابن أبي جمرة: إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه.
قال الحافظ: القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإِثبات ولا بالنفي.
[9] وعن أبي بَكرَةَ نُفيع بنِ الحارثِ الثقفيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «إِذَا التَقَى المُسلِمَان بسَيْفَيهِمَا فالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ في النّارِ» . قُلتُ:
يا رَسُولَ اللهِ، هذا القَاتِلُ فَمَا بَالُ المقْتُولِ؟ قَالَ: «إنَّهُ كَانَ حَريصاً عَلَى قتلِ صَاحِبهِ» . مُتَّفَقٌ عليهِ.
في هذا الحديث: العقاب على من عزم على المعصية بقلبه، ووطَّن نفسه عليها.
[10] وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةُ الرَّجلِ في جمَاعَةٍ تَزيدُ عَلَى صَلاتهِ في بيتهِ وصلاته فِي سُوقِهِ
(1/15)
بضْعاً وعِشرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ أنَّ أَحدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضوءَ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ، لا يَنْهَزُهُ إِلا الصَلاةُ، لا يُرِيدُ إلا الصَّلاةَ: لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بها خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ، فإِذا دَخَلَ المَسْجِدَ كَانَ في الصَّلاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِي تَحْبِسُهُ، وَالمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ في مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيهِ، مَا لَم يُؤْذِ فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عليه، وهذا لفظ مسلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْهَزُهُ» هُوَ بِفَتْحِ اليَاءِ والْهَاءِ وبالزَّايِ: أَيْ يُخْرِجُهُ ويُنْهضُهُ.
قوله: «لا يريد إلا الصلاة» ، أي: في جماعة، وفيه: إشارة إلى اعتبار الإخلاص. وفي هذا الحديث: إشارة إلى بعض الأسباب المقتضية للدرجات، وهو قوله: «وذلك أنه إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج
إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رُفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة» .
ومنها: الاجتماع والتعاون على الطاعة، والألفة بين الجيران، والسلامة من صفة النفاق، ومن إساءة الظن به.
ومنها: صلاة الملائكة عليه، واستغفارهم له، وغير ذلك.
[11] وعن أبي العبَّاسِ عبدِ اللهِ بنِ عباسِ بنِ عبد المطلب رضِيَ اللهُ عنهما، عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربهِ تباركَ وتعالى قَالَ: «إنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ والسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَها اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، وَإنْ هَمَّ بهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عَشْرَ حَسَناتٍ إِلى سَبْع مئةِ ضِعْفٍ إِلى أَضعَافٍ كَثيرةٍ،
(1/16)
وإنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلةً، وَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» . مُتَّفَقٌ عليهِ.
هذا حديث شريف عظيم، بيَّن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدار ما تفضَّل الله به عزَّ وجلّ على خلقه من تضعيف الحسنات، وتقليل السيئات. زاد مسلم بعد قوله: «وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» . «أو محاها، ولا يَهْلِك على الله إلا هالكٌ» .
قال ابن مسعود: ويلٌ لمن غلبت وحداته عشراته.
قال العلماء: إنَّ السيئة تعظم أحيانًا بشرف الزمان أو المكان، وقد تضاعف بشرف فاعلها وقوة معرفته، كما قال تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن
يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب (30، 31) ] .
[12] وعن أبي عبد الرحمن عبدِ الله بنِ عمرَ بن الخطابِ رضيَ اللهُ عنهما، قَالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «انطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ المَبيتُ إِلى غَارٍ فَدَخلُوهُ، فانْحَدرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقالُوا: إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ إِلا أنْ تَدْعُوا اللهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ.
قَالَ رجلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كبيرانِ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ قَبْلَهُمَا أهْلاً ولا مالاً، فَنَأَى بِي طَلَب الشَّجَرِ يَوْماً فلم أَرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا
(1/17)
غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُما نَائِمَينِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُمَا وَأَنْ أغْبِقَ قَبْلَهُمَا أهْلاً أو مالاً، فَلَبَثْتُ - والْقَدَحُ عَلَى يَدِي - أنتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرِقَ الفَجْرُ والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَميَّ، فاسْتَيْقَظَا فَشَرِبا غَبُوقَهُما. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاء وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الخُروجَ مِنْهُ.
قَالَ الآخر: اللَّهُمَّ إنَّهُ كانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمّ، كَانَتْ أَحَبَّ النّاسِ إليَّ - ... وفي رواية: كُنْتُ أُحِبُّها كأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النساءَ - فأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسِهَا فامْتَنَعَتْ منِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمئةَ دينَارٍ عَلَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْني وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفعَلَتْ، حَتَّى إِذَا
قَدَرْتُ عَلَيْهَا - وفي رواية: فَلَمَّا قَعَدْتُ بَينَ رِجْلَيْهَا، قالتْ: اتَّقِ اللهَ وَلا تَفُضَّ الخَاتَمَ إلا بِحَقِّهِ، فَانصَرَفْتُ عَنْهَا وَهيَ أَحَبُّ النَّاسِ إليَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أعْطَيتُها. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فيهِ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا.
وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وأَعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُل واحدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهبَ، فَثمَّرْتُ أجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنهُ الأمْوَالُ، فَجَاءنِي بَعدَ حِينٍ، فَقالَ: يَا عبدَ اللهِ، أَدِّ إِلَيَّ أجْرِي، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أجْرِكَ: مِنَ الإبلِ وَالبَقَرِ والْغَنَمِ والرَّقيقِ، فقالَ: يَا عبدَ اللهِ، لا تَسْتَهْزِئْ بي! فَقُلْتُ: لا أسْتَهْزِئ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتَاقَهُ فَلَمْ يتْرُكْ مِنهُ شَيئاً. الَّلهُمَّ إنْ كُنتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحنُ فِيهِ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» . مُتَّفَقٌ عليهِ.
(1/18)
في هذا الحديث: فضل الإخلاص في العمل، وأنه ينجي صاحبه عند الكرب.
وفيه: فضل بر الوالدين وخدمتهما، وإيثارهما على الولد والأهل، وتحمُّل المشقة لأجلهما.
وفيه: العفة والانكفاف عن الحرام مع القدرة.
وفيه: فضل حسن العهد وأداء الأمانة، والسماحة في المعاملة.
2- باب التوبة
قَالَ العلماءُ: التَّوْبَةُ وَاجبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْب، فإنْ كَانتِ المَعْصِيَةُ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لا تَتَعلَّقُ بحقّ آدَمِيٍّ فَلَهَا ثَلاثَةُ شُرُوط:
أحَدُها: أنْ يُقلِعَ عَنِ المَعصِيَةِ.
والثَّانِي: أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا.
والثَّالثُ: أنْ يَعْزِمَ أَنْ لا يعُودَ إِلَيْهَا أَبَداً. فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ لَمْ تَصِحَّ تَوبَتُهُ.
وإنْ كَانَتِ المَعْصِيةُ تَتَعَلقُ بآدَمِيٍّ فَشُرُوطُهَا أرْبَعَةٌ: هذِهِ الثَّلاثَةُ، وأنْ يَبْرَأ مِنْ حَقّ صَاحِبِها، فَإِنْ كَانَتْ مالاً أَوْ نَحْوَهُ رَدَّهُ إِلَيْه، وإنْ كَانَت حَدَّ قَذْفٍ ونَحْوَهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ، وإنْ كَانْت غِيبَةً استَحَلَّهُ مِنْهَا. ويجِبُ أنْ يَتُوبَ مِنْ جميعِ الذُّنُوبِ، فَإِنْ تَابَ مِنْ بَعْضِها صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ مِنْ ذلِكَ الذَّنْبِ وبَقِيَ عَلَيهِ البَاقي.
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلائِلُ الكتَابِ والسُّنَّةِ، وإجْمَاعِ الأُمَّةِ عَلَى وُجوبِ التَّوبةِ.
التوبة: الرجوع عن معصية الله تعالى إلى طاعته، وطلب الاستحلال مِنَ المقذوف ونحوه إن بلغه ذلك، وإلا كفى الاستغفار، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كفارةُ
(1/19)
من اغتبته أن تسغفر له»
قَالَ الله تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور (31) ] .
(لعل) في الأصل للترجي، وفي كلام الله تعالى للتحقيق؛ لأنَّ وعده واقع والآية تدل على وجوب التوبة من الصغائر والكبائر.
وَقالَ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح (10) ] .
وهذه الآية أيضًا تدل على وجوب الاستغفار من جميع الذنوب.
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحا} [التحريم (8) ] .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: التوبة النصوح أن يتوب من الذنب، ثم لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن في الضرع.
[13] وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: تحريض للأمة على التوبة والاستغفار.
قال ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة، لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير.
(1/20)
[14] وعن الأَغَرِّ بنِ يسار المزنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ، فإنِّي أتُوبُ في اليَومِ مئةَ مَرَّةٍ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث أيضًا: وجوب التوبة والاستغفار، واستمرار ذلك في كل وقت، وعلى كل حال.
[15] وعن أبي حمزةَ أنسِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ - خادِمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرهِ وقد أضلَّهُ في أرضٍ فَلاةٍ» . مُتَّفَقٌ عليه.
وفي رواية لمُسْلمٍ: «للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يتوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتهِ بأرضٍ فَلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابهُ فأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتى شَجَرَةً فاضطَجَعَ في ظِلِّهَا وقد أيِسَ مِنْ رَاحلَتهِ، فَبَينَما هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِها قائِمَةً عِندَهُ، فَأَخَذَ بِخِطامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنْتَ عَبدِي وأنا رَبُّكَ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ» .
في هذا الحديث: محبة الله تعالى لتوبة عبده حين يتوب إليه، وأنه يفرح بذلك فرحًا شديدًا يليق بجلاله.
وفيه: أنَّ ما قاله الإنسان في حال دهشته وذهوله لا يؤاخذ به.
وفيه: ضرب المثل بما يصل إلى الأفهام من الأمور المحسوسة.
وفيه: بركة الاستسلام لأمر الله تعالى.
(1/21)
[16] وعن أبي موسَى عبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ الأشْعريِّ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: طلب من اللطيف الرؤوف الغافر لعباده أن يتوبوا، ليتوب عليهم.
[17] وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها تَابَ اللهُ عَلَيهِ» . رواه مسلم.
قبول التوبة مستمر ما دام بابها مفتوحًا، فإذا أغلق لم تقبل. قال الله تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام (158) ] ، يعني: إذا طلعت الشمس من مغربها، لم ينفع الكافر إيمانه، ولا العاصي توبته.
[18] وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بنِ عمَرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهما عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إِنَّ الله - عز وجل - يَقْبَلُ تَوبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن» .
الغرغرة: وصول الروح الحلقوم. قال الله تعالى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء (18) ] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر (84، 85) ] .
(1/22)
[19] وعن زِرِّ بن حُبَيْشٍ، قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ - رضي الله عنه - أسْألُهُ عَن الْمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ، فَقالَ: ما جاءَ بكَ يَا زِرُّ؟ فقُلْتُ: ابتِغَاء العِلْمِ، فقالَ: إنَّ المَلائكَةَ تَضَعُ أجْنِحَتَهَا لطَالبِ العِلْمِ رِضىً بِمَا يطْلُبُ. فقلتُ:
إنَّهُ قَدْ حَكَّ في صَدْري المَسْحُ عَلَى الخُفَّينِ بَعْدَ الغَائِطِ والبَولِ، وكُنْتَ امْرَءاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجئتُ أَسْأَلُكَ هَلْ سَمِعْتَهُ يَذكُرُ في ذلِكَ شَيئاً؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ يَأْمُرُنا إِذَا كُنَّا سَفراً - أَوْ مُسَافِرينَ - أنْ لا نَنْزعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيالِيهنَّ إلا مِنْ جَنَابَةٍ، لكنْ مِنْ غَائطٍ وَبَولٍ ... ونَوْمٍ. فقُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكرُ في الهَوَى شَيئاً؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنّا مَعَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فبَيْنَا نَحْنُ عِندَهُ إِذْ نَادَاه أَعرابيٌّ بصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ: يَا مُحَمَّدُ، فأجابهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نَحْواً مِنْ صَوْتِه: «هَاؤُمْ» فقُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ! اغْضُضْ مِنْ صَوتِكَ فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هذَا! فقالَ: والله لا أغْضُضُ. قَالَ الأعرَابيُّ: المَرْءُ يُحبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَومَ القِيَامَةِ» . فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى ذَكَرَ بَاباً مِنَ المَغْرِبِ مَسيرَةُ عَرْضِهِ أَوْ يَسِيرُ الرَّاكبُ في عَرْضِهِ أرْبَعينَ أَوْ سَبعينَ عاماً - قَالَ سُفْيانُ أَحدُ الرُّواةِ: قِبَلَ الشَّامِ - خَلَقَهُ الله تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ مَفْتوحاً للتَّوْبَةِ لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ. رواه الترمذي وغيره، وَقالَ: «حديث حسن صحيح» .
قوله: «حك» ، أي: أثَّر. والهوى: الحب.
(1/23)
وفي الحديث: فضل حب الله ورسوله والأخيار أحياء وأمواتًا.
وفيه: فضل العلم وأهله، وفي صحيح مسلم، قال أنس: «ما فرحنا فرحًا أشد ما فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مع من أحب» . وقال أنس: «
أنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بعملهم» .
[20] وعن أبي سَعيد سَعْدِ بنِ مالكِ بنِ سِنَانٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - أنّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعينَ نَفْساً، فَسَأَلَ عَنْ أعْلَمِ أَهْلِ الأرضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ. فقال: إنَّهُ قَتَلَ تِسعَةً وتِسْعِينَ نَفْساً فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلهُ فَكَمَّلَ بهِ مئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ. فقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلى أرضِ كَذَا وكَذَا فإِنَّ بِهَا أُناساً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى فاعْبُدِ الله مَعَهُمْ، ولا تَرْجِعْ إِلى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أرضُ سُوءٍ، فانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذَابِ. فَقَالتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِباً، مُقْبِلاً بِقَلبِهِ إِلى اللهِ تَعَالَى، وقالتْ مَلائِكَةُ العَذَابِ: إنَّهُ لمْ يَعْمَلْ خَيراً قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ في صورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ - أيْ حَكَماً - فقالَ: قِيسُوا ما بينَ الأرضَينِ فَإلَى أيّتهما كَانَ أدنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أدْنى إِلى الأرْضِ التي أرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحمةِ» . مُتَّفَقٌ عليه.
وفي رواية في الصحيح: «فَكَانَ إلى القَريَةِ الصَّالِحَةِ أقْرَبَ بِشِبْرٍ فَجُعِلَ مِنْ أهلِهَا» .
وفي رواية في الصحيح: «فَأَوحَى الله تَعَالَى إِلى هذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي،
(1/24)
وإِلَى هذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وقَالَ: قِيسُوا مَا بيْنَهُما، فَوَجَدُوهُ إِلى هذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ» . وفي رواية: «فَنَأى بصَدْرِهِ نَحْوَهَا» .
في هذا الحديث: فضل العلم على العبادة.
وفيه: والهجرة من دار العصيان، ومقاطعة إخوان السوء، واستبدالهم بصحبة أهل الخير والصلاح.
وفيه: دليل على أنَّ القاضي إذا تعارضت الأقوال عنده، يحكم بالقرائن.
وفيه: أن الذنوب وإن عظمت، فعفو الله أعظم منها. وأن من صدق في توبته، تاب الله عليه، ولو لم يعمل خيرًا إذا عزم على فعله.
[21] وعن عبدِ الله بن كعبِ بنِ مالكٍ، وكان قائِدَ كعبٍ - رضي الله عنه - مِنْ بَنِيهِ حِينَ عمِيَ، قَالَ: سَمِعتُ كَعْبَ بنَ مالكٍ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ بحَديثهِ حينَ تَخلَّفَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبُوكَ. قَالَ كعبٌ: لَمْ أتَخَلَّفْ عَنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ غزاها قط إلا في غزوة تَبُوكَ، غَيْرَ أنّي قَدْ تَخَلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ، ولَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهُ؛ إِنَّمَا خَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والمُسْلِمُونَ يُريدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله تَعَالَى بَيْنَهُمْ وبَيْنَ عَدُوِّهمْ عَلَى غَيْر ميعادٍ. ولَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيلَةَ العَقَبَةِ حينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وإنْ كَانَتْ بدرٌ أذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا. وكانَ مِنْ خَبَري حينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبُوكَ أنِّي لم أكُنْ قَطُّ أَقْوى ولا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عنْهُ في تِلكَ
الغَزْوَةِ،
(1/25)
وَالله ما جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُريدُ غَزْوَةً إلا وَرَّى بِغَيرِها حَتَّى كَانَتْ تلْكَ الغَزْوَةُ، فَغَزَاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شَديدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً، وَاستَقْبَلَ عَدَداً كَثِيراً، فَجَلَّى للْمُسْلِمينَ أمْرَهُمْ ليتَأهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهمْ فأَخْبرَهُمْ بوَجْهِهِمُ الَّذِي يُريدُ، والمُسلِمونَ مَعَ رسولِ الله كثيرٌ وَلا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ (يُريدُ بذلِكَ الدّيوَانَ) قَالَ كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَتَغَيَّبَ إلا ظَنَّ أنَّ ذلِكَ سيخْفَى بِهِ ما لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ الله، وَغَزا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الغَزوَةَ حِينَ طَابَت الثِّمَارُ وَالظِّلالُ، فَأنَا إلَيْهَا أصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ وطَفِقْتُ أغْدُو لكَيْ أتَجَهَّزَ مَعَهُ، فأرْجِعُ وَلَمْ أقْضِ شَيْئاً، وأقُولُ في نفسي: أنَا قَادرٌ عَلَى ذلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمادى بي حَتَّى اسْتَمَرَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ، فأصْبَحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَادياً والمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أقْضِ مِنْ جِهَازي شَيْئاً، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أقْضِ شَيئاً، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بي حَتَّى أسْرَعُوا وتَفَارَطَ الغَزْوُ، فَهَمَمْتُ أنْ أرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، فَيَا لَيْتَني فَعَلْتُ، ثُمَّ لم يُقَدَّرْ ذلِكَ لي، فَطَفِقْتُ إذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْزُنُنِي أنِّي لا أرَى لي أُسْوَةً، إلا رَجُلاً مَغْمُوصَاً عَلَيْهِ في النِّفَاقِ، أوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ تَعَالَى ... مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَلَغَ
(1/26)
تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ في القَوْمِ بِتَبُوكَ: «ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رضي الله عنه -: بِئْسَ مَا قُلْتَ! واللهِ يا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلا خَيْرَاً،
فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَبَيْنَا هُوَ عَلى ذَلِكَ رَأى رَجُلاً مُبْيِضاً يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ» ، فَإذَا هُوَ أبُو خَيْثَمَةَ الأنْصَارِيُّ وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِيْنَ لَمَزَهُ المُنَافِقُونَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي، فَطَفِقْتُ أتَذَكَّرُ الكَذِبَ وأقُولُ: بِمَ أخْرُجُ مِنْ ... سَخَطِهِ ... غَدَاً؟ وأسْتَعِيْنُ عَلى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رأْيٍ مِنْ أهْلِي، فَلَمَّا قِيْلَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قّدْ أظَلَّ قَادِمَاً، زَاحَ عَنّي البَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيءٍ أَبَداً، فَأجْمَعْتُ صدْقَهُ وأَصْبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَادِماً، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذلِكَ جَاءهُ المُخَلَّفُونَ يَعْتَذِرونَ إِلَيْه ويَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعاً وَثَمانينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلى الله تَعَالَى، حَتَّى جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ. ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ» ، فَجِئْتُ أمْشي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فقالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ؟ ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله، إنّي والله لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا لَرَأيتُ أنِّي سَأخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ؛ لقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، ولَكِنِّي والله لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليوم حَدِيثَ كَذبٍ تَرْضَى به عنِّي لَيُوشِكَنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عَلَيَّ،
(1/27)
وإنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى الله - عز وجل -، والله ما كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ، واللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. قَالَ: فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمَّا هَذَا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ
اللهُ فيكَ» . وَسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَة فاتَّبَعُوني فَقالُوا لِي: واللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هذَا لَقَدْ عَجَزْتَ في أنْ لا تَكونَ اعتَذَرْتَ إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعْتَذَرَ إليهِ المُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لَكَ. قَالَ: فَوالله ما زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُّ أَنْ أرْجعَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هذَا مَعِيَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قيلَ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُما؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبيع الْعَمْرِيُّ، وهِلاَلُ ابنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ؟ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَينِ صَالِحَينِ قَدْ شَهِدَا بَدْراً فيهِما أُسْوَةٌ، قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي. ونَهَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَلامِنا أيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ - أوْ قَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا - حَتَّى تَنَكَّرَتْ لي في نَفْسي الأَرْض، فَمَا هِيَ بالأرْضِ الَّتي أعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَأمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانا وقَعَدَا في بُيُوتِهِمَا يَبْكيَان. وأمَّا أنَا فَكُنْتُ أشَبَّ الْقَومِ وأجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أخْرُجُ فَأشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وأطُوفُ في الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَأَقُولُ في نَفسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْه برَدِّ السَّلام أَمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَريباً مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي،
(1/28)
حَتَّى إِذَا طَال ذلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ المُسْلِمينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدارَ حائِط أبي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وأَحَبُّ النَّاس إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَليَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أنْشُدُكَ بالله هَلْ تَعْلَمُنِي
أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أمْشِي في سُوقِ الْمَدِينة إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ ... أهْلِ الشَّام مِمّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيَّ حَتَّى جَاءنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ كَاتباً. فَقَرَأْتُهُ فإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنا أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بدَارِ هَوانٍ وَلا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهَذِهِ أَيضاً مِنَ البَلاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رسولُ ... رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأتِيني، فَقالَ: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُكَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ؟ فَقالَ: لا، بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلا تَقْرَبَنَّهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذلِكَ. فَقُلْتُ لامْرَأتِي: الْحَقِي بِأهْلِكِ فَكُوني عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ في هَذَا الأمْرِ. فَجَاءتِ امْرَأةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، إنَّ هِلاَلَ بْنَ أمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أنْ أخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لا، وَلَكِنْ لا يَقْرَبَنَّكِ» فَقَالَتْ: إِنَّهُ واللهِ ما بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَوَالله مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ
(1/29)
كَانَ مِنْ أمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَومِهِ هَذَا. فَقَالَ لي بَعْضُ أهْلِي: لَو اسْتَأْذَنْتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِن لاِمْرَأةِ هلاَل بْنِ أمَيَّةَ أنْ تَخْدُمَهُ؟ فَقُلْتُ: لا أسْتَأذِنُ فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَا يُدْرِيني مَاذَا يقُول رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌ! فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنا
خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلاَمِنا، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحالِ الَّتي ذَكَرَ الله تَعَالَى مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أوفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأعْلَى صَوتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أبْشِرْ، فَخَرَرْتُ سَاجِداً، وَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. فآذَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ بِتَوْبَةِ الله - عز وجل - عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الفَجْر فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ ... إِلَيَّ فَرَساً وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، فَكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءني الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُني نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ بِبشارته، وَاللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبسْتُهُما، وَانْطَلَقْتُ أتَأمَّمُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجاً ... فَوْجاً يُهنِّئونَني بالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِي: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ الله عَلَيْكَ. حَتَّى ... دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ حَوْلَه النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ - رضي الله عنه - يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَني وَهَنَّأَنِي، والله مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرينَ غَيرُهُ - فَكَانَ كَعْبٌ لا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ -.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ
(1/30)
مِنَ السُّرُور: «أبْشِرْ بِخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» فَقُلْتُ: أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُول الله أَمْ مِنْ عِندِ الله؟ قَالَ: «لا، بَلْ مِنْ عِنْدِ الله - عز وجل -» ، وَكَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رسولَ الله،
إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولهِ. فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمْسِكَ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ ... لَكَ» . فقلتُ: إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيبَر. وَقُلْتُ: يَا رسولَ الله، إنَّ الله تَعَالَى إِنَّمَا أنْجَانِي بالصِّدْقِ، وإنَّ مِنْ تَوْبَتِي أنْ لا أُحَدِّثَ إلا صِدْقاً مَا بَقِيتُ، فوَالله مَا عَلِمْتُ أَحَداً مِنَ المُسْلِمينَ أبْلاهُ الله تَعَالَى في صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أحْسَنَ مِمَّا أبْلانِي الله تَعَالَى، واللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كِذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى يَومِيَ هَذَا، وإنِّي لأرْجُو أنْ يَحْفَظَنِي الله تَعَالَى فيما بَقِيَ، قَالَ: فأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} حَتَّى بَلَغَ: {اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ... [التوبة (117: 119) ] قَالَ كَعْبٌ: واللهِ ما أنْعَمَ الله عَليَّ مِنْ نعمةٍ قَطُّ بَعْدَ إذْ هَدَاني اللهُ للإِسْلامِ أَعْظَمَ في نَفْسِي مِنْ صِدقِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا أكونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذينَ كَذَبُوا؛ إنَّ الله تَعَالَى قَالَ للَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فقال الله تَعَالَى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة (95، 96) ]
(1/31)
قَالَ كَعْبٌ: كُنّا خُلّفْنَا أيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أمْرِ أُولئكَ الذينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وأرجَأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -
أمْرَنَا حَتَّى قَضَى الله تَعَالَى فِيهِ بذِلكَ. قَالَ الله تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَليْسَ الَّذِي ذَكَرَ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخلُّفُنَا عن الغَزْو، وإنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إيّانا وإرْجَاؤُهُ أمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ واعْتَذَرَ إِلَيْهِ فقبِلَ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عليه.
وفي رواية: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ في غَزْوَةِ تَبْوكَ يَومَ الخَميسِ وكانَ يُحِبُّ أنْ يخْرُجَ يومَ الخمِيس.
وفي رواية: وكانَ لا يقْدمُ مِنْ سَفَرٍ إلا نَهَاراً في الضُّحَى، فإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بالمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ.
في هذا الحديث: أكثر من أربعين فائدة، منها: فضيلة الصدق، والحكم بالظاهر، وأنَّ القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ ضعيف الدين.
وفيه: جواز هجران المذنب أكثر من ثلاث إذا ظهرت فائدته، ولم يترتب عليه مفسدة، واستحباب الصدقة عند التوبة. وبالله التوفيق.
[22] وَعَنْ أبي نُجَيد - بضَمِّ النُّونِ وفتحِ الجيم - عِمْرَانَ بنِ الحُصَيْنِ الخُزَاعِيِّ رضي الله عنهما: أنَّ امْرَأةً مِنْ جُهَيْنَةَ أتَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فقالتْ: يَا رسولَ الله، أصَبْتُ حَدّاً فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَليَّها، فقالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فإذا وَضَعَتْ فَأْتِني» فَفَعَلَ فَأَمَرَ بهَا نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا. فقالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُول الله وَقَدْ
(1/32)
زَنَتْ؟ قَالَ: «لَقَدْ
تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفضَلَ مِنْ أنْ جَادَتْ بنفْسِها لله - عز وجل -؟!» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: دليل على أنَّ الحد يكفر الذنب، وأنه يصلي على المرجوم.
وفيه: بيان عظم التوبة، وأنها تَجُبُّ الذنب وإن عظم.
وفي رواية: «ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضَّح الدم على وجه خالد فسبَّها، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبّه إياها، فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفر له، ثم أمر بها فصلى عليها ودُفنت» .
قال النووي: فيه: أن المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له، وظلاماتهم عنده، تكرار ذلك منه، وانتهاكه للناس، وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها. انتهى والله المستعان.
[23] وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لَوْ أنَّ لابنِ آدَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يكُونَ لَهُ وَادِيانِ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إلا التُّرَابُ، وَيَتْوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . مُتَّفَقٌ عليه.
في هذا الحديث: دليل على أنَّ الإِنسان لا يزال حريصًا على الدنيا حتى يموت، ويمتلئ جوفه من تراب قبره، إلا من لطف الله به. قال الله تعالى:
{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} الآيات [المعارج (19: 25) ] .
(1/33)
[24] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «يَضْحَكُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى رَجُلَيْنِ يقْتلُ أَحَدهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا في سَبيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يتُوبُ اللهُ عَلَى القَاتلِ فَيُسْلِم فَيُسْتَشْهَدُ» . مُتَّفَقٌ عليه.
ختم المصنف الباب بهذا الحديث إشارة إلى أنَّ الإنسان ينبغي له أن يتوب من الذنب الذي اقترفه وإن كان كبيرًا، ولا يؤيسه ذلك من رحمة الله، فإن الله واسع المغفرة. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر (53) ] .
3- باب الصبر
قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران (200) ] .
الصبر ثلاثةُ أَنواع: صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن محارم الله، وصبرٌ على أقدار الله. وقد أَمر الله تعالى بالصبر على ذلك كله.
وقوله تعالى: {وَصَابِرُوا} أي: غالبوا الكفار بالصبر فلا يكونوا أَشدَّ صبرًا منكم، فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون.
وقوله تعالى: {وَرَابِطُوا} أي: أقيموا على الجهاد. قال - صلى الله عليه وسلم -: «رباطُ يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها» . وقال - صلى الله عليه وسلم -: ... «أَلا أَدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إِسباغ الوضوء على المكاره، وكَثْرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط، فذالكم الرباط» .
(1/34)
وقال تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة (155) ] ،
على البلايا والرزايا بالذكر الجميل والثَواب الجزيل.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب} [الزمر (10) ] .
أي: بغيرِ مكْيالٍ، ولا وزن، فلا جزاء فوق جزاء الصبر.
وَقالَ تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى (43) ] .
أي: مَنْ صبر فلم ينتصر لنفسه وتجاوز عن ظالمه، فإِن ذلك من الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة.
وَقالَ تَعَالَى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة (153) ]
أي: استعينوا على طلب الآخرة بحبس النَّفْس عن المعاصي، والصبر على أداء الفرائض، فإنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} أي: ثقيلة {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} أي: المؤمنين حقًّا.
وَقالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} ... [محمد (31) ] ، وَالآياتُ في الأمر بالصَّبْر وَبَيانِ فَضْلهِ كَثيرةٌ مَعْرُوفةٌ.
أي: ولنختبرنكم بالتكاليف حتى يتميز الصادق في دينه من الكاذب. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج (11) ] .
(1/35)
وَالآيَاتُ في الأَمْرِ بِالصَّبْرِ وَبَيَانِ فَضْلهِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفةٌ.
قيل: إنَّ الصبر ذُكِرَ في مئة موضع من القرآن.
[25] وعن أبي مالكٍ الحارث بن عاصم الأشعريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ ... رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمان، والحَمدُ لله تَمْلأُ الميزَانَ،
وَسُبْحَانَ الله والحَمدُ لله تَملآن - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَينَ السَّماوات وَالأَرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدقةُ بُرهَانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والقُرْآنُ حُجةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائعٌ نَفسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُها» . رواه مسلم.
قوله: «الطُّهُور شَطْرُ الإِيمان» ، أي: نصفه؛ لأَن خِصال الإيمان قسمان: ظاهرة، وباطنة، فالطهور من الخصال الظاهرة، والتوحيد من الخصال الباطنة. قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أَحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أَن لا إِله إِلا الله، وأَشهد أَن محمدًا عبده ورسوله، إِلا فتحت له أَبواب الجنة الثمانية يدخل في أَيِّها شاء» .
قوله: «والحمد لله تملأ الميزان» أي: أَجرها يملأ ميزان الحامد لله تعالى. وفي الحديث الآخر: «التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه، ولا إِله إِلا الله ليس لها دون الله حجابٌ حتى تصل إِليه» .
وسببُ عظم فضل هذه الكلمات: ما اشتملت عليه من التنزيه لله تعالى، وتوحيده، والافتقار إِليه.
قوله: «والصلاة نورٌ» أي: لصاحبها في الدنيا، وفي القبر، ويوم القيامة. «والصدقة برهان» أي: دليلٌ واضح على صحة الإِيمان. ... «والصبر ضياء» ، وهو النور الذي يحصل فيه نوعُ حرارة؛ لأَنَّ الصبر لا يحصل إِلا بمجاهدة النفس.
(1/36)
«والقرآن حجةٌ لك أَو عليك» أي: إِن عملت به فهو حجة لك، وإلا فهو حجة عليك. قوله: «كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقُها»
أي: كل إِنسان يسعى، فمنهم من يبيع نفسه لله بطاعته فيعتقها من النار، ومنهم مَنْ يبيعها للشيطان والهوى فيهلكها.
قال الحسن: «يا ابن آدم إنك تغدو وتروح في طلب الأَرباح، فليكن هَمُّك نفسك، فإِنك لن تربح مثلها أَبدًا» .
[26] وعن أبي سَعيد سعدِ بن مالكِ بنِ سنانٍ الخدري رضي الله عنهما: أَنَّ نَاساً مِنَ الأَنْصَارِ سَألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَألوهُ فَأعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِندَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أنْفْقَ كُلَّ شَيءٍ بِيَدِهِ: «مَا يَكُنْ عِنْدي مِنْ خَيْر فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْر» . مُتَّفَقٌ عليه.
في هذا الحديث: الحثُّ على الاستعفاف، وأَنَّ مَنْ رزقه الله الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا، فقد أعطاه خيرًا كثيرًا.
[27] وعن أبي يحيى صهيب بن سنانٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:
«عَجَباً لأمْرِ المُؤمنِ إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خيرٌ ولَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمِن: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيراً لَهُ، وإنْ أصَابَتْهُ ضرَاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْراً لَهُ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: فَضْلُ الشكر على السّرّاء والصبر على الضرّاء، فمن فعل ذلك حصل له خيرُ الدارين، ومَنْ لم يشكر على النعمة، ولم يصبر على المصيبة، فاته الأَجر، وحصل له الوِزْر.
(1/37)
[28] وعن أنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَعلَ يَتَغَشَّاهُ الكَرْبُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: وَاكَربَ أَبَتَاهُ. فقَالَ: «لَيْسَ عَلَى أَبيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ» فَلَمَّا مَاتَ، قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبّاً دَعَاهُ! يَا أَبتَاهُ، جَنَّةُ الفِردَوسِ مَأْوَاهُ! يَا أَبَتَاهُ، إِلَى جبْريلَ نَنْعَاهُ! فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ رَضي الله عنها: أَطَابَتْ أنْفُسُكُمْ أنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - التُّرَابَ؟! رواه البخاري.
في هذا الحديث: جوازُ التوجع للميِّت عند احتضاره، وأَنه ليس من النياحة. ومناسبة إِيراده في باب الصبر: صبرُهُ - صلى الله عليه وسلم - على ما هو فيه من سكرات الموت، وشدائده، ورضاه بذلك، وتسكين ما نزل بالسيدة فاطمة من مشاهدة ذلك بقوله: «لا كرب عَلَى أَبيكِ بَعْدَ اليَوْمِ» .
[29] وعن أبي زَيدٍ أُسَامَةَ بنِ زيدِ بنِ حارثةَ مَوْلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحِبِّه وابنِ حبِّه رضي اللهُ عنهما، قَالَ: أرْسَلَتْ بنْتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّ ابْني قَد احْتُضِرَ فَاشْهَدنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرئُ السَّلامَ، ويقُولُ: «إنَّ لله مَا أخَذَ وَلَهُ مَا أعطَى وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِأجَلٍ مُسَمًّى فَلتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» فَأَرسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيهِ لَيَأتِينَّهَا. فقامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابتٍ، وَرجَالٌ - رضي الله عنهم -، فَرُفعَ إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الصَّبيُّ، فَأقْعَدَهُ في حِجْرِهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَينَاهُ فَقالَ سَعدٌ: يَا رسولَ الله، مَا هَذَا؟ فَقالَ: «هذِهِ رَحمَةٌ جَعَلَها اللهُ تَعَالَى في قُلُوبِ
عِبَادِهِ» وفي رواية: «فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّما يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/38)
وَمَعنَى «تَقَعْقَعُ» : تَتَحرَّكُ وتَضْطَربُ.
في هذا الحديث: جوازُ استحضار أهل الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم، واستحباب إبرار القسم، وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع وهو مستشعر بالرضا مقاومًّا للحزن بالصبر , وفيه: جواز البكاء من غير نوح ونحوه.
[30] وعن صهيب - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فيمَنْ كَانَ قَبلَكمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ للمَلِكِ: إنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إلَيَّ غُلاماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ؛ فَبَعثَ إِلَيْهِ غُلاماً يُعَلِّمُهُ، وَكانَ في طرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعدَ إِلَيْه وسَمِعَ كَلامَهُ فَأعْجَبَهُ، وَكانَ إِذَا أتَى السَّاحِرَ، مَرَّ بالرَّاهبِ وَقَعَدَ إِلَيْه، فَإذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذلِكَ إِلَى الرَّاهِب، فَقَالَ: إِذَا خَشيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإذَا خَشِيتَ أهلَكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ.
فَبَيْنَما هُوَ عَلَى ذلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ: اليَوْمَ أعْلَمُ السَّاحرُ أفْضَلُ أم الرَّاهبُ أفْضَلُ؟ فَأخَذَ حَجَراً، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هذِهِ الدّابَّةَ حَتَّى يَمضِي النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَها ومَضَى النَّاسُ، فَأتَى الرَّاهبَ فَأَخبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ اليَومَ أفْضَل منِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى،
وَإنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإن ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ؛ وَكانَ الغُلامُ يُبْرىءُ الأكْمَهَ وَالأَبْرصَ، ويداوي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاء. فَسَمِعَ جَليسٌ لِلملِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فأتاه بَهَدَايا كَثيرَةٍ، فَقَالَ:
(1/39)
مَا ها هُنَا لَكَ أَجْمعُ إنْ أنتَ شَفَيتَنِي، فَقَالَ: إنّي لا أشْفِي أحَداً إِنَّمَا يَشفِي اللهُ تَعَالَى، فَإنْ آمَنْتَ بالله تَعَالَى دَعَوتُ اللهَ فَشفَاكَ، فَآمَنَ بالله تَعَالَى فَشفَاهُ اللهُ تَعَالَى، فَأَتَى المَلِكَ فَجَلسَ إِلَيْهِ كَما كَانَ يَجلِسُ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَنْ رَدّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيري؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الغُلامِ، فَجيء بالغُلاَمِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: أيْ بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرئ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ! فَقَالَ: إنِّي لا أَشْفي أحَداً، إِنَّمَا يَشفِي الله تَعَالَى. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهبِ؛ فَجِيء بالرَّاهبِ فَقيلَ لَهُ: ارجِعْ عَنْ دِينكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالمِنْشَارِ فَوُضِعَ المِنْشَارُ في مَفْرق رَأسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَليسِ المَلِكِ فقيل لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوضِعَ المِنْشَارُ في مَفْرِق رَأسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بالغُلاَمِ فقيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينكَ، فَأَبَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الجَبَل، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذِرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلا فَاطْرَحُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أكْفنيهمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بهِمُ الجَبلُ فَسَقَطُوا، وَجاءَ يَمشي إِلَى المَلِكِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَا فَعَلَ أصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهمُ الله تَعَالَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ وتَوَسَّطُوا بِهِ البَحْرَ، فَإنْ
رَجعَ عَنْ دِينِهِ وإِلا فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أكْفِنيهمْ بمَا شِئْتَ، فانْكَفَأَتْ بِهمُ السَّفينةُ فَغَرِقُوا، وَجَاء يَمْشي إِلَى المَلِكِ. فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَا فعلَ أصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانيهمُ الله تَعَالَى. فَقَالَ لِلمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بقَاتلي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعيدٍ وَاحدٍ وتَصْلُبُني عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ
(1/40)
خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بسْم الله ربِّ الغُلاَمِ، ثُمَّ ارْمِني، فَإنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ قَتَلتَني، فَجَمَعَ النَّاسَ في صَعيد واحدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوقَعَ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، فَأُتِيَ المَلِكُ فقيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ والله نَزَلَ بكَ حَذَرُكَ. قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ بأفْواهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وأُضْرِمَ فيهَا النِّيرانُ وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجعْ عَنْ دِينهِ فَأقْحموهُ فيهَا، أَوْ قيلَ لَهُ: اقتَحِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءت امْرَأةٌ وَمَعَهَا صَبيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فيهَا، فَقَالَ لَهَا الغُلامُ: يَا أُمهْ اصْبِري فَإِنَّكِ عَلَى الحَقِّ!» . رواه مسلم.
«ذِروَةُ الجَبَلِ» : أعْلاهُ، وَهيَ - بكَسْر الذَّال المُعْجَمَة وَضَمِّهَا - و «القُرْقُورُ» : بضَمِّ القَافَينِ نَوعٌ مِنَ السُّفُن وَ «الصَّعيدُ» هُنَا: الأَرضُ البَارِزَةُ وَ «الأُخْدُودُ» الشُّقُوقُ في الأَرضِ كَالنَّهْرِ الصَّغير، وَ «أُضْرِمَ» : أوْقدَ، وَ «انْكَفَأتْ» أَي: انْقَلَبَتْ، وَ «تَقَاعَسَتْ» : تَوَقفت وجبنت.
قال القُرطبي: اسم الغلام عبد الله بن ثامر. وذُكر عن ابن عباس أَن الملك كان بنجران.
وفي هذا الحديث: إِثبات كرامة الأَولياء. وفيه: نصرُ مَنْ توكل على الله سبحانه، وانتصر وخرج عن حَوْل نفسه وقواها. وفيه: أَنَّ أَعمى القلب لا يبصر الحق. وفيه: بيان شرف الصبر والثبات على الدِّين.
(1/41)
[31] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: مَرَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ تَبكي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: «اتّقِي الله واصْبِري» فَقَالَتْ: إِليْكَ عَنِّي؛ فإِنَّكَ لم تُصَبْ بمُصِيبَتي وَلَمْ تَعرِفْهُ، فَقيلَ لَهَا: إنَّه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَتْ بَابَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابينَ، فقالتْ: لَمْ أعْرِفكَ، فَقَالَ: «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ ... الأُولى» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: «تبكي عَلَى صَبيٍّ لَهَا» .
في هذا الحديث: أَن ثواب الصبر إِنَّما يحصل عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعدها، فإن صاحبها يسلو كما تسلو البهائم.
[32] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَا لعَبدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلا الجَنَّةَ» . رواه البخاري.
هذا من الأحاديث القدسية، وفيه: أَنَّ مَنْ صبر على المصيبة واحتسب
ثوابها عند الله تعالى، فإنَّ جزاءه الجنَّة.
[33] وعن عائشةَ رضيَ الله عنها: أَنَّهَا سَألَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الطّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أنَّهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً للْمُؤْمِنينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ في الطَّاعُونِ فيمكثُ في بلدِهِ صَابراً مُحْتَسِباً يَعْلَمُ أنَّهُ لا يصيبُهُ إلا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ إلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ الشّهيدِ. رواه البخاري.
(1/42)
في هذا الحديث: فَضْلُ الصبر على الأَقدار والاحتساب لثوابها.
قال بعض العلماء: إِنَّ الصابر في الطاعون يأمن من فَتَّان القبر؛ لأَنه نظير المرابطة في سبيل الله. وقد صحَّ ذلك في المرابط كما في (مسلم) وغيره.
[34] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الله - عز وجل -، قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عبدي بحَبيبتَيه فَصَبرَ عَوَّضتُهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ» يريد عينيه، رواه البخاري.
في هذا الحديث القدسي: أَن من صبر على فقد بصره واحتسب أجره عند الله تعالى: عَوَّضه عن ذلك الجنة.
[35] وعن عطَاء بن أبي رَباحٍ قَالَ: قَالَ لي ابنُ عَباسٍ رضي اللهُ عنهما: ألا أُريكَ امْرَأةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّة؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هذِهِ المَرْأةُ السَّوداءُ أتتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إنّي أُصْرَعُ، وإِنِّي أتَكَشَّفُ، فادْعُ الله تَعَالَى لي. قَالَ: «إنْ شئْتِ صَبَرتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإنْ شئْتِ دَعَوتُ الله تَعَالَى أنْ
يُعَافِيكِ» فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إنِّي أتَكَشَّفُ فَادعُ الله أنْ لا أَتَكَشَّف، فَدَعَا لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/43)
في هذا الحديث: فَضْلُ الصبر على البلاء، وعظم ثواب مَنْ فَوَّض أَمره إلى الله تعالى.
[36] وعن أبي عبد الرحمنِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَأَنِّي أنْظُرُ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبِيّاً مِنَ الأَنْبِياءِ، صَلَواتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ، ضَرَبه قَوْمُهُ فَأدْمَوهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَومي، فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمونَ» . مُتَّفَقٌ علَيهِ.
في هذا الحديث: فضلُ الصبر على الأَذي، ومقابلة الإِساءة والجهل بالإحسان والحِلْم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 35} [فُصِّلت (35) ] .
[37] وعن أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ رضيَ الله عنهما، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «مَا يُصيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ، وَلا حَزَنٍ، وَلا أذَىً، وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا إلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَاياهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
و «الوَصَبُ» : المرض.
في هذا الحديث: أَنَّ الأمراض وغيرها من المؤذيات مُطهرةٌ للمؤمن من الذنوب، فَيَنْبَغِي الصَّبرُ على ذلك ليحصل له الأَجرُ، والمصاب مَنْ حُرِم الثواب.
[38] وعن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: دخلتُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يُوعَكُ، فقلت: يَا رسُولَ الله، إنَّكَ تُوْعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، قَالَ: «أجَلْ، إنِّي أوعَكُ كمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُمْ» . قلْتُ: ذلِكَ أن لَكَ أجْرينِ؟ قَالَ: «أَجَلْ، ذلِكَ كَذلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصيبُهُ أذىً، شَوْكَةٌ فَمَا فَوقَهَا إلا كَفَّرَ اللهُ بهَا سَيِّئَاتِهِ، وَحُطَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَ (الوَعْكُ) : مَغْثُ الحُمَّى، وَقيلَ: الحُمَّى.
أَجَلْ: جوابٌ مثل نعم، إِلا أَنَّه أَحسن من نعم في التصديق، ونعم، أَحسن في الاستفهام.
وفي هذا الحديث: فضل الصبر على الأَمراض والأَعراض، وأَنها تُكَفِّر السيِّئات، وتحط الذنوب.
(1/44)
وفي الحديث الآخر: «أّشدُّ الناس بلاءً الأَنبياء، ثم الأَمثل، فالأَمثل» .
[39] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ» . رواه البخاري.
وَضَبَطُوا «يُصِبْ» بفَتْح الصَّاد وكَسْرها.
في هذا الحديث: أَنَّ المؤمن لا يخلو من عِلَّة أَو قلة، أَو ذلّة، وذلك خير له حالاً ومآلاً. قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة (155) ] .
[40] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوتَ لضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فاعلاً، فَليَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيني مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيراً لِي، وَتَوفّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيراً لي» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: النهي عن تمنِّي الموت جزعًا من البلاء الدنيوي، بل يصبر على قدر الله ويسأَله العافية، ويفوِّض أَمره إِلى الله.
[41] وعن أبي عبد الله خَبَّاب بنِ الأَرتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى ... رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ متَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظلِّ الكَعْبَةِ، فقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ألا تَدْعُو لَنا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الأرضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُجْعَلُ
(1/45)
نصفَينِ، وَيُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحَديدِ مَا دُونَ لَحْمِه وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأَمْر حَتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَموتَ ... لا يَخَافُ إلا اللهَ والذِّئْب عَلَى غَنَمِهِ، ولكنكم تَسْتَعجِلُونَ» . رواه البخاري.
وفي رواية: «وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَقَدْ لَقِينا مِنَ المُشْرِكِينَ شدَّةً» .
في هذا الحديث: مَدْحُ الصبر على العذاب في الدين، وكراهة الاستعجال. قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة (214) ] .
[42] وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَومُ حُنَينٍ آثَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نَاساً في القسْمَةِ، فَأعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابسٍ مئَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَة بْنَ حصن مِثْلَ ذلِكَ، وَأَعطَى نَاساً مِنْ أشْرافِ العَرَبِ وآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ في القسْمَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: واللهِ إنَّ هذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُريدَ فيهَا وَجْهُ اللهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لأُخْبِرَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَيْتُهُ فَأخْبَرتُهُ بمَا قَالَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كالصِّرْفِ. ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لم يَعْدِلِ ... اللهُ وَرسولُهُ؟» ثُمَّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبر» . فَقُلْتُ: لا جَرَمَ لا أرْفَعُ إِلَيْه بَعدَهَا حَدِيثاً. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَقَوْلُهُ: «كالصِّرْفِ» هُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ المُهْمَلَةِ: وَهُوَ صِبْغٌ أحْمَر.
في هذا الحديث: استحبابُ الإِعراض عن الجاهل والصفح عن الأَذى والتأَسِّي بمن مضى من الصالحين، قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان (63) ] .
(1/46)
[43] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَرَادَ الله بعبدِهِ الخَيرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدِهِ الشَّرَّ أمْسَكَ عَنْهُ بذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يومَ القِيَامَةِ» .
وَقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن» .
في هذا الحديث: الحثُّ على الصبر على ما تجري به الأَقدار، وأَنه خيرٌ للناس في الحال والمآل، فمن صبر فاز، ومن سخط فاته الأَجر وثبت عليه الوِزْر، ومضى فيه القدر.
[44] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ ابنٌ لأبي طَلْحَةَ - رضي الله عنه - يَشتَكِي، فَخَرَجَ أبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أمُّ سُلَيم وَهِيَ أمُّ الصَّبيِّ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إليه العَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ منْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَتْ: وَارُوا الصَّبيَّ فَلَمَّا أَصْبحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرَهُ، فَقَالَ: «أعَرَّسْتُمُ اللَّيلَةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا» ، فَوَلَدَتْ غُلاماً، فَقَالَ لي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَراتٍ، فَقَالَ: «أَمَعَهُ شَيءٌ؟» قَالَ: نَعَمْ، تَمَراتٌ، فَأخَذَهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا في فِيِّ الصَّبيِّ، ثُمَّ حَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبدَ الله. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية للبُخَارِيِّ: قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصارِ:
(1/47)
فَرَأيْتُ تِسعَةَ أوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَؤُوا القُرْآنَ، يَعْنِي: مِنْ أوْلادِ عَبدِ الله المَولُودِ.
وَفي رواية لمسلمٍ: مَاتَ ابنٌ لأبي طَلْحَةَ مِنْ أمِّ سُلَيمٍ، فَقَالَتْ لأَهْلِهَا: لا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْه عَشَاءً
فَأَكَلَ وَشَرِبَ، ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا. فَلَمَّا أَنْ رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وأَصَابَ مِنْهَا، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَرَأَيتَ لو أنَّ قَوماً أعارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيتٍ فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أن يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لا، فَقَالَتْ: فَاحْتَسِبْ ابْنَكَ، قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: تَرَكْتِني حَتَّى إِذَا تَلطَّخْتُ، ثُمَّ أخْبَرتني بِابْنِي؟! فانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى ... رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرَهُ بِمَا كَانَ فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَارَكَ اللهُ في لَيْلَتِكُمَا» ، قَالَ: فَحَمَلَتْ. قَالَ: وَكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ وَهيَ مَعَهُ، وَكَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَى المَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ لا يَطْرُقُهَا طُرُوقاً فَدَنَوا مِنَ المَدِينَة، فَضَرَبَهَا المَخَاضُ، فَاحْتَبَسَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ، وانْطَلَقَ ... رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ: يَقُولَ أَبُو طَلْحَةَ: إنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا رَبِّ أَنَّهُ يُعْجِبُنِي أنْ أخْرُجَ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ وَأَدْخُلَ مَعَهُ إِذَا دَخَلَ وَقَدِ احْتَبَسْتُ بِمَا تَرَى، تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، مَا أَجِدُ الَّذِي كُنْتُ أجدُ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا وَضَرَبَهَا المَخَاضُ حِينَ قَدِمَا فَوَلدَت غُلامَاً. فَقَالَتْ لِي أمِّي: يَا أنَسُ، لا يُرْضِعْهُ أحَدٌ حَتَّى تَغْدُو بِهِ عَلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أصْبَحَ احْتَمَلْتُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وَذَكَرَ تَمَامَ الحَدِيثِ.
(1/48)
في هذا الحديث: فَضْلُ الصبر والتسليم لأَمر الله تعالى، وأَنِّ مَنْ فعل ذلك رجي له الإِخلاف في الدنيا، والأَجر في الآخرة كما في الدُّعاء المأثور: « (اللهم أَجرني في مصيبتي، واخلف لِي خيرًا منها» .
وفيه: التسلية عن المصائب، وتزين المرأَة لزوجها، واجتهادها في عمل مصالحه، ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورةُ إليها، ولم يترتب عليها إِبطالُ حق.
وفيه: أَنَّ مَنْ ترك شيئًا لله عوضه اللهُ خيرًا منه.
[45] وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَملكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«وَالصُّرَعَةُ» : بضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وأَصْلُهُ عِنْدَ العَرَبِ مَنْ يَصْرَعُ النَّاسَ كَثيراً.
في هذا الحديث: مَدْح من يملك نفسه عند الغضب. قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران (134) ] .
والغضب: جماع الشر، والتحرز منه جماع الخير، وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني. قال: «لا تغضب» ، فردَّد مرارًا. قال: «لا تغضب» .
وقال عمر بن عبد العزيز: قد أَفْلح مَنْ عُصِم من الهوى، والغضب، والطمع.
(1/49)
[46] وعن سُلَيْمَانَ بن صُرَدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ جالِساً مَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَجُلانِ يَسْتَبَّانِ، وَأَحَدُهُمَا قدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، وانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ، فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ:
أعُوذ باللهِ منَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، ذَهَبَ عنْهُ مَا يَجِدُ» . فَقَالُوا لَهُ: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَعَوّذْ باللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: أن الشيطان هو الذي يثير الغضب ويشعل النار، وأن دواءه الاستعاذة. قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الاعراف (200) ] .
[47] وعن معاذِ بنِ أَنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيظاً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالى عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَومَ القِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الحُورِ العِينِ مَا شَاءَ» . رواه أَبو داود والترمذي، وَقالَ: (حديث حسن) .
رُوى أنَّ الحسين بن علي رضي الله عنهما كان له عبدٌ يقوم بخدمته ويقرب إليه طهره، فقرب إليه طهره ذات يوم في كُوز، فلما فَرَغ الحسين من طهوره رفع العبدُ الكوز من بين يديه، فأصاب فم الكوز رباعية الحسين فكسرها، فنظر إليه الحسين، فقال العبد: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال: قد كظمتُ غيظي. فقال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} . قال: قد عفوت عنك. قال: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.
(1/50)
[48] وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً قَالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصِني. قَالَ: «لا تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِراراً، قَالَ: «لا تَغْضَبْ» . رواه البخاري.
هذه وصيةٌ وجيزة نافعة؛ لأَنَّ الغضب يجمع الشرَّ كله، وهو باب من من مداخل الشيطان. وفي الحديث دليلٌ على عظم مفسدة الغضب، وما
ينشأ منه؛ لأَنه يُخرج الإِنسان عن اعتداله فيتكلم بالباطل، ويفعل المذموم والقبيح.
[49] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَزَالُ البَلاَءُ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حديث حسن صحيح) .
في هذا الحديث: أنَّ المصائبَ والمتاعب النازلة بالمؤمن الصابر من المرض، والفقر، وموت الحبيب، وتلف المال، ونقصه: مكفَّرات لخطاياه كلها.
[50] وعن ابْنِ عباسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمرُ - رضي الله عنه -، وَكَانَ القُرَّاءُ أصْحَابَ مَجْلِس عُمَرَ - رضي الله عنه - وَمُشاوَرَتِهِ كُهُولاً كانُوا أَوْ شُبَّاناً، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أخيهِ: يَا ابْنَ أخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيهِ، فاسْتَأذَن فَأذِنَ لَهُ عُمَرُ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: هِي يَا ابنَ الخَطَّابِ، فَواللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ
(1/51)
وَلا تَحْكُمُ فِينَا بالعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ - رضي الله عنه - حَتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أميرَ المُؤْمِنينَ، إنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف (199) ] وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، واللهِ مَا جَاوَزَهاَ عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا، وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. رواه البخاري.
في هذا الحديث: أَنَّه ينبغي لولي الأَمر مجالسة القراء والفقهاء ليذكروه إذا نسي، ويعينوه إذا ذكر. وفيه: الحِلْم والصفح عن الجهال.
قال جعفر الصادق: ليس في القرآن آيةٌ أَجمع لمكارم الأخلاق من هذه. ورُوي أَنَّ جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ ربَّك يأمرك أن تصل مَنْ قطعك، وتُعطي مَنْ حرمك، وتعفوَ عَمَّن ظلمك» .
والخطاب له - صلى الله عليه وسلم - يدخل في حكمه أُمَّته.
[51] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهَا سَتَكونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَها!» قَالُوا: يَا رَسُول الله، فَمَّا تَأْمُرُنا؟ قَالَ: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسأَلُونَ الله الَّذِي لَكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«وَالأَثَرَةُ» : الانْفِرادُ بالشَّيءِ عَمنَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ.
في هذا الحديث: الصَّبْر على جَور الولاة، وإِن استأثروا بالأَموال، فإن الله سائلهم عما استرعاهم.
[52] وعن أبي يحيى أُسَيْد بن حُضَير - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً مِنَ الأنْصارِ قَالَ:
يَا رسولَ الله، ألا تَسْتَعْمِلُني كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاناً، فَقَالَ:
(1/52)
«إنكُمْ سَتَلْقَونَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوني عَلَى الحَوْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«وَأُسَيْدٌ» : بضم الهمزة. «وحُضيْرٌ» : بحاءٍ مهملة مضمومة وضاد معجمة مفتوحة، والله أعلم.
قيل: إِنَّ وجه المناسبة بين الجواب والسؤال أَنَّ من شأن العامل الاستئثار إِلا مَنْ عصم الله، فَأشفق عليه - صلى الله عليه وسلم - مِن أَن يقع فيما يقع فيه بعضُ من يأتي
بعده من الملوك، فَيَسْتأثر على ذوي الحقوق، وهذا من جملة معجزاته - صلى الله عليه وسلم - فقد وقع كما أَخبر.
[53] وعن أبي إبراهيم عبدِ الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعْضِ أيامِهِ التي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، انْتَظَرَ حَتَّى إِذَا مالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فيهمْ، فَقَالَ: «يَا أيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا الله العَافِيَةَ، فَإِذَا لقيتُمُوهُمْ فَاصْبرُوا، وَاعْلَمُوا أنّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيوفِ» .
ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانصُرْنَا عَلَيْهمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وبالله التوفيق.
في هذا الحديث: الدعاء حال الشدائد، والخروج من الحول والقوة، والنهي عن تمنِّي لقاء العدو، والأَمر بالصبر والثبات عند اللقاء. وفيه: الحضُّ على الجهاد. وفيه: الجمع بين الأَخذ بالأَسباب، والتوكُّل على الله تعالى.
4- باب الصدق
قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة (119) ] .
أي: اتقوا الله بترك ما نهى عنه، وكونوا مع الصادقين في نياتهم وأعمالهم وأقوالهم.
(1/53)
وَقالَ تَعَالَى: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب (35) ] .
أي: الصادقين في جميع الأحوال.
وَقالَ تَعَالَى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد (21) ] .
أي: لو صدقوا الله في الإيمان والطاعة.
وأما الأحاديث:
[54] فالأول: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ، وإنَّ البر يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّاباً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
البر: اسم جامع للخير كله. والفجور: الأعمال السيئة.
قال القرطبي: حق على كل من فهم عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال. فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضاء الغفار. وقد أرشد تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحوال الثلاثة التائبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة (119) ] .
[55] الثاني: عن أبي محمد الحسن بنِ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما قَالَ: حَفظْتُ مِنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى
(1/54)
مَا لا يَرِيبُكَ؛ فإنَّ
الصِّدقَ طُمَأنِينَةٌ، وَالكَذِبَ رِيبَةٌ» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث صحيح» .
قوله: «يَريبُكَ» هُوَ بفتح الياء وضمها: ومعناه اتركْ مَا تَشُكُّ في حِلِّهِ وَاعْدِلْ إِلَى مَا لا تَشُكُّ فِيهِ.
معنى هذا الحديث: يرجع إلى الوقوف عند الشبهات، ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه.
وفيه إشارة إلى الرجوع إلى القلوب الطاهرة والنفوس الصافية عند الاشتباه، فإن نفس المؤمن جبلت على الطمأنينة إلى الصدق، والنفر من الكذب.
[56] الثالث: عن أبي سفيانَ صَخرِ بنِ حربٍ - رضي الله عنه - في حديثه الطويلِ في قصةِ هِرَقْلَ، قَالَ هِرقلُ: فَمَاذَا يَأَمُرُكُمْ - يعني: النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ أبو سفيانَ: قُلْتُ: يقولُ: «اعْبُدُوا اللهَ وَحدَهُ لا تُشْرِكوُا بِهِ شَيئاً، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَلاةِ، وَالصِّدْقِ، والعَفَافِ، وَالصِّلَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الصدق من أشرف مكارم الأخلاق، وهو محبوب عند الخالق والمخلوق.
والعفاف: الكف عن المحارم، وخوارم المروءة.
[57] الرابع: عن أبي ثابت، وقيل: أبي سعيد، وقيل: أبي الوليد، سهل بن حُنَيْفٍ وَهُوَ بدريٌّ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ سَأَلَ الله تَعَالَى
الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ الله مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: أنَّ من نوى شيئًا من أعمال البرّ صادقًا من قلبه أُثيب عليه، وإن لم يتفق له ذلك.
(1/55)
[58] الخامس: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «غَزَا نبيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهمْ فَقَالَ لِقَومهِ: لا يَتْبَعَنِّي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأةٍ وَهُوَ يُريدُ أنْ يَبْنِي بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلا أحَدٌ بَنَى بُيُوتاً لَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلا أحَدٌ اشْتَرَى غَنَماً أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلادَها. فَغَزا فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلاةَ العَصْرِ أَوْ قَريباً مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: إِنَّكِ مَأمُورَةٌ وَأنَا مَأمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ، فَجَمَعَ الغَنَائِمَ فَجَاءتْ - يعني النَّارَ - لِتَأكُلَهَا فَلَمْ تَطعَمْها، فَقَالَ: إنَّ فِيكُمْ غُلُولاً، فَلْيُبايعْنِي مِنْ كُلِّ قَبيلةٍ رَجُلٌ، فَلَزِقَتْ يد رجل بِيَدِهِ فَقَالَ: فِيكُمُ الغُلُولُ فلتبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فَجَاؤُوا بِرَأْس مثل رأس بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ، فَوَضَعَهَا فَجاءت النَّارُ فَأكَلَتْها. فَلَمْ تَحلَّ الغَنَائِمُ لأحَدٍ قَبْلَنَا، ثُمَّ أحَلَّ الله لَنَا الغَنَائِمَ لَمَّا رَأَى ضَعْفَنا وَعَجْزَنَا فَأحَلَّهَا لَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«الخَلِفَاتُ» بفتحِ الخَاءِ المعجمة وكسر اللامِ: جمع خِلفة وهي الناقة ... الحامِل.
في هذا الحديث: أنَّ فتن الدنيا تدعو النفس إلى الهلع ومحبةِ البقاء.
وفيه: أنَّ الأمور المهمّة لا ينبغي أن تفوَّض إلا لحازم فارغ البال لها.
قال القرطبي: نهي النبيُّ قومه عن اتباعه على أحد هذه الأحوال؛ لأنَّ أصحابها يكونون متعلقي النفوس بهذه الأسباب فتضعف عزائمهم، وتفتر رغباتهم
(1/56)
في الجهاد والشهادة، وربّما يفرط ذلك التعلّق فيفضي إلى كراهة الجهاد وأعمال الخير.
ومقصود هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرغهم من العوائق والاشتغال إلى تمنَّي الشهادة بنيِّة صادقة، وعزم حازم، ليتحصَّلوا على الحظ الأوفر والأجر الأكبر.
[59] السادس: عن أبي خالد حَكيمِ بنِ حزامٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «البَيِّعَانِ بالخِيَار مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإنْ صَدَقا وَبيَّنَا بُوركَ لَهُمَا في بيعِهمَا، وإنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بركَةُ بَيعِهِما» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: فضل الصدق والحث عليه، وذم الكذب والتحذير منه، وإنه سبب لذهاب البركة.
وفيه: دليل على ثبوت خيار المجلس للبائع والمشتري.
5- باب المراقبة
قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء (218، 219) ] .
يقول تعالى مخاطبًا لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وتوكَّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم إلى الصلاة، وتقلُّبك راكعًا وقائمًا وساجدًا وقاعدًا في الساجدين - أي: المصلين - يعني: يراك إذا صلَّيت منفردًا وإذا صلَّيت في جماعة.
والمراقبة هي أحد مقامَيْ الإحسان، وهو: أنْ تعبد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكنْ تراه فإنه يراك.
وَقالَ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} [الحديد (4) ] .
(1/57)
أي: لا ينفكّ علمه عنكم. كم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة (7) ]
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران (5) ] .
يخبر تعالى أنه يعلم غيبَ السماء والأرض لا يخفى عليه شيء من ذلك.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر (14) ] .
قال ابن كثير: وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} قال ابن عباس: يسمع ويرى. يعني: يرصد خلقه فيما يعملون، وسيجازي كلاً بسعيه في الدنيا والآخرة، وسيعرض الخلائقَ كلّهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقّه، وهو المنزّه عن الظلم والجور.
وَقالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر ... (19) ] .
قال ابن كثير: يخبر عزَّ وجلّ عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء، ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من الله تعالى حقَّ الحياء، ويتَّقوه حقَّ تقواه ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه.
والآياتُ في الْبَابِ كَثيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
كقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء وَلا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس (61) ] .
وغيرها من الآيات.
(1/58)
وأما الأحاديث:
[60] فالأول: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَومٍ، إذْ طَلَعَ عَلَينا رَجُلٌ شَديدُ بَياضِ الثِّيابِ، شَديدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيهِ أثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيهِ إِلَى رُكْبتَيهِ، وَوَضعَ كَفَّيهِ عَلَى فَخِذَيهِ.
وَقالَ: يَا مُحَمَّدُ، أخْبرني عَنِ الإسلامِ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «الإسلامُ: أنْ تَشْهدَ أنْ لا إلهَ إلا الله وأنَّ مُحمَّداً رسولُ الله، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيتَ إن اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبيلاً» . قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقهُ!
قَالَ: فَأَخْبرنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: «أنْ تُؤمِنَ باللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِر، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ» . قَالَ: صَدقت. قَالَ: فأَخْبرني عَنِ الإحْسَانِ. قَالَ: «أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ» .
قَالَ: فَأَخْبِرني عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بأعْلَمَ مِنَ ... السَّائِلِ» . قَالَ: فأخبِرني عَنْ أمَاراتِهَا. قَالَ: «أنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وأنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ» .
ثُمَّ انْطَلقَ فَلَبِثْتُ مَلِيّاً، ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، أَتَدْري مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ ورسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: «فإنَّهُ جِبْريلُ أَتَاكُمْ يعْلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» . رواه مسلم.
(1/59)
ومعنى «تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا» أيْ سَيِّدَتَهَا؛ ومعناهُ: أنْ تَكْثُرَ السَّراري حَتَّى تَلِدَ الأَمَةُ السُّرِّيَّةُ بِنْتاً لِسَيِّدِهَا وبنْتُ السَّيِّدِ في مَعنَى السَّيِّدِ وَقيلَ غَيْرُ ذلِكَ. وَ «العَالَةُ» : الفُقَراءُ. وقولُهُ: «مَلِيّاً» أَيْ زَمَناً طَويلاً وَكانَ ذلِكَ ثَلاثاً.
هذا حديث عظيم، مشتمل على جميع الأعمال الظاهرة والباطنة. وعلومُ الشريعة راجعة إليه، فهو كالأمَّ للسُّنَّة. كما سُمَّيت الفاتحة: أم القرآن.
[61] الثاني: عن أبي ذر جُنْدُب بنِ جُنادَةَ وأبي عبدِ الرحمنِ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنهما عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ وَأتْبعِ
السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حديث حسن) .
هذه وصية عظيمة جامعة لحقوق الله تعالى وحقوق عباده، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} [النساء (131) ] ، وتقوى الله تعالى: طاعته، بامتثال أمره واجتناب نهيه.
وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود (114، 115) ] .
وقال ابن المبارك: حُسْن الخُلُق: بسط الوجه، وبذلُ المعروف، وكفّ الأذى.
وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصّى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، فقال عزَّ وجلّ: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
(1/60)
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران (133: 136) ] .
[62] الثالث: عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كنت خلف النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فَقَالَ: «يَا غُلامُ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ.
وَاعْلَمْ: أنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيءٍ قَدْ كَتَبهُ اللهُ لَكَ، وَإِن اجتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحفُ» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن صحيح» .
وفي رواية غيرِ الترمذي: «احْفَظِ الله تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعرَّفْ إِلَى اللهِ في الرَّخَاءِ يَعْرِفكَ في الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ: أنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبكَ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ: أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً» .
هذا الحديث أصل عظيم في مراقبة الله، ومراعاة حقوقه، والتفويض لأمره، والتوكل عليه، وشهود توحيده وتفرُّده، وعجز الخلائق كلَّهم وافتقارهم إليه.
[63] الرابع: عن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: إِنَّكُمْ لَتعمَلُونَ أعْمَالاً هي أدَقُّ في أعيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المُوبِقاتِ. رواه البخاري.
وَقالَ: «المُوبقاتُ» : المُهلِكَاتُ.
(1/61)
في هذا الحديث: كمال مراقبة الصحابة رضي الله عنهم لله تعالى، وكمال استحيائهم منه.
وفيه: أنَّ الإنسان ينبغي له أن يحذر من صغار الذنوب، فلعلها تكون المهلكة له في دينه.
كما يتحرز من يسير السموم خشية أن يكون فيها حتفه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر (28) ] .
وفي الحديث: «إن المؤمن يرى ذنبه كأنه صخرة يخاف أن تقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كأنه ذباب مرّ على أنفه» .
[64] الخامس: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الله تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيرَةُ الله تَعَالَى، أنْ يَأتِيَ المَرْءُ مَا حَرَّمَ الله عَلَيهِ» . متفق عَلَيهِ.
و «الغَيْرةُ» : بفتحِ الغين، وَأَصْلُهَا الأَنَفَةُ.
في هذا الحديث: مراقبة الله تعالى والخوف من غضبه وعقوبته إذا انتُهكت محارمه.
[65] السادس: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، يقُولُ: «إنَّ ثَلاثَةً مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ: أبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، أَرَادَ اللهُ أنْ يَبْتَليَهُمْ فَبَعَثَ إِليْهمْ مَلَكاً، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسنٌ، وَجِلدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَوناً حَسنَاً وجِلْدًا حَسَنًا. فَقَالَ: فَأيُّ
(1/62)
المَالِ أَحَبُّ إِليكَ؟ قَالَ: الإِبلُ - أَوْ قالَ: البَقَرُ شكَّ الرَّاوي - فَأُعطِيَ نَاقَةً
عُشَرَاءَ، فَقَالَ: بَاركَ الله لَكَ فِيهَا. فَأَتَى الأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذِرَني النَّاسُ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهبَ عَنْهُ وأُعْطِيَ شَعراً حَسَناً. قالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً، وَقالَ: بَارَكَ الله لَكَ فِيهَا.
فَأَتَى الأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدَّ الله إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ؛ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرهُ. قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ؟ قَالَ: الغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً والداً، فَأَنْتَجَ هذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكانَ لِهذَا وَادٍ مِنَ الإِبلِ، وَلِهذَا وَادٍ مِنَ البَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ.
ثُمَّ إنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيئَتِهِ، فَقَالَ: رَجلٌ مِسْكينٌ قَدِ انقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَري فَلا بَلاغَ لِيَ اليَومَ إلا باللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذي أعْطَاكَ اللَّونَ الحَسَنَ، والجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيراً أَتَبَلَّغُ بِهِ في سَفَري، فَقَالَ: الحُقُوقُ كثِيرةٌ. فَقَالَ: كأنِّي اعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فقيراً فأعْطَاكَ اللهُ!؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المالَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ الله إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذا، وَرَدَّ عَلَيهِ مِثْلَ مَا رَدَّ هَذَا، فَقَالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَعْمَى في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكينٌ وابنُ سَبيلٍ انْقَطَعتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاَغَ لِيَ اليَومَ إلا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَركَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سَفري؟ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أعمَى فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللهِ
(1/63)
لا أجْهَدُكَ اليَومَ
بِشَيءٍ أخَذْتَهُ للهِ - عز وجل -. فَقَالَ: أمْسِكْ مالَكَ فِإنَّمَا ابْتُلِيتُمْ. فَقَدْ رضي الله عنك، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
و «النَّاقةُ العُشَرَاءُ» بضم العين وفتح الشين وبالمد: هي الحامِل. قوله: «أنْتَجَ» وفي رواية: «فَنتَجَ» معناه: تولَّى نِتاجها، والناتج لِلناقةِ كالقابِلةِ للمرأةِ. وقوله: «وَلَّدَ هَذَا» هُوَ بتشديد اللام: أي تولى ولادتها، وَهُوَ بمعنى أنتج في الناقة، فالمولّد، والناتج، والقابلة بمعنى؛ لكن هَذَا لِلحيوان وذاك لِغيرهِ. وقوله: «انْقَطَعَتْ بي الحِبَالُ» هُوَ بالحاءِ المهملةِ والباءِ الموحدة: أي الأسباب. وقوله: «لا أجْهَدُكَ» معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أَوْ تطلبه من مالي. وفي رواية البخاري: «لا أحمَدُكَ» بالحاءِ المهملة والميمِ ومعناه: لا أحمدك بترك شيء تحتاج إِلَيْه، كما قالوا: لَيْسَ عَلَى طولِ الحياة ندم: أي عَلَى فواتِ طولِها.
في هذا الحديث: التحذير من كفران النعم، والترغيب في شكرها، والاعتراف بها، وحمد الله عليها.
وفيه: فضل الصدقة، والحث على الرفق بالضعفاء، وإكرامهم وتبليغهم مآربهم.
وفيه: الزجرُ عن البخل؛ لأنه حمل صاحبه على الكذب وعلى جحد نعمة الله تعالى.
[66] السابع: عن أبي يعلى شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بعدَ المَوتِ، والعَاجِزُ
(1/64)
مَنْ أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وَتَمنَّى عَلَى اللهِ» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن» .
قَالَ الترمذي وغيره من العلماء: معنى «دَانَ نَفْسَهُ» : حاسبها.
الكَيِّس: العاقل، وهو الذي يمنع نفسه عن الشهوات المحرمة ويعمل بطاعة الله تعالى. والعاجز: هو التارك لطاعة الله المتمنِّي على الله. قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء (123، 124) ] .
[67] الثامن: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ» . حديث حسن. رواه الترمذي وغيرُه.
هذا الحديث أصل عظيمٌ من أصول الأدب.
قيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صِدْقُ الحديث، وأداء الأمانة، وترْكُ ما لا يعنيني.
وقال سهل بن عبد الله التُّسْتَري: مَن تكلَّم فيما لا يعنيه حُرم الصدق. ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أول من يدخل عليكم رجل من أهل ... الجنة» ، فدخل عليهم عبد الله بن سلام، فقام إليه ناسٌ فأخبروه، وقالوا
له: أخبرنا بأوثق عملك في نفسك؟ قال: إن عملي لضعيف، وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر، وتركي ما لا يعنيني.
قال الغزالي: حدُّ ما لا يعنيك في الكلام: أنْ تتكلَّم بما لو سَكَتَّ عنه لم تأثم، ولم تتضرر حالاً ولا مآلاً.
(1/65)
[68] التاسع: عن عُمَرَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ» . رواه أبو داود وغيره.
أي: لا يُسأل بأي سبب ضرب امرأته، لإحتمال أنْ يكون السبب مما يُستحيا من ذكره، كالامتناع من التمكين، بل يترك ذلك إليه وإلى مراقبته لمولاه، إلا إن احتاج الأمر إلى الرفع إلى الحكام. قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء (34) ] .
6- باب التقوى
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران (102) ] .
وَقالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن (16) ] . وهذه الآية مبينة للمراد مِنَ الأُولى.
التقوى: امتثال أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه حسب الطاقة، وأصلها في اللغة: اتخاذ وقاية تقيك مما تخافه وتحذره.
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب (70، 71) ] ، وَالآيات في الأمر بالتقوى كثيرةٌ معلومةٌ.
قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، وأنْ يعبدوه عبادةً
(1/66)
مَنْ كأنه يراه، وأنْ يقولوا قولاً سديدًا، أي: مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأنْ يصلح لهم أعمالهم، أي: يوفِّقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل، يلهمهم التوبة منها.
ثم قال: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب (71) ] ، وذلك أنه يُجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم.
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق (2، 3) ] .
قال ابن كثير: أي: ومن يتق الله فيما أمره به وتركَ ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي: من جهة لا تخطر بباله.
وفي (المسند) عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» .
وَقالَ تَعَالَى: {إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال (29) ] والآيات في البابِ كثيرةٌ معلومةٌ.
قال ابن إسحاق: فرقانًا: أي: فصلاً بين الحق والباطل.
قال ابن كثير: فإنَّ من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وُفِّقَ لمعرفة الحق من الباطل، فكان ذلك سببَ نصره ونجاته، ومخرجه من أمور الدنيا،
(1/67)
وسعادته يوم القيامة، وتكفير ذنوبه، وهو محوها وغفرها وسترها عن الناس، وسببًا لنيل ثواب الله الجزيل.
وأما الأحاديث:
[69] فالأول: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ الله، مَنْ أكرمُ النَّاس؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ» . فقالوا: لَيْسَ عن هَذَا نسألُكَ، قَالَ: ... «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابنُ نَبِيِّ اللهِ ابنِ نَبيِّ اللهِ ابنِ خليلِ اللهِ» قالوا: لَيْسَ عن هَذَا نسألُكَ، قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلوني؟ خِيَارُهُمْ في الجَاهِليَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إِذَا فقُهُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
و «فَقُهُوا» بِضم القافِ عَلَى المشهورِ وَحُكِيَ كَسْرُها: أيْ عَلِمُوا أحْكَامَ الشَّرْعِ.
أي: أنَّ أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية هم أصحابها في الإِسلام إذا علموا أحكام الشرع.
[70] الثَّاني: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ
الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرةٌ، وإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاء؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسرائيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ.
رواه مسلم.
في هذا الحديث: التحذيرُ من الاغترار بالدنيا، والميل إلى النساء، فإنهما فتنة لكل مفتون.
[71] الثالث: عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسألُكَ الهُدَى، وَالتُّقَى، وَالعَفَافَ، وَالغِنَى» . رواه مسلم.
الهدى: الرشاد.
(1/68)
والتقى: امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
والعفاف: التنزه عما لا يباح، وما لا يليق بالمروءة.
والغنى: غنى النفس، والاغتناء عما في أيدي الناس.
وفيه: شرف هذه الخصال والالتجاء إلى الله في سائر الأحوال.
[72] الرابع: عن أبي طريفٍ عدِيِّ بن حاتمٍ الطائيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى أتْقَى للهِ مِنْهَا فَليَأتِ التَّقْوَى» . رواه مسلم.
يعني أن من حلفَ على فعل شيء أو تركه، فرأى غيره خيرًا من التمادي على اليمين واتقى الله، فَعَلَهُ وَكفَّر عن يمينه.
[73] الخامس: عن أبي أُمَامَةَ صُدَيّ بنِ عجلانَ الباهِلِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ في حجةِ الوداعِ، فَقَالَ: «اتَّقُوا الله وَصلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا أُمَرَاءكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» . رواه الترمذي، في آخر كتابِ الصلاةِ، وَقالَ: (حديث حسن صحيح) .
بدأ بالتقوى لأنها الأساس؛ لتناولها فعل سائر المأمورات، وترك سائر المناهي، وعطف عليها ما بعدها وهو من عطف العام على الخاص، والله أعلم.
7- باب في اليقين والتوكل
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب (22) ] .
أي: ما زادهم الابتلاء إلا تصديقًا بوعد الله وتسليمًا لأمره.
(1/69)
وَقالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران (173: 174) ] .
يمدح تعالى المؤمنينَ الذين استجابوا لله والرسول بأنَّ تخويف الناس لهم زادهم تصديقًا ويقينًا وقوة، وقالوا: {حَسْبُنَا اللهُ} ، أي: كافينا الله. {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: الموكول إليه الأمور.
وَقالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان (58) ] .
وفيه: إشارة إلى أنَّ من توكل على غير الله فقد ضاع؛ لأنه يموت. قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص (88) ] .
وَقالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم (11) ] .
إذ هو الحي القيوم.
وَقالَ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران (159) ] .
أي: إذا عزمت على إمضاء ما تريد بعد المشاورة، فتوكل على الله، أي: ثِقْ به لا بالمشاورة.
والآيات في الأمرِ بالتوكلِ كثيرةٌ معلومةٌ.
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق (3) ] : أي كافِيهِ.
في هذه الآية والتي بعدها فضل التوكل وثمراته.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال (2) ] .
(1/70)
أي: يفوضون أمورهم إليه. وهذه الآية صفة المؤمنين حقًّا.
قال عمير بن حبيب: إنَّ للإِيمان زيادة ونقصانًا. قيل: فما زيادته؟ قال: إذا ذكرنا الله عزَّ وجلّ وحمدناه فذلك زيادته. وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه.
والآيات في فَضْلِ التَّوَكُّل كثيرةٌ مَعْرُوفَةٌ.
وأما الأحاديث:
[74] فالأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأيْتُ النَّبيّ ومَعَهُ الرُّهَيطُ، والنبي وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، والنبيَّ ولَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظيمٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي فقيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وَقَومُهُ، ولكنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَنَظَرتُ فَإِذا سَوادٌ عَظِيمٌ، فقيلَ لي: انْظُرْ إِلَى الأفُقِ الآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظيمٌ، فقيلَ لِي: هذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ ألفاً يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ» ، ثُمَّ نَهَضَ فَدخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ في أُولئكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمْ الَّذينَ صَحِبوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَقالَ بعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا في الإِسْلامِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله شَيئاً - وذَكَرُوا أشيَاءَ - فَخَرجَ عَلَيْهِمْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟» فَأَخْبَرُوهُ فقالَ: «هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ، وَلا يَسْتَرقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ؛ وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوكَّلُون» فقامَ عُكَّاشَةُ بنُ محصنٍ، فَقَالَ: ادْعُ الله أنْ يَجْعَلني مِنْهُمْ، فَقَالَ: «أنْتَ
مِنْهُمْ» . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/71)
«الرُّهَيْطُ» بضم الراء تصغير رهط: وهم دون عشرة أنفس، ... وَ «الأُفقُ» الناحية والجانب. و «عُكَّاشَةُ» بضم العين وتشديد الكاف وبتخفيفها، والتشديد أفصح.
قوله: «لا يرقون ولا يسترقون» ، أي: لا يرقون غيرهم بالرقية المكروهة ولا يطلبون من الغير أن يرقاهم توكُّلاً على الله. فالرقية مباحة ولا كراهة فيها إذا كانت بالقرآن أو الأدعية المعروفة. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا» .
قال القرطبي: الرقى والاسترقاء: ما كان منه برقى الجاهلية أو بما لا يُعرف فواجب اجتنابه على سائر المسلمين.
[75] الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقول: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَليْك تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ. اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بعزَّتِكَ؛ لا إلهَ إلا أَنْتَ أنْ تُضلَّني، أَنْتَ الحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وَالجِنُّ والإنْسُ يَمُوتُونَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ مسلم واختصره البخاري.
قوله: «اللهم لك أسلمت» ، أي: استسلمت لحكمك وأمرك، وسلمتُ: رضيتُ وآمنتُ وصدقتُ وأيقنتُ.
وفي الحديث: الالتجاء إلى الله والاعتصام به، فمن اعتزَّ بغير الله ذلّ، ومن اهتدى بغير هدايته ضلّ، ومن اعتصم بالله تعالى وتوكَّل عليه عظُم وجلّ.
[76] الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، قَالَ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبرَاهيمُ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُلقِيَ في النَّارِ، وَقَالَها
(1/72)
مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيْماناً وَقَالُوا: حَسْبُنَا الله ونعْمَ الوَكيلُ. رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ آخر قَول إبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِي الله ونِعْمَ الوَكِيلُ.
قوله: {حسبنا الله} ، أي: هو كافينا. {ونعم الوكيل} ، أي: الموكول إليه الأمور.
ورُوي أنَّ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لما أرادوا إلقاءه في النار، رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللَّهُمَّ أنت الواحدُ في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس أحدٌ يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل» . فقال الله عزَّ وجلّ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} .
[77] الرابع: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَقْوامٌ أفْئِدَتُهُمْ مِثلُ أفْئِدَةِ الطَّيرِ» . رواه مسلم.
قيل: معناه متوكلون، وقيل: قلوبهم رَقيقَةٌ.
هذا الحديث أصلٌ عظيم في التوكل. وحقيقته: هو الاعتماد على الله عزَّ وجلّ في استجلاب المصالح ودفع المضار.
قال سعيد بن جبير: التوكُّل جماع الإِيمان.
واعلم أنَّ التوكُّل لا ينافي السعي في الأسباب، فإنَّ الطير تغدو في طلب رزقها. وقد قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ ... رِزْقُهَا} [هود (6) ] .
(1/73)
قال يوسف بن أسباط: كان يقال: اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتوكَّل توكُّل رجل لا يصيبه إلا ما كُتب له.
وفي حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لن تموتَ نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلَّ ودعوا ما حرم» .
[78] الخامس: عن جابر - رضي الله عنه -: أَنَّهُ غَزَا مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قِبلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَفَلَ معَهُمْ، فَأَدْرَكَتْهُمُ القَائِلَةُ في وَادٍ كثير العِضَاه، فَنَزَلَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - تَحتَ سَمُرَة فَعَلَّقَ بِهَا سَيفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: «إنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيفِي وَأنَا نَائمٌ فَاسْتَيقَظْتُ وَهُوَ في يَدِهِ صَلتاً، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: الله - ثلاثاً-» وَلَمْ يُعاقِبْهُ وَجَلَسَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية قَالَ جَابرٌ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بذَاتِ الرِّقَاعِ، فَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رَجُلٌ مِنَ المُشْركينَ
وَسَيفُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - معَلَّقٌ بالشَّجَرَةِ فَاخْتَرطَهُ، فَقَالَ: تَخَافُنِي؟ قَالَ: «لا» . فَقَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «الله» .
وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في " صحيحه "، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
قَالَ: «اللهُ» . قَالَ: فَسَقَطَ السيفُ مِنْ يَدهِ، فَأخَذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السَّيْفَ، فَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ مني؟» . فَقَالَ: كُنْ خَيرَ آخِذٍ. فَقَالَ: «تَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وَأَنِّي رَسُول الله؟» قَالَ: لا، وَلَكنِّي أُعَاهِدُكَ أنْ
(1/74)
لا أُقَاتِلَكَ، وَلا أَكُونَ مَعَ قَومٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبيلَهُ، فَأَتَى أصْحَابَهُ، فَقَالَ: جئتُكُمْ مِنْ عنْد خَيْرِ النَّاسِ.
قَولُهُ: «قَفَلَ» أي رجع، وَ «الْعِضَاهُ» الشجر الَّذِي لَهُ شوك، و «السَّمُرَةُ» بفتح السين وضم الميم: الشَّجَرَةُ مِنَ الطَّلْح، وهيَ العِظَامُ مِنْ شَجَرِ العِضَاهِ، وَ «اخْتَرَطَ السَّيْف» أي سلّه وَهُوَ في يدهِ. «صَلْتاً» أي مسلولاً، وَهُوَ بفتحِ الصادِ وضَمِّها.
في هذا الحديث: قوة يقينهِ - صلى الله عليه وسلم -، وتوكُّله على الله عزَّ وجلّ، وعفوه، وحلمه، ومقابلة السيئة بالحسنة، ومحاسن أخلاقه، وكمال كرمه، وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم (4) ] .
[79] السادس: عن عُمَر - رضي الله عنه - قَالَ: سمعتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حديث حسن) .
معناه: تَذْهبُ أَوَّلَ النَّهَارِ خِمَاصاً: أي ضَامِرَةَ البُطُونِ مِنَ الجُوعِ، وَتَرجعُ آخِرَ النَّهَارِ بِطَاناً. أَي مُمْتَلِئَةَ البُطُونِ.
أي: لو توكلتم على الله في ذهابكم ومجيئكم وتصرُّفكم لسهّل لكم رزقكم.
[80] السابع: عن أبي عُمَارة البراءِ بن عازب رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا فُلانُ، إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فراشِكَ، فَقُل: اللَّهُمَّ أسْلَمتُ نَفْسي إلَيْكَ، وَوَجَّهتُ وَجْهِي إلَيْكَ، وَفَوَّضتُ أَمْري إلَيْكَ، وَأَلجأْتُ ظَهري إلَيْكَ رَغبَةً وَرَهبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إلا
(1/75)
إلَيْكَ، آمنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ؛ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنَّ مِتَّ مِنْ لَيلَتِكَ مِتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، وَإِنْ أصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيراً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية في الصحيحين، عن البراءِ، قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجِعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءكَ للصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيمَنِ، وَقُلْ ... وذَكَرَ نَحْوَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» .
في هذا الحديث: فضل الاستسلام، والتفويض، والالتجاء إلى الله عزَّ وجلّ.
[81] الثامِنُ: عن أبي بكرٍ الصِّديق - رضي الله عنه - عبدِ اللهِ بنِ عثمان بنِ عامرِ بنِ عمر ابنِ كعب بنِ سعدِ بن تَيْم بنِ مرة بن كعبِ بن لُؤَيِّ بن غالب القرشي التيمي - رضي الله عنه - وَهُوَ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ صَحَابَةٌ - رضي الله عنهم - قَالَ: نَظَرتُ إِلَى أَقْدَامِ المُشْرِكينَ وَنَحنُ في الغَارِ وَهُمْ عَلَى رُؤُوسِنا، فقلتُ: يَا رسولَ الله،
لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبا بَكرٍ باثنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: تنبيه على أنَّ من توكَّل على الله كفاه، ونصره، وأعانه، وكلأه وحفظه.
[82] التاسع: عن أم المُؤمنينَ أمِّ سَلَمَةَ وَاسمها هِنْدُ بنتُ أَبي أميةَ حذيفةَ المخزومية رضي الله عنها: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ، قَالَ: «بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أضِلَّ
(1/76)
أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» حديثٌ صحيح، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحةٍ. قَالَ الترمذي: ... (حديث حسن صحيح) . وهذا لفظ أبي داود.
[83] العاشر: عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَالَ ... - يَعْني: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ -: بِسمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ، يُقالُ لَهُ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيطَانُ» . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. وَقالَ الترمذي: (حديث حسن) ، زاد أبو داود: «فيقول - يعني: الشيطان - - لِشيطان آخر: كَيفَ لَكَ بِرجلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟» .
معنى «لا حول ولا قوَّة إلا بالله» ، أي: لا حول عن المعاصي إلا بعصمة الله. ولا قوَّة على الطاعات إلا بالله.
ورُوي عن ابن مسعود قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتها. فقال: «تدري ما تفسيرها؟» ، قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «لا حول عن معصية الله، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بمعونة الله» . أخرجه البزّار.
قال بعض العلماء: ولعل تخصيصه بالطاعة والمعصية؛ لأنهما أمران مهمان في الدين.
(1/77)
[84] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ أَخَوانِ عَلَى عهد النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أحَدُهُمَا يَأتِي النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَالآخَرُ يَحْتَرِفُ، فَشَكَا المُحْتَرِفُ أخَاهُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ» . رواه الترمذي بإسناد صحيحٍ عَلَى شرطِ مسلم.
«يحترِف» : يكتسب ويتسبب.
في الحديث: تنبيهٌ على أنَّ من انقطع إلى الله كفاه مهماته.
وأنَّ العبدَ يُرزق بغيره، كما في الحديث الآخر: «وهل ترزقون - أو قال: تنصرون - إلا بضعفائكم» .
8- باب الاستقامة
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود (112) ] .
أي: استقم على دين ربك، والعمل به، والدعاء إليه.
والاستقامة: هي لزوم المنهج المستقيم.
قال عمر رضي الله عنه: الاستقامة: أنْ تقوم على الأمر والنهي، ولا تروغ عنه روغان الثعلب.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت (30: 32) ] .
(1/78)
يخبر تعالى أنَّ من وحَّده واستقام على طاعته أنه آمن عند الموت ويوم القيامة، وأنَّ جزاءه الجنة. وقوله: {نزلاً} أي: رزقًا مهيَّأً.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف (13، 14) ] .
أي: استقاموا على التوحيد، واتباع الكتاب والسنة.
[85] وعن أبي عمرو، وقيل: أبي عَمرة سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُول الله، قُلْ لي في الإسْلامِ قَولاً لا أسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً غَيْرَكَ. قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ استَقِمْ» . رواه مسلم.
هذا الحديث جمع معاني الإِسلام والإِيمان كلها، وهو على وفاق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} .
قال بعض العارفين: مرجع الاستقامة إلى أمرين:
* صحة الإيمان بالله.
* واتباع ما جاء به رسول الله ظاهرًا وباطنًا.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» .
[86] وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بعَمَلِهِ» قالُوا: وَلا
(1/79)
أَنْتَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «وَلا أنا إلا أنْ يَتَغَمَّدَني الله برَحمَةٍ مِنهُ وَفَضْلٍ» . رواه مسلم.
وَ «المُقَاربَةُ» : القَصدُ الَّذِي لا غُلُوَّ فِيهِ وَلا تَقْصيرَ، وَ «السَّدادُ» : الاستقامة والإصابة. وَ «يتَغَمَّدني» : يلبسني ويسترني.
قَالَ العلماءُ: مَعنَى الاستقامَةِ لُزُومُ طَاعَةِ الله تَعَالَى، قالوا: وهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِم، وَهِيَ نِظَامُ الأُمُورِ؛ وبِاللهِ التَّوفِيقُ.
في هذا الحديث: دلالةٌ على أنه ليس أحد من الخلْق يقدر على توفية حق الربوبية. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل» .
ولكن الأعمال سببٌ لدخول الجنة. كما قال تعالى: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل (32) ] ، والتوفيق للأعمال الصالحة من فضل الله ورحمته.
9- باب التفكير في عظيم مخلوقات الله تَعَالَى
وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورهما وتقصير النفس
وتهذيبها وحملها عَلَى الاستقامة
التفكر في المخلوقات: كالعرش، والكرسي، والسماء والأرض يدل على كمال الخالق وعظمته.
وفي الحديث: «ما السماء والأرض، وما بينهما في العرش إلا كحلقة أُلْقيتْ في فلاة من الأرض» ، وقد قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر (67) ] .
(1/80)
والتفكُّر في فناء الدنيا: يبعثه على الزهد فيها، والإِقبال على الآخرة.
والتفكُّر في أهوال الآخرة: يبعثه على فعل الطاعات، وترك المنهيات، وتقصير أمل النفس بذكر الموت، وتهذيبها من الأخلاق السيئة.
وحملها على الاستقامة يورثها العز في الدنيا والآخرة.
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ (46) ] .
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين أنك مجنون: إنما أعظكم آمركم وأوصيكم بواحدة، هي: أن تقوموا لله من غير هوى ولا عصيبة مثنى وفرادى، أي: اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا. ثم تتفكروا جميعًا في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - فتعلموا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} الآيات [آل عمران (190، 191) ] .
التفكر في المخلوقات أفضل العبادات.
وفي بعض الآثار بينما رجلٌ مستلق على فراشه إذْ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم، فقال: «أشهد أن لك ربًّا وخالقًا اللَّهُمَّ اغفر لي» فنظر الله إليه فغفر له.
وَقالَ تَعَالَى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية (17: 21) ] .
(1/81)
يحثُّ تعالى على النظر إلى أنواع المخلوقات الدالة على وحدانيته، واقتداره على الخلق، والبعث، وغير ذلك، وخُصَّت هذه الأربع من بين المخلوقات، لأنها ظاهرة لكل أحد، وخُصَّت الإبل من بين المركوبات لأنها أعجب ما عند العرب.
وَقالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} الآية [محمد (10) ] .
يحثُّ تعالى على المسير في الأرض، فينظروا آثار الأمم قبلهم واضمحلالهم بعد وجودهم، وكمال قوتهم، فيعلمون أنَّ الحيّ القيُّوم هو الله وأنَّ غيره فانٍ فلا يركنوا إلى الدنيا ولا يغترُّوا بها.
والآيات في الباب كثيرة.
ومن الأحاديث الحديث السابق: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» .
لفظ الحديث: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أتْبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني» .
معنى دان نفسه: حاسبها. فإنَّ محاسبته لها وعدم تركها هملاً إنما ينشأ عن تفكُّره في الدنيا وزوالها، وفي نفسه وانتقالها، كأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل، فيحاسب نفسه فيمنعها عمّا لا ينبغي، ويحملها على ما ينبغي. وبالله التوفيق.
10- باب المبادرة إلى الخيرات
وحثِّ من توجه لخير على الإقبال عليه بالجد من غير تردد
قَالَ الله تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} [البقرة (148) ] .
أي سارعوا إليها قبل فواتها.
وَقالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران (133) ] .
(1/82)
يقول تعالى: بادروا إلى مغفرة من ربكم أعمال توجب المغفرة، كالإسلام، والتوبة، وأداء الفرائض، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، وخصَّ العرض بالذكر؛ لأنَّ طول كل شيء غالبًا أكثر من عرضه، وأما طولها فلا يعلمه إلا الله.
وأما الأحاديث:
[87] فالأولُ: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَادِرُوا بِالأعْمَال فتناً كقطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، وَيُمْسِي مُؤمِناً ويُصبحُ كَافِراً، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: الحث على اغتنام الأعمال الصالحة قبل ظهور ما يمنعها.
[88] الثَّاني: عن أبي سِروْعَة - بكسر السين المهملة وفتحها - عُقبةَ بن الحارث - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّيتُ وَرَاءَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالمَدِينَةِ العَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعاً، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيهمْ، فَرأى أنَّهمْ قَدْ عَجبُوا مِنْ سُرعَتهِ، قَالَ: «ذَكَرتُ شَيئاً مِنْ تِبرٍ عِندَنَا فَكَرِهتُ أنْ يَحْبِسَنِي فَأمَرتُ بِقِسْمَتِهِ» . رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: «كُنتُ خَلَّفتُ في البَيْتِ تِبراً مِنَ الصَّدَقةِ فَكَرِهتُ أنْ أُبَيِّتَهُ» . «التِّبْرُ» : قِطَعُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
(1/83)
في هذا الحديث: المبادرة لأداء القُرُبات، وفعل الخيرات.
[89] الثالث: عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يَومَ أُحُد: أَرَأيتَ إنْ قُتِلتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: «في الجنَّةِ» فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ في يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: المبادرة إلى الخير، والمسارعة إليه.
وفيه: ما كان الصحابة عليه من حب نصر الإسلام، والرغبة في الشهادة ابتغاء مرضاة الله وثوابه.
[90] الرابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رسولَ الله، أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْرَاً؟ قَالَ: «أنْ تَصَدَّقَ وَأنتَ صَحيحٌ
شَحيحٌ، تَخشَى الفَقرَ وتَأمُلُ الغِنَى، وَلا تُمهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغتِ الحُلقُومَ قُلْتَ لِفُلان كذا ولِفُلانٍ كَذا، وقَدْ كَانَ لِفُلانٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«الحُلقُومُ» : مَجرَى النَّفَسِ. وَ «المَرِيءُ» : مجرى الطعامِ والشرابِ.
في هذا الحديث: فضل الصدقة في حال الصحة.
وروى أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يتصدَّق المرءُ في حياته بدرهم خير له من أنْ يتصدق بمئة عند موته» .
(1/84)
[91] الخامس: عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفاً يَومَ أُحُدٍ، فَقَالَ: «مَنْ يَأخُذُ منِّي هَذَا؟» فَبَسطُوا أيدِيَهُمْ كُلُّ إنسَانٍ مِنْهُمْ يقُولُ: أَنَا أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ يَأخُذُهُ بحَقِّه؟» فَأَحْجَمَ القَومُ فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ - رضي الله عنه -: أنا آخُذُهُ بِحَقِّهِ، فأخذه فَفَلقَ بِهِ هَامَ المُشْرِكِينَ. رواه مسلم.
اسم أبي دجانةَ: سماك بن خَرَشة. قوله: «أحجَمَ القَومُ» : أي توقفوا. وَ «فَلَقَ بِهِ» : أي شق. «هَامَ المُشرِكينَ» : أي رُؤُوسَهم.
في هذا الحديث: المبادرة إلى قتال المشركين بالجد إذا أمكن ذلك.
وفي بعض السير عن الزبير قال: وجدت في نفسي حين سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - السيف فَمُنِعْتُهُ، وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرن ما يصنع فاتّبعته، فأخذ عصابة حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت. فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ?? ... ونحن بالسفح لدى النخيل ... ???
أَلا أقوم الدهر في الكيول ... ?? ... أضرب بسيف الله والرسول ... ??
فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله.
[92] السادس: عن الزبير بن عدي، قَالَ: أتينا أنسَ بن مالك - رضي الله عنه - فشكونا إِلَيْه مَا نلقى مِنَ الحَجَّاجِ. فَقَالَ: «اصْبرُوا؛ فَإنَّهُ لا يَأتي عَلَيْكُم زَمَانٌ إلا والَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ حَتَّى تَلقَوا رَبَّكُمْ» سَمِعتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -. رواه البخاري.
(1/85)
في هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يبادر لصالح الأعمال وإن لحقته المتاعب والمشاق، ولا يترقب الخلو عن ذلك.
قال الشاعر:
يا زمان بكيت منه، فلما ... ?? ... صرت في غيرِه بكيتُ عليه ... ???
قال بعض العلماء: الوقت سيف إن لم تقطعه بصالح العمل ذهب عليك بلا فائدة. فلا راحة للمؤمن دون لقاء ربه.
[93] السابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «بادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلا فَقراً مُنسياً، أَوْ غِنىً مُطغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفسِداً، أَوْ هَرَماً مُفْنداً، أَوْ مَوتاً مُجْهزاً، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فالسَّاعَةُ أدهَى وَأَمَرُّ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حديث حسن) .
في هذه الحديث: الحث على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل الموانع الطارئة.
[94] الثامن: عَنْهُ: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَومَ خيبر: «لأُعْطِيَنَّ هذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَفتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيهِ» . قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: مَا أحبَبْتُ الإِمَارَة إلا يَومَئِذٍ، فَتَسَاوَرتُ لَهَا رَجَاءَ أنْ أُدْعَى لَهَا، فَدَعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فَأعْطَاهُ إيَّاهَا، وَقالَ: «امْشِ وَلا تَلتَفِتْ حَتَّى يَفتَح اللهُ عَلَيكَ» . فَسَارَ عليٌّ شيئاً ثُمَّ وَقَفَ ولم يلتفت فصرخ: يَا رَسُول الله، عَلَى ماذا أُقَاتِلُ النّاسَ؟ قَالَ: «قاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إله إلا اللهُ، وَأنَّ مُحَمداً رسولُ الله، فَإِذَا
(1/86)
فَعَلُوا ذلك فقَدْ مَنَعوا مِنْكَ دِمَاءهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بحَقِّهَا، وحسَابُهُمْ عَلَى الله» . رواه مسلم.
«فَتَسَاوَرْتُ» هُوَ بالسين المهملة: أي وثبت متطلعاً.
في هذا الحديث: الحث على المبادرة إلى ما أمر به، والأخذ بظاهر الأمر وترك الوجوه المحتملات إذا خالفت الظاهر لأنَّ عليَّا وقف ولم يلتفت.
11- باب المجاهدة
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت (69) ] .
المجاهدة: مفاعلة من الجهد، فإن الإنسان يجاهد نفسه باستعمالها فيما ينفعها، وهي تجاهده بضد ذلك.
قال بعض العلماء: جهاد النفس هو الجهاد الأكبر. وجهاد العدو هو الجهاد الأصغر.
وَقالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل (8) ] : أي: انْقَطِعْ إِلَيْه.
يقول تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} ، أي: أكثر من ذكره، وأخلِص واجتهد في وقت فراغك.
وَقالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر (99) ] .
أي: الموت
وَقالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة (7) ] .
في هذا الآية تشويق لتقديم العمل الصالح بين يديه ليجد ثوابه عند قدومه على ربه.
(1/87)
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل (20) ] .
أي ما أخرجتم لله خير لكم وأعظم أجرًا عند الله مما ادخرتم.
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة (273) ] .
يعني: فيجزيكم بخير منه.
والآيات في الباب كثيرة معلومة.
وأما الأحاديث:
[95] فالأول: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله تَعَالَى قَالَ: مَنْ عادى لي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدي بشَيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أحِبَّهُ، فَإذَا أَحبَبتُهُ كُنْتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشي بِهَا، وَإنْ سَأَلَني لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» . رواه البخاري.
«آذَنتُهُ» : أعلمته بأني محارِب لَهُ. «اسْتَعَاذَني» روي بالنون وبالباءِ.
الولي: مَنْ تولى الله بالطاعة والتقوى، فإنَّ الله يتولاه بالحفظ والنصرة.
وفي الحديث: الوعيد الشديد لمن عادى وليًّا من أجل طاعته لله عزَّ وجلّ.
وأنَّ أحب العبادة إلى الله أداء فرائضه.
وأنَّ من تقرَّب إلى الله بالنوافل أحبه، ونصره، وحفظه، وأجاب دعاءه، ورقاه من درجة الإِيمان إلى درجة الإِحسان، فلا ينطقُ بما يسخط الله، ولا تُحَرَّك جوارحه في معاصي الله.
(1/88)
[96] الثاني: عن أنس - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربّه - عز وجل - قَالَ:
«إِذَا تَقَربَ العَبْدُ إلَيَّ شِبْراً تَقَربْتُ إِلَيْه ذِرَاعاً، وَإِذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعاً تَقَربْتُ مِنهُ بَاعاً، وِإذَا أتَانِي يَمشي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» . رواه البخاري.
معنى هذا الحديث: أنَّ من تقرَّب إلى الله بشيء من الطاعات ولو قليلاً قابله الله بأضعاف من الإِثابة والإِكرام، وكلما زاد في الطاعة زاده في الثواب، وأسرع برحمته وفضله.
[97] الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نِعْمَتَانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ» . رواه. البخاري.
في هذا الحديث: أنَّ من لم يعمل في فراغه وصحته فهو مغبون. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن (9) ] .
وفي الحديث: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك» .
[98] الرابع: عن عائشة رَضي الله عنها: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يقُومُ مِنَ اللَّيلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَصنَعُ هَذَا يَا رسولَ الله، وَقدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْداً شَكُوراً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، هَذَا لفظ البخاري.
ونحوه في الصحيحين من رواية المغيرة بن شعبة.
(1/89)
في هذا الحديث: أَخْذُ الإِنسان على نفسه بالشدة في العبادة، وإنْ أضرَّ ذلك ببدنه إذا لم يفض به إلى الملل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا» .
وفيه: أنَّ الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان.
[99] الخامس: عن عائشة رضي الله عنها، أنَّها قَالَتْ: كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَحْيَا اللَّيلَ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَر. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
والمراد: العشر الأواخر مِنْ شهر رمضان. و «المِئْزَرُ» : الإزار، وَهُوَ كناية عن اعتزالِ النساءِ. وقيلَ: المُرادُ تَشْمِيرُهُ للِعِبَادةِ، يُقالُ: شَدَدْتُ لِهَذَا الأمْرِ مِئْزَري: أي تَشَمَّرْتُ وَتَفَرَّغْتُ لَهُ.
في هذا الحديث: الجِدُّ والاجتهاد في العبادة، خصوصًا في الأوقات الفاضلة، واغتنام صالح العمل في العشر الأواخر من رمضان؛ لأنَّ فيها ليلة خير من ألف شهر.
[100] السادس: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ وَفي كُلٍّ خَيرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ. وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أنّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدرُ اللهِ، وَمَا شَاءَ فَعلَ؛ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ» . رواه مسلم.
المؤمنُ القوي، هو من يقوم بالأوامر ويترك النواهي بقوة ونشاط، ويصبر على مخالطة الناس ودعوتهم، ويصبر على أذاهم.
(1/90)
وفي الحديث: الأمر بفعل الأسباب والاستعانة بالله.
وفيه: التسليم لأمر الله، والرضا بقدر الله.
[101] السابع: عَنْهُ: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حُجِبَتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: «حُفَّتْ» بدل «حُجِبَتْ» وَهُوَ بمعناه: أي بينه وبينها هَذَا الحجاب فإذا فعله دخلها.
في هذا الحديث: أنَّ الجنة لا تُنال إلا بالصبر على المكاره، وأنَّ النَّار لا يُنْجَى منها إلا بفطام النفس عن الشهوات المحرمة.
[102] الثامن: عن أبي عبد الله حُذَيفَةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنهما، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيلَةٍ فَافْتَتَحَ البقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المئَةِ، ثُمَّ مَضَى. فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا في ركعَة فَمَضَى، فقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقرَأُ مُتَرَسِّلاً: إِذَا مَرَّ بآية فِيهَا تَسبيحٌ سَبَّحَ، وَإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ» فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحواً مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ثُمَّ قَامَ قِيامًا طَويلاً قَريباً مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» فَكَانَ سُجُودُهُ قَريباً مِنْ قِيَامِهِ. رواه مسلم.
(1/91)
في هذا الحديث: فضلُ تطويل صلاة الليل، قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} الزمر (9) ] .
[103] التاسع: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَيلَةً، فَأَطَالَ القِيامَ حَتَّى هَمَمْتُ بأمْرِ سُوءٍ! قيل: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أنْ أجْلِسَ وَأَدَعَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: أنه ينبغي الأدب مع الأئمة، بأن لا يخالفوا بقول، ولا فعل مالم يكن حرامًا، فإن مخالفة الإمام في أفعاله معدودة في العمل السيء.
[104] العاشر: عن أنس - رضي الله عنه - عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «يَتْبَعُ المَيتَ ثَلاَثَةٌ: أهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَملُهُ، فَيَرجِعُ اثنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَرجِعُ أهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبقَى عَملُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: الحث على تحسين العمل ليكون أنيسه في قبره.
[105] الحادي عشر: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثلُ ذلِكَ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: الترغيب في قليل الخير وإن قلَّ، والترهيب عن قليل الشر وإن قل. وأنَّ الطاعة مقَّربة إلى الجنة، والمعصية مقرَّبة إلى النار، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة (7، 8) ]
في هذا الحديث: إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها
(1/92)
درجات، وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.
[106] الثاني عشر: عن أبي فِراسٍ ربيعةَ بنِ كعبٍ الأسلميِّ خادِمِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أهلِ الصُّفَّةِ - رضي الله عنه -، قَالَ: كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ: «سَلْنِي» فقُلْتُ: اسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. فَقَالَ: «أَوَ غَيرَ ذلِكَ» ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: «فأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: الحث على الإكثار من الصلاة، وأنه يوجب القرب من الله تعالى، ومرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، وقد قال الله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}
[النساء (69) ] ، وقال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق (19) ] .
[107] الثالث عشر: عن أبي عبد الله، ويقال: أَبُو عبد الرحمن ثوبان - مولى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ للهِ سَجْدَةً إلا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرجَةً، وَحَطَّ عَنكَ بِهَا خَطِيئةً» . رواه مسلم.
سبب رواية ثوبان لهذا الحديث: أن معدان بن طلحة قال: أتيت ثوبان فقلت: أخبرني بعمل أعمل به يدخلني الله به الجنة؟ - أو قال بأحب الأعمال إلى الله - فسكتَ، ثم سأله، فسكت، ثم سأله الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «عليك بكثرة السجود ... » . الحديث.
وفي آخره: فلقيت أبا الدرداء فسألته، فقال لي مثل ما قال ثوبان.
(1/93)
[108] الرابع عشر: عن أَبي صَفوان عبد الله بنِ بُسْرٍ الأسلمي - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خَيرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن» .
«بُسْر» بضم الباء وبالسين المهملة.
في هذا الحديث: فضلُ طول العمر إذا أُحسن فيه العمل.
وفي بعض الروايات: «وشركم من طال عمره وساء عمله» .
[109] الخامس عشر: عن أنس - رضي الله عنه -، قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ - رضي الله عنه - عن قِتالِ بدرٍ، فَقَالَ: يَا رسولَ الله، غِبْتُ عَنْ أوّل قِتال قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِن اللهُ أشْهَدَنِي قِتَالَ المُشركِينَ لَيُرِيَنَّ اللهُ مَا أصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَومُ أُحُدٍ انْكَشَفَ المُسْلِمونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - يعني: أصْحَابهُ - وأبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - - يَعني: المُشركِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلهُ سَعدُ بْنُ مُعاذٍ، فَقَالَ: يَا سعدَ بنَ معاذٍ، الجَنَّةُ وربِّ الكعْبَةِ إنِّي أجِدُ ريحَهَا منْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سعدٌ: فَمَا اسْتَطَعتُ يَا رسولَ الله مَا صَنَعَ!
قَالَ أنسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعاً وَثَمانينَ ضَربَةً بالسَّيفِ، أَوْ طَعْنةً بِرمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكونَ فما عَرَفهُ أَحَدٌ إلا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ.
(1/94)
قَالَ أنس: كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أن هذِهِ الآية نزلت فِيهِ وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب (23) ] إِلَى آخِرها. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «لَيُرِيَنَّ اللهُ» روي بضم الياء وكسر الراء: أي لَيُظْهِرَنَّ اللهُ ذلِكَ للنَّاس، وَرُويَ بفتحهما ومعناه ظاهر، والله أعلم.
في هذا الحديث: جواز الأخذ بالشدة في الجهاد وبذل المرء نفسه في طلب الشهادة، والوفاء بالعهد.
[110] السادس عشر: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيءٍ كَثيرٍ، فقالوا: مُراءٍ، وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فقالُوا: إنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا! فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} [التوبة (79) ] . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَ «نُحَامِلُ» بضم النون وبالحاء المهملة: أي يحمل أحدنا عَلَى ظهره بالأجرة ويتصدق بِهَا.
قوله: (لما نزلت آية الصدقة) قال الحافظ: كأنه يشير إلى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} الآية [التوبة (103) ] .
قوله: «وجاء رجل فتصدَّق بصاع» ، وكان تحصيله له بأن أجّر نفسه على النزع من البئر بصاعين من تمر، فذهب بصاع لأهله وتصدَّق بالآخر.
وفي هذا: أنَّ العبد يتقرب إلى الله بجهده وطاقته، وحسب قدرته واستطاعته.
(1/95)
[111] السابع عشر: عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أَبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر جندب بن جُنادة - رضي الله عنه -، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن اللهِ تَبَاركَ وتعالى، أنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا.
يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالّ إلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاستَهدُوني أهْدِكُمْ.
يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلا مَنْ أطْعَمْتُهُ فَاستَطعِمُوني أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلا مَنْ كَسَوْتُهُ فاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.
يَا عِبَادي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ.
يَا عِبَادي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُوني. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذلِكَ في مُلكي شيئاً.
يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذلِكَ من مُلكي شيئاً.
يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُوني فَأعْطَيتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْألَتَهُ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلا كما يَنْقصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ.
يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ» .
قَالَ سعيد: كَانَ أَبُو إدريس إِذَا حَدَّثَ بهذا الحديث جَثا عَلَى رُكبتيه.
(1/96)
رواه مسلم.
وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، قَالَ: لَيْسَ لأهل الشام حديث أشرف من هَذَا الحديث.
هذا حديث جليل شريف، وهو من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله عز وجل.
وفي هذا الحديث: قبح الظلم وأن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم.
وأنَّ الله تعالى يحب أن يسأله العباد ويستغفروه.
وأنَّ ملكه لا يزيد بطاعة الخلق ولا ينقص بمعصيتهم.
وأن خزائنه لا تنفذ ولا تنقص.
وأن ما أصاب العبد من خير فمن فضل الله تعالى، وما أصابه من شر فمن نفسه وهواه.
وهو مشتمل على قواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه وآدابه، وغير ذلك.
12- باب الحث عَلَى الازدياد من الخير في أواخر العمر
قَالَ الله تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر (37) ] .
قَالَ ابن عباس والمُحَقِّقُونَ: أَو لَمْ نُعَمِّرْكُمْ سِتِّينَ سَنَةً؟ وَيُؤَيِّدُهُ الحديث الَّذِي سنذْكُرُهُ إنْ شاء الله تَعَالَى، وقيل: معناه ثماني عَشْرَة سَنَةً، وقيل: أرْبَعينَ سَنَةً، قاله الحسن والكلبي ومسروق ونُقِلَ عن ابن عباس أيضاً. وَنَقَلُوا أنَّ أَهْلَ المدينَةِ كانوا إِذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ أربْعينَ سَنَةً تَفَرَّغَ للعِبادَةِ، وقيل: هُوَ البُلُوغُ.
وقوله تَعَالَى: {وجَاءكُمُ النَّذِيرُ} قَالَ ابن عباس والجمهور:
(1/97)
هُوَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: الشَّيبُ، قاله عِكْرِمَةُ وابن عُيَيْنَة وغيرهما. والله أعلم.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر (37) ] .
هذا توبيخ من الله تعالى لأهل النار. يقول: أَوَ مَا عشتم في الدنيا أعمارًا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم.
قال قتادة: اعلموا أنَّ طول العمر حجَّة، فنعوذ بالله أنْ نُعيَّر بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: {أَوَ لَم نُعَمِركُم مَّا يَتَذَكَّرُ} ، وأنَّ فيهم لابن ثماني عشرة سنة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه: {أَوَ لَم نُعَمِركُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيِه مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} .
وقال الشاعر:
إذا بلغ الفتى ستين عامًا ... ?? ... فقد ذهب المسرة والفتاء ... ???
وعن قتادة: {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} احتج عليهم بالعمر والرسل.
وقرأ عبد الرحمن بن زيد: {هَذَا نَذِيُرُ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} .
والشيب، نذير أيضًا؛ لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سِنِّ الصبا الذي هو سِنُّ اللهو واللعب. قال الشاعر:
رأيت الشيب من نذر المنايا ... ?? ... لصاحبه وحسبك من نذير ... ???
(1/98)
[112] وأما الأحاديث فالأول: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أعْذَرَ الله إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً» . رواه البخاري.
قَالَ العلماء: معناه لَمْ يَتْرُكْ لَهُ عُذراً إِذْ أمْهَلَهُ هذِهِ المُدَّةَ. يقال: أعْذَرَ الرجُلُ إِذَا بَلَغَ الغايَةَ في العُذْرِ.
المعنى: أنَّ الله تعالى لم يُبْقِ للعبد اعتذارًا. كأن يقول: لو مُدَّ لي في الأجل لفعلت ما أُمرت به. فينبغي له الاستغفار والطاعة، والإقبال على الآخرة بالكلية.
[113] الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ عمر - رضي الله عنه - يُدْخِلُنِي مَعَ أشْيَاخِ بَدرٍ فكأنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ في نفسِهِ، فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا معنا ولَنَا أبْنَاءٌ مِثلُهُ؟! فَقَالَ عُمَرُ: إنَّهُ منْ حَيثُ عَلِمْتُمْ! فَدعانِي ذاتَ يَومٍ فَأدْخَلَنِي مَعَهُمْ فما رَأيتُ أَنَّهُ دعاني يَومَئذٍ إلا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تقُولُون في قولِ الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} ؟ [النصر: 1] .
فَقَالَ بعضهم: أُمِرْنَا نَحْمَدُ اللهَ وَنَسْتَغْفِرُهُ إِذَا نَصَرنَا وَفَتحَ عَلَيْنَا، وَسَكتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيئاً. فَقَالَ لي: أَكَذلِكَ تقُول يَا ابنَ عباسٍ؟ فقلت: لا. قَالَ: فما تقول؟ قُلْتُ: هُوَ أجَلُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامةُ أجَلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر (3) ] .
فَقَالَ عمر - رضي الله عنه -: مَا أعلم مِنْهَا إلا مَا تقول. رواه البخاري.
(1/99)
في هذا الحديث: فضل ابن عباس وسِعة علمه، وكمال فهمه، وتأثير لإجابة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يفقٌهه الله في الدين، ويعلمه التأويل.
فكم من صغير لاحظته عناية ... ?? ... من الله فاحتاجت إليه الأكابر ... ???
[114] الثالث: عن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا صلّى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً بَعْدَ أنْ نَزَلتْ عَلَيهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول فِيهَا: «سُبحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية في الصحيحين عنها: كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أنْ يقُولَ في ركُوعِه وسُجُودهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» ، يَتَأوَّلُ القُرآنَ.
معنى: «يَتَأَوَّلُ القُرآنَ» أي يعمل مَا أُمِرَ بِهِ في القرآن في قوله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} .
وفي رواية لمسلم: كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ أنْ يَقُولَ قَبلَ أنْ يَمُوتَ:
«سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَ‍مدِكَ أسْتَغْفِرُكَ وَأتُوبُ إلَيْكَ» . قَالَتْ عائشة:
قُلْتُ: يَا رَسُول الله، مَا هذِهِ الكَلِماتُ الَّتي أرَاكَ أحْدَثْتَها تَقُولُهَا؟ قَالَ: «جُعِلَتْ لي عَلامَةٌ في أُمَّتِي إِذَا رَأيْتُها قُلتُها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} ... إِلَى آخِرِ السورة.
وفي رواية لَهُ: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ مِنْ قَولِ: «سبْحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ أسْتَغفِرُ اللهَ وأتُوبُ إِلَيْهِ» . قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللهِ، أَراكَ تُكثِرُ مِنْ قَولِ سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدهِ أسْتَغْفِرُ اللهَ وأتُوبُ إِلَيْه؟ فَقَالَ: «أخبَرَني رَبِّي أنِّي سَأرَى عَلامَةً في أُمَّتي فإذا رَأيْتُها أكْثَرْتُ مِنْ قَولِ: سُبْحَانَ اللهِ وبِحَمدهِ أسْتَغْفرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْه فَقَدْ رَأَيْتُهَا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكّة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي
(1/100)
دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} » .
في هذا الحديث: مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على التسبيح والتحمد والاستغفار في ركوعه وسجوده، وأشرف أوقاته وأحواله.
وفيه: خضوعه - صلى الله عليه وسلم - لربه وانطراحه بين يديه، ورؤية التقصير في أداء مقام العبودية، وحق الربوبية.
وفيه: الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر.
[115] الرابع: عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: إنَّ اللهَ - عز وجل - تَابَعَ الوَحيَ عَلَى ... رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبلَ وَفَاتهِ حَتَّى تُوُفِّيَ أكْثَرَ مَا كَانَ الوَحْيَ عَلَيِّه. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الحِكمة في كثرة الوحي عند وفاته - صلى الله عليه وسلم -، لتكمل الشريعة فلا يبقى مما يوحى إليه بشيء. قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة (3) ] .
وكان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن يعمل بما فيه.
[116] الخامس: عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: تحريضٌ للإِنسان على حسن العمل، وملازمة الهَدْي المحمدي في سائر الأحوال، والإِخلاص لله تعالى في الأقوال والأعمال، ليموت على تلك الحالة الحميدة فيُبعث كذلك، وبالله التوفيق.
13- باب في بيان كثرة طرق الخير
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة (215) ] .
(1/101)
فيجزيكم عليه.
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} [البقرة (197) ] .
فلا يُضيِّعه.
وَقالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة (7) ] .
يعني: يرى جزاءه في الآخرة.
قال سعيد بن جبير: كان المسلمون يَرَوْن أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، وكان آخرون يَرون أنْ لا يُلامون على الذنب اليسير: الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأشباهها. فنزلت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة (7، 8) ] .
وَقالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [الجاثية (15) ] .
والآيات في الباب كثيرة.
كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل (97) ] وغيرها.
وأما الأحاديث فكثيرة جداً وهي غيرُ منحصرةٍ فنذكُرُ طرفاً مِنْهَا:
[117] الأول: عن أبي ذر جُنْدبِ بنِ جُنَادَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ الله، أيُّ الأعمالِ أفْضَلُ؟ قَالَ: «الإيمانُ باللهِ وَالجِهادُ في ... سَبيلِهِ» . قُلْتُ: أيُّ الرِّقَابِ أفْضَلُ؟ قَالَ: «أنْفَسُهَا عِنْدَ أهلِهَا وَأكثَرهَا ثَمَناً» . قُلْتُ: فإنْ لَمْ أفْعَلْ؟ قَالَ: «تُعِينُ صَانِعاً أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ» . قُلْتُ: يَا رَسُول الله، أرأيْتَ إنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ العَمَلِ؟ قَالَ: ... «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فإنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» . مُتَّفَقٌ عليه.
(1/102)
«الصَّانِعُ» بالصاد المهملة هَذَا هُوَ المشهور، وروي «ضائعاً» بالمعجمة: أي ذا ضِياع مِنْ فقرٍ أَوْ عيالٍ ونحوَ ذلِكَ، «وَالأَخْرَقُ» : الَّذِي لا يُتقِنُ مَا يُحَاوِل فِعلهُ.
في هذا الحديث: بيان كثرة طرق الخير، وأن الإنسان إذا عجز عن خصلة من خصال الخير قدر على الأُخرى، فإذا عجز عن ذلك كفَّ شرّه عن الناس. وما لا يُدرك كلّه لا يترك جُلُّه.
[118] الثاني: عن أبي ذر أيضاً - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يُصْبحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى منْ أَحَدِكُمْ صَدَقةٌ: فَكُلُّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحمِيدةٍ صَدَقَة، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأمْرٌ بِالمعرُوفِ صَدَقةٌ، ونَهيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقةٌ، وَيُجزئُ مِنْ ذلِكَ رَكْعَتَانِ يَركَعُهُما مِنَ الضُّحَى» .
رواه مسلم.
«السُّلامَى» بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم: المفصل.
قال في القاموس: المفاصل: مفاصل الأعضاء، الواحد منها كَمَنْزِلٍ. والمِفْصَلُ: كمِنْبَرٍ. اللسان.
وفي هذا الحديث: فضيلة التسبيح وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنَّ الصدقة تكون بغير المال من جميع أنواع فعل المعروف والإِحسان.
وفيه: فضل صلاة الضحى، وأنها تكفي من صدقات الأعضاء؛ لأنَّ الصلاة عمل لجميع أعضاء الجسد، وتنهى عن الفحشاء والمنكر.
(1/103)
[119] الثالث: عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ في مَحَاسِنِ أعْمَالِهَا الأذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّريقِ،
وَوَجَدْتُ في مَسَاوِئِ أعمَالِهَا النُّخَاعَةُ تَكُونُ في المَسْجِدِ لا تُدْفَنُ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: التنبيه على فضل كل ما نفع الناس أو أزال عنهم ضررًا. وأنَّ القليل من الخير والشر مكتوب على العبد، قال الله تعالى: ... {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ... [الزلزلة (7، 8) ] .
[120] الرابع: عَنْهُ: أنَّ ناساً قالوا: يَا رَسُولَ الله، ذَهَبَ أهلُ الدُّثُور بالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أمْوَالِهِمْ، قَالَ: «أَوَلَيسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ: إنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقةً، وَكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأمْرٌ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قالوا: يَا رسولَ اللهِ، أيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أجْرٌ؟ قَالَ: «أرَأيتُمْ لَوْ وَضَعَهَا في حَرامٍ أَكَانَ عَلَيهِ فِيهَا وِزرٌ؟ فكذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» . رواه مسلم.
«الدُّثُورُ» بالثاء المثلثة: الأموال وَاحِدُهَا: دثْر.
في هذا الحديث: فضل التنافس في الخير، والحرص على العمل الصالح، وجبر خاطر من لا يقدر على الصدقة، ونحوها، وترغيبه فيما يقوم مقامها من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
وفيه: أنَّ فعل المباحات إذا قَارنَهُ بنيَّة صالحة يؤجر عليه العبد.
(1/104)
[121] الخامس: عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَحْقِرنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئاً وَلَوْ أنْ تَلقَى أخَاكَ بِوَجْهٍ طَليقٍ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: الحثُّ على فعل المعروف قليلاً كان أو كثيرًا، بالمال، أو الخُلُق الحسن.
[122] السادس: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَينَ الاثْنَينِ صَدَقةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ، فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وبكلِّ خَطْوَةٍ تَمشيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُميطُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ورواه مسلم أيضاً من رواية عائشة رَضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ ... رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إنْسان مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وثلاثمئة مفْصَل، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وحَمِدَ الله، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ الله، وَاسْتَغْفَرَ الله، وَعَزَلَ حَجَراً عَنْ طَريقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً، أَوْ عَظماً عَن طَريقِ النَّاسِ، أَوْ أمَرَ بمَعْرُوف، أَوْ نَهَى عَنْ منكَر، عَدَدَ السِّتِّينَ والثَّلاثِمئَة فَإنَّهُ يُمْسِي يَومَئِذٍ وقَدْ زَحْزَحَ نَفسَهُ عَنِ النَّارِ» .
السُّلاَمَى: المِفْصل. فيصبح على ابن آدم كل يوم ثلاثمئة وستون صدقة بعدد مفاصله. فمن أتى بعددها من الطاعات الفعلية والقولية فقد أدّى شكر الله فيها.
[123] السابع: عَنْهُ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ غَدَا إِلَى المسْجِد أَوْ ... رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ في الجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/105)
«النُّزُلُ» : القوت والرزق وما يُهيأُ للضيف.
في هذا الحديث: فضل المشي إلى صلاة الجماعة في المسجد.
[124] الثامن: عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لا تَحْقِرنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شاةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قَالَ الجوهري: الفرسِن منَ البَعيرِ كالحَافِرِ مِنَ الدَّابَةِ قَالَ: وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ في الشَّاةِ.
في هذا الحديث: الحث عى صلة الجارة ولو بظلف شاة، وفي معناه الحديث الآخر: «إذا طبختَ مرقةً فأكْثِر ماءَها، وتعاهد جيرانك» .
[125] التاسع: عَنْهُ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «الإيمانُ بِضْعٌ وَسَبعُونَ أَوْ بِضعٌ وسِتُونَ شُعْبَةً: فَأفْضَلُهَا قَولُ: لا إلهَ إلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ، والحياءُ شُعبَةٌ مِنَ الإيمان» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«البِضْعُ» من ثلاثة إِلَى تسعة بكسر الباء وقد تفتح. وَ «الشُّعْبَةُ» : القطعة.
شعب الإيمان: هي الأعمال الشرعية، وهي تتفرع عن أعمال القلب وأعمال اللسان، وأعمال البدن.
[126] العاشر: عَنْهُ: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «بَينَما رَجُلٌ يَمشي بِطَريقٍ اشْتَدَّ عَلَيهِ العَطَشُ، فَوَجَدَ بِئراً فَنَزَلَ فِيهَا فَشربَ، ثُمَّ خَرَجَ فإذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الكَلْبُ مِنَ العَطَشِ مِثلُ الَّذِي كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ البِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ
(1/106)
أمْسَكَهُ بفيهِ حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ الله لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» قالوا: يَا رَسُول اللهِ، إنَّ لَنَا في البَهَائِمِ أَجْراً؟ فقَالَ: «في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية للبخاري: «فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ، فأدْخَلَهُ الجَنَّةَ» وفي رواية لهما: «بَيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يقتلُهُ العَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيل، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا ... بِهِ» .
«المُوقُ» : الخف. وَ «يُطِيفُ» : يدور حول «رَكِيَّةٍ» : وَهِي البئر.
في هذا الحديث: فضْل الإِحسان إلى الحيوان، وأنه سبب لمغفرة الذنوب ودخول الجنة.
[127] الحادي عشر: عَنْهُ، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «لَقدْ رَأيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَرِيقِ كَانَتْ تُؤذِي المُسْلِمِينَ» . رواه مسلم.
وفي رواية: «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لأُنْحِيَنَّ هَذَا عَنِ المُسْلِمينَ لا يُؤذِيهِمْ، فَأُدخِلَ الجَنَّةَ» .
وفي رواية لهما: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي بِطَريقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوكٍ عَلَى الطريقِ فأخَّرَه فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» .
في هذا الحديث: فضيلة كل ما نفع المسلمين وأزال عنهم ضررًا، وأنَّ ذلك سبب للمغفرة ودخول الجنة.
[128] الثاني عشر: عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الجُمعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْن الجُمُعَةِ وَزِيادَةُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الحَصَا فَقَدْ لَغَا» . رواه مسلم.
(1/107)
معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام: أنَّ الحسنةَ بعشر أمثالها.
وفي الحديث الآخر: إشارة إلى الحث على إقبال القلب والجوارح على الخطبة، واجتناب العبث.
[129] الثالث عشر: عَنْهُ: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأ العَبْدُ المُسْلِمُ، أَو المُؤمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَينهِ مَعَ المَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ، فَإِذا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيهِ كُلُّ خَطِيئَة كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ المَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مشتها رِجْلاَهُ مَعَ المَاء أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيّاً مِنَ الذُّنُوبِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: فضل الوضوء، وأنه يمحو خطايا الجوارح ويكفر الذنوب.
[130] الرابع عشر: عَنْهُ، عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: سعة رحمة الله تعالى، وأنَّ المدوامة على الفرائض تكفر الصغائر من الذنوب، وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم (32) ] .
[131] الخامس عشر: عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى، يَا رسولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إِلَى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ» . رواه مسلم.
(1/108)
إسباغ الوضوء: استيعاب أعضائه بالغسل. وسُمِّيت هذه الثلاث رباطًا؛ لأنَّ أعدى عدو للإنسان نفسه، وهذه الأعمال تسدُّ طرق الشيطان والهوى عن النفس، فإن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر.
[132] السادس عشر: عن أبي موسى الأشعرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«البَرْدَانِ» : الصبح والعصر.
وجه تخصيصهما بالذكر عن سائر الصلوات: أنَّ وقت الصبح يكون عند لذّة النوم، ووقت العصر يكون عند الاشتغال، وأنَّ العبد إذا حافظ عليهما كان أشد محافظة على غيرهما.
[133] السابع عشر: عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيماً صَحِيحاً» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: عظيم فضل الله، وأنَّ من كان له عمل دائم فتركه لعذر صحيح، أنه يكتب له مثل عمله.
[134] الثامن عشر: عن جَابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» رواه. البخاري، ورواه مسلم مِنْ رواية حُذَيفة - رضي الله عنه -.
في هذا الحديث: أن كل ما يفعل الإنسان من أعمال البرَّ والخير فهوصدقة يُثاب عليها.
(1/109)
[135] التاسع عشر: عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً إلا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنهُ لَهُ صَدَقَةً، وَلا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلا كَانَ لَهُ صَدَقَةً» . رواه مسلم.
وفي رواية لَهُ: «فَلا يَغْرِسُ المُسْلِمُ غَرْساً فَيَأْكُلَ مِنْهُ إنْسَانٌ وَلا دَابَّةٌ وَلا طَيْرٌ إلا كَانَ لَهُ صَدَقة إِلَى يَومِ القِيَامةِ» .
وفي رواية لَهُ: «لا يَغرِسُ مُسْلِمٌ غَرساً، وَلا يَزرَعُ زَرعاً، فَيَأكُلَ مِنهُ إنْسَانٌ وَلا دَابَةٌ وَلا شَيءٌ، إلا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» .
وروياه جميعاً من رواية أنس - رضي الله عنه -.
قوله: «يَرْزَؤُهُ» أي ينقصه.
في هذا الحديث: سعة كرم الله تعالى، وأنَّه يثيب على ما بعد الحياة، كما يثيب عليه في الحياة، وأنَّ ما أخذ من الإنسان بغير عمله فهو صدقة له.
[136] العشرون: عَنْهُ، قَالَ: أراد بنو سَلِمَةَ أَن يَنتقِلوا قرب المسجِدِ فبلغ ذلِكَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لهم: «إنَّهُ قَدْ بَلَغَني أنَّكُمْ تُرِيدُونَ أنْ تَنتَقِلُوا قُربَ المَسجِد؟» فقالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُول اللهِ قَدْ أَرَدْنَا ذلِكَ. فَقَالَ: «بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، ديَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ» . رواه مسلم.
وفي روايةٍ: «إنَّ بِكُلِّ خَطوَةٍ دَرَجَةً» . رواه مسلم.
ورواه البخاري أيضاً بِمَعناه مِنْ رواية أنس - رضي الله عنه -.
وَ «بَنُو سَلِمَةَ» بكسر اللام: قبيلة معروفة مِنَ الأنصار - رضي الله عنهم -، وَ «آثَارُهُمْ» : خطاهُم.
(1/110)
في هذا الحديث: أنَّ المشي إلى المسجد من الحسنات التي تُكتب لصاحبها. ويشهد له قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس (12) ] .
[137] الحادي والعشرون: عن أبي المنذِر أُبيِّ بنِ كَعْب - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ لا أعْلَمُ رَجلاً أبْعَدَ مِنَ المَسْجِدِ مِنْهُ، وَكَانَ لا تُخْطِئُهُ صَلاةٌ، فَقيلَ لَهُ أَوْ فَقُلْتُ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَاراً تَرْكَبُهُ في الظَلْمَاء وفي الرَّمْضَاء؟ فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أنَّ مَنْزِلي إِلَى جَنْبِ المَسْجِدِ إنِّي أريدُ أنْ يُكْتَبَ لِي
مَمشَايَ إِلَى المَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أهْلِي فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ جَمَعَ اللهُ لَكَ ذلِكَ كُلَّهُ» . رواه مسلم.
وفي رواية: «إنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ» .
«الرَّمْضَاءُ» : الأرْضُ التي أصابها الحر الشديد.
في هذا الحديث: دليل على فضل تكثير الخطا إلى الذهاب إلى المسجد، وأنه يكتب له أجر ذهابه إلى المسجد ورجوعه إلى أهله.
[138] الثاني والعشرون: عن أبي محمد عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاصِ
رَضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرْبَعُونَ خَصْلَةً: أعْلاَهَا مَنيحَةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَة مِنْهَا؛ رَجَاءَ ثَوَابِهَا وتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إلا أدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ» . رواه البخاري.
«المَنيحَةُ» : أنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا لِيَأكُلَ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ.
قوله: «أربعون خصلة» . أي: من البِرّ دون منيحة العنز، كالسلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق، ونحوذلك من أعمال الخير، قال الله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة (7) ] .
(1/111)
[139] الثالث والعشرون: عن عَدِي بنِ حَاتمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سمعت النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ تَمْرَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لهما عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرى إلا مَا قَدَّمَ، وَيَنظُرُ بَيْنَ يَدَيهِ فَلا يَرَى إلا
النَّار تِلقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» .
في هذا الحديث: الحضُّ على الزيادة من صالح العمل، والتقليل من سيء العمل، وأنَّ الصدقة حجاب عن النار، ولو قَلَّت بمال، أو كلام.
[140] الرابع والعشرون: عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «إنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أنْ يَأكُلَ الأَكْلَةَ، فَيَحمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» . رواه مسلم.
وَ «الأَكْلَةُ» بفتح الهمزة: وَهيَ الغَدْوَةُ أَو العَشْوَةُ.
في هذا الحديث: بيان فضل الحمد عند الطعام والشراب، وهذا من كرم الله تعالى، فإنه الذي تفضَّل عليك بالرزق، ورضي عنك بالحمد.
[141] الخامس والعشرون: عن أَبي موسى - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ:
«عَلَى كلّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» قَالَ: أرأيتَ إنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» قَالَ: أرأيتَ إن لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ» قَالَ: أرأيتَ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، قَالَ: «يَأمُرُ
(1/112)
بِالمعْرُوفِ أوِ الخَيْرِ» قَالَ: أرَأيْتَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: الحثُّ على اكتساب ما تدعو إليه حاجة الإنسان من طعام، وشراب، وملبس، ليصون به وجهه عن الناس، واكتساب ما يتصدق به ليحصل له الثواب الجزيل.
وفيه: فضل إعانة المحتاج والمضطر، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
وفيه: فضل الأمر بالمعروف والخير.
وفيه: أنَّ الإمساك عن الشرّ صدقةٌ.
14- باب الاقتصاد في الطَّاعَة
قَالَ الله تَعَالَى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه (1، 2) ] .
أي: لتتعب
الاقتصادُ: التوسُّط في العبادة إبقاء للنفس، ودفعًا للملل؛ لأنَّ النفس كالدابة إذا رَفق بها صاحبها حصل مراده، وإن أتعبها انقطعت.
قال الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قام به هو وأصحابه فقال المشركون من قريش: ما أُنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى. فأنزل الله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} [طه (1: 3) ] .
قال قتادة: لا والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونورًا ودليلاً إلى الجنة.
قال مجاهد: هي كقوله: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل (20) ] . وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة.
(1/113)
وَقالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة (185) ] .
نزلت هذا الآية في جواز الفطر في السفر، وهي عامة في جميع أمور الدين كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج (78) ] .
[142] وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دخل عَلَيْهَا وعِندها امرأةٌ، قَالَ: «مَنْ هذِهِ؟» قَالَتْ: هذِهِ فُلاَنَةٌ تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا. قَالَ: «مهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَواللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَ «مهْ» : كَلِمَةُ نَهْي وَزَجْر. ومَعْنَى «لا يَمَلُّ اللهُ» : لا يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَنْكُمْ وَجَزَاء أَعْمَالِكُمْ ويُعَامِلُكُمْ مُعَامَلةَ المَالِّ حَتَّى تَمَلُّوا فَتَتْرُكُوا، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مَا تُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيهِ لَيدُومَ ثَوابُهُ لَكُمْ وَفَضْلُهُ عَلَيْكُمْ.
قال ابن الجوزي: إنما أحَبَّ العمل الدائمَ؛ لأنَّ مداوم الخير ملازم للخدمة.
وقال المصنف: بدوام القليل تستمر الطاعة، بالذكر، والمراقبة والإخلاص، والإقبال على الله.
[143] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أُخْبِروا كَأَنَّهُمْ
(1/114)
تَقَالُّوهَا وَقَالُوا: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ. قَالَ أحدُهُم: أمَّا أنا
فَأُصَلِّي اللَّيلَ أبداً. وَقالَ الآخَرُ: وَأَنَا أصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ. وَقالَ الآخر: وَأَنا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أتَزَوَّجُ أبَداً. فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فَقَالَ: «أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا واللهِ إنِّي لأخْشَاكُمْ للهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الخشية: خوفٌ مقرون بمعرفة. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر (28) ] . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر ليتقوَّى على الصوم، وينام ليتقوَّى على القيام، ويتزوَّج لكسر الشهوة وإعفاف النفس.
وفي الحديث: النهي عن التعمُّق في الدين والتشبه بالمبتدعين.
[144] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ» . قالها ثَلاثاً. رواه مسلم.
«المُتَنَطِّعونَ» : المتعمقون المتشددون في غير موضِعِ التشديدِ.
المتنطَّع: المتكلَّف في العبادة بما يشق فعله ولا يلزمه، والخائضُ فيما لا يعنيه وفيما لا يبلغه عقله.
[145] عن أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» . رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» .
(1/115)
قوله: «الدِّينُ» : هُوَ مرفوع عَلَى مَا لَمْ يسم فاعله. وروي منصوباً وروي «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ» . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إلا غَلَبَهُ» : أي غَلَبَهُ الدِّينُ وَعَجَزَ ذلِكَ المُشَادُّ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ. وَ «الغَدْوَةُ» : سير أولِ النهارِ. وَ «الرَّوْحَةُ» : آخِرُ النهارِ. وَ «الدُّلْجَةُ» : آخِرُ اللَّيلِ.
وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ - عز وجل - بِالأَعْمَالِ في وَقْتِ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيثُ تَسْتَلِذُّونَ العِبَادَةَ ولا تَسْأَمُونَ وتبلُغُونَ مَقْصُودَكُمْ، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ الحَاذِقَ يَسيرُ في هذِهِ الأوْقَاتِ ويستريح هُوَ وَدَابَّتُهُ في غَيرِهَا فَيَصِلُ المَقْصُودَ بِغَيْرِ تَعَب، واللهُ أعلم.
معنى الحديث: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه، فتوسطوا من غير إفراط، ولا تفريط، وقاربوا إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل، فاعملوا ما يقرب منه، وأبشروا بالثواب على العمل الدائم وإنْ قل، واستعينوا على تحصيل العبادات بفراغكم ونشاطكم، قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح (7، 8) ] .
[146] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الحَبْلُ؟» قالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ. فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «حُلُّوهُ، لِيُصلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذ الحديث: الحث على الاقْتِصاد في العبادة، والنهي عن التعمُّق فيها، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وجواز تنفُّل النساء في المسجد إذا أمنت الفتنة.
(1/116)
[147] وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّومُ، فإِنَّ أحدكم إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: أمر الناعس في الصلاة أنْ ينصرف منها، يعني: بعدما يتمها خفيفة.
[148] وعن أَبي عبد الله جابر بن سمرة رضي الله عنهما، قَالَ: كُنْتُ أصَلِّي مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَوَاتِ، فَكَانتْ صَلاتُهُ قَصْداً وَخُطْبَتُهُ قَصْداً. رواه مسلم.
قوله: «قَصْداً» : أي بين الطولِ والقِصرِ.
في هذا الحديث: استحباب القصد في الصلاة، والخطبة وجميع الأمور.
[149] وعن أبي جُحَيْفَة وَهْب بنِ عبد اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: آخَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبي الدَّرْداءِ، فَزارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرداءِ فَرَأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأنُكِ؟ قَالَتْ: أخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فَجاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أنا بِآكِلٍ حَتَّى تَأكُلَ فأكل، فَلَمَّا كَانَ اللَّيلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّردَاءِ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ:
نَمْ، فنام، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ من آخِر اللَّيلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُم الآن، فَصَلَّيَا جَمِيعاً فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقّاً، وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقّاً، فَأعْطِ
(1/117)
كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صَدَقَ سَلْمَانُ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: مشروعية المؤاخاة في الله، وزيارة الإخوان، والمبيت عندهم، وجواز مخاطبة الأجنبية للحاجة، والنصح للمسلم، وتنبيه من غفل، وفضل قيام آخر الليل، وجواز النهي عن المستحبات إذا خشي أنَّ ذلك يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة، وكراهية الحمل على النفس في العبادة، وجواز الفطر من صوم التطوع للحاجة والمصلحة.
[150] وعن أَبي محمد عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: أُخْبرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنِّي أقُولُ: وَاللهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنتَ الَّذِي تَقُولُ ذلِكَ؟» فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بأبي أنْتَ وأمِّي يَا رسولَ الله. قَالَ: «فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثةَ أيَّامٍ، فإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا وَذَلكَ مِثلُ صِيامِ الدَّهْرِ» قُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَوماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» قُلْتُ: فَإنِّي أُطِيقُ أفضَلَ مِنْ ذلِكَ، قَالَ: «فَصُمْ يَوماً وَأفْطِرْ يَوماً فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُد - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ أعْدَلُ الصيامِ» .
وفي رواية: «هُوَ أفْضَلُ الصِّيامِ» فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أفضَلَ مِنْ ذلِكَ» ، قال: وَلأنْ أكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيّامِ الَّتي قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أحَبُّ إليَّ مِنْ أهْلي وَمَالي.
وفي رواية: «أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وتَقُومُ اللَّيلَ؟» قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُول الله، قَالَ: «فَلا تَفْعَلْ: صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ؛ فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِعَيْنَيكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ
(1/118)
حَقّاً، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وَإنَّ بِحَسْبِكَ أنْ تَصُومَ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ، فإنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذلِكَ صِيَامُ الدَّهْر» فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إنِّي أجِدُ قُوَّةً، قَالَ: «صُمْ صِيَامَ نَبيِّ الله دَاوُد وَلا تَزد عَلَيهِ» قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ دَاوُد؟ قَالَ: «نِصْفُ الدَّهْرِ» فَكَانَ عَبدُ الله يقول بَعدَمَا كَبِرَ: يَا لَيتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَة رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي رواية: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهرَ، وَتَقْرَأُ القُرآنَ كُلَّ لَيْلَة؟» فقلت: بَلَى، يَا رَسُول الله، وَلَمْ أُرِدْ بذلِكَ إلا الخَيرَ، قَالَ: «فَصُمْ صَومَ نَبيِّ اللهِ دَاوُد، فَإنَّهُ كَانَ أعْبَدَ النَّاسِ، وَاقْرَأ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْر» قُلْتُ: يَا نَبيَّ اللهِ، إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ: «فاقرأه في كل عشرين» قُلْتُ: يَا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلِكَ؟ قَالَ: «فَاقْرَأهُ في كُلِّ عَشْر» قُلْتُ: يَا نبي اللهِ، إنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ: «فاقْرَأهُ في كُلِّ سَبْعٍ وَلا تَزِدْ عَلَى ذلِكَ» فشدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ وَقالَ لي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكَ لا تَدرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ» قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى
الَّذِي قَالَ لي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ قَبِلتُ رُخْصَةَ نَبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي رواية: «وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً» .
وفي رواية: «لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» ثلاثاً.
وفي رواية: «أَحَبُّ الصِيَامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُد، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صَلاةُ دَاوُدَ: كَانَ ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وَلا يَفِرُّ إِذَا لاقَى» .
(1/119)
وفي رواية قال: «أنْكَحَني أَبي امرَأةً ذَاتَ حَسَبٍ وَكَانَ يَتَعَاهَدُ كنَّتَهُ - - أي: امْرَأَةَ وَلَدِهِ - فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا. فَتقُولُ لَهُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشاً، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفاً مُنْذُ أتَيْنَاهُ. فَلَمَّا طَالَ ذلِكَ عَلَيهِ ذَكَرَ ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «القِنِي بِهِ» فَلَقيتُهُ بَعد ذلك، فَقَالَ: «كَيْفَ تَصُومُ؟» قُلْتُ: كُلَّ يَومٍ، قَالَ: «وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟» قُلْتُ: كُلَّ لَيْلَةٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أهْلِهِ السُّبُعَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ، يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ ليَكُونَ أخفّ عَلَيهِ باللَّيلِ، وَإِذَا أَرَادَ أنْ يَتَقَوَّى أفْطَرَ أيَّاماً وَأحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كرَاهِيَةَ أنْ يَترُكَ شَيئاً فَارَقَ عَلَيهِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -.
كل هذِهِ الرواياتِ صحيحةٌ، مُعظمُها في الصحيحين، وقليل مِنْهَا في أحدِهِما.
في هذا الحديث: دليل على أنَّ أفضل الصيام صوم يوم وإفطار يوم وكراهة الزيادة على ذلك.
قال الخطابي: محصل قصة عبد الله بن عمرو: أنَّ الله تعالى لم يتعبد عبده بالصوم خاصة، بل تعبّده بأنواعٍ من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصَّر في غيره، فالأَوْلى الاقتصاد فيه ليتبقى بعض القوة لغيره.
قال الحافظ: وفي قصة عبد الله بن عمرو من الفوائد: بيان رفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمته، وشفقته عليهم، وإرشاده إياهم إلى ما يصلحهم، وحثّه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمُّق في العبادة لما يخشى من إفضائه إلى الملل أو ترك البعض، وقد ذم الله تعالى قومًا لا زموا العبادة ثم فرطوا فيها.
وفيه: جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة، والأوراد، ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أنَّ محل ذلك عند أمن الرياء. انتهى ملخصًا.
(1/120)
[151] وعن أبي رِبعِي حنظلة بنِ الربيعِ الأُسَيِّدِيِّ الكاتب أحدِ كتّاب
رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكر - رضي الله عنه - فَقَالَ: كَيْفَ أنْتَ يَا حنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ! قَالَ: سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ؟! قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يُذَكِّرُنَا بالجَنَّةِ وَالنَّارِ كأنَّا رَأيَ عَيْنٍ فإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَافَسْنَا الأَزْواجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيراً، قَالَ أَبُو بكر - رضي الله عنه -: فَوَالله إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فانْطَلَقْتُ أَنَا وأبُو بَكْر حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُول اللهِ! فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَا ذَاكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ والجَنَّةِ كأنَّا رَأيَ العَيْن فإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْواجَ وَالأَوْلاَدَ
وَالضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيراً. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونونَ عِنْدِي، وَفي الذِّكْر، لصَافَحَتْكُمُ الملائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وسَاعَةً» ثَلاَثَ مَرَات. رواه مسلم.
قولُهُ: «رِبْعِيٌّ» بِكسر الراء. وَ «الأُسَيِّدِي» بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشددة. وقوله: «عَافَسْنَا» هُوَ بِالعينِ والسينِ المهملتين أي: عالجنا ولاعبنا. وَ «الضَّيْعاتُ» : المعايش.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ساعة وساعة» ، أي: ساعة لأداء العبودية، وساعة للقيام بما يحتاجه الإنسان.
قال بعض العارفين: الحال التي يجدونها عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الذكر ... مواجيد، والمواجيد تجيء وتذهب، وأما المعرفة، فهي ثابتة لا تزول.
(1/121)
وفي حديث أبي ذر المشهور: «وعلى العاقل أنْ يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكَّر فيها في سمع الله إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من مطعم ومشرب» . وبالله التوفيق.
[152] وعنِ ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: بينما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب إِذَا هُوَ برجلٍ قائم فسأل عَنْهُ، فقالوا: أَبُو إسْرَائيلَ نَذَرَ أنْ يَقُومَ في الشَّمْسِ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِل، وَلا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مُرُوهُ، فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: دليل على أنَّ من تقرَّب إلى الله تعالى بعمل لم يتعبده الله به، أنه لا يلزمه فعله، وإنْ نذره.
ومن نذر عبادة مشروعة لزمه فعلها.
وفي الحديث الآخر: «من نذر أنْ يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» .
15- باب المحافظة عَلَى الأعمال
قَالَ الله تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد (16) ] .
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ} ، يعني ألم يحن.
قيل: نزلت في شأن الصحابة لما أكثروا المزاح.
وَقالَ تَعَالَى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد (27) ] .
(1/122)
الرهبانية التي ابتدعوها: رفض النساء: واتخاذ الصوامع.
وفيه: تنبيه على أنَّ مَن أوجب على نفسه شيئًا لزمه.
وَقالَ تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل (92) ] .
وهي امرأة حمقاء من أهل مكة، كانت تغزل طول يومها ثم تنقضه.
قال الخازن: والمعنى: أن هذه المرأة لم تكف عن العمل، ولا حين عملت كفت عن النقض، فكذلك من نقص عهده لا تركه، ولا حين عاهد وفَى به. انتهى.
والآية عامة في كل من أبطل عمله.
وَقالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر (99) ] .
أي: دُمْ على عبادة ربك حتى يأيتك الموت.
وَأَمَّا الأَحاديث فمنها:
حديث عائشة: وَكَانَ أَحَبُّ الدِّين إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ. وَقَدْ سَبَقَ في البَاب قَبْلَهُ.
[153] وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبهِ مِنَ اللَّيلِ، أَوْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلاةِ الفَجْرِ وَصَلاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيلِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: دليل على أنَّ كل وَرْدٍ من قول أو فعل، يفوت الإنسان أنه يثبت له أجره إذا قضاه كاملاًً.
(1/123)
[154] وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رَضِيَ الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عبدَ اللهِ، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلان، كَانَ يَقُومُ اللَّيلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من خير، وكراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة.
[155] وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مِنَ اللَّيلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيرِهِ، صَلَّى مِنَ النَّهارِ ثنْتَيْ عَشرَةَ رَكْعَةً. رواه مسلم.
في هذا الحديث: دليل على مشروعية قضاء صلاة الليل، وكذلك سائر النوافل.
وفي الحديث: «من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح، أو ذكر» رواه أبو داود.
16- باب في الأمر بالمحافظة عَلَى السنة وآدابها
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر (7) ] .
في هذا الآية دليل على وجوب امتثال أوامره ونواهيه - صلى الله عليه وسلم -
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم (3، 4) ] .
(1/124)
أي: لا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا حقًّا، وليس عن هوى ولا غرض؛ لأنَّ ما يقوله وحيٌ من الله عز وجلّ.
وَقالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران (31) ] .
نزلت هذه الآية حين ادَّعى أهل الكتاب محبَّة الله فمن ادَّعى محبة الله وهو على غير الطريقة المحمدية فهو كاذب في نفس الأمر.
قال بعض العلماء: ليس الشأن أن تحِب إِنما الشأن أن تُحَبَّ.
قال الحسن البصري: زعم قوم أنهم يحبُّون الله فابتلاهم الله بهذه الآية.
وَقالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} [الأحزاب (21) ] .
الأُسوة: الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في أقواله، وأفعاله، وأحواله.
وَقالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء (65) ] .
سبب نزول هذه الآية: أنَّ رجلاً من الأنصار خاصمه الزبير في شراج الحرة كانا يسقيان به كلاهما، وكان الزبير الأعلى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسقِ يَا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاري فقال: يَا رسول الله، أن كان ابن عمِتك، فَتَلَوَّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال للزبير: «اسقِ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، فاستوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ حق الزبير، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار على الزبير برأي أراد سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استوعى للزبير حقه، في صريح الحكم. قال الزبير: «والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
(1/125)
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء (65) ] .
قال ابن كثير: يُقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يَجِبُ الانقياد له ظاهرًا وباطنًا. كما ورد في الحديث: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» .
وَقالَ تَعَالَى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء (59) ] .
قَالَ العلماء: معناه إِلَى الكتاب والسُنّة.
وَقالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء (80) ] .
أي: من يطع الرسول فيما أمر به فقد أطاع الله؛ لأنَّ الله أمر بطاعته وإتباعه.
وَقالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى (52) ] .
يعني: دين الإسلام.
وَقالَ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور (63) ] .
في هذه الآية: وعيد شديد لمن خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، إما فتنة في الدنيا أو عذاب في الآخرة.
وَقالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب (34) ] .
(1/126)
في هذه الآية: أمرٌ لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا ينسيَنَّ هذه النعمة الجليلة القدر وهي ما يُتلى في بيوتهن من كتاب الله تعالى، وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والآيات في الباب كثيرة.
أي: في باب المحافظة على السنة والاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - واتباعه.
وَأَما الأحاديث:
[156] فالأول: عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤالِهِمْ واخْتِلافُهُمْ عَلَى أنْبيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْء فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أمَرْتُكُمْ بشيءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
هذا الحديث له سبب، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب وقال: «يا أيها النَّاس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» ، فقال رجلٌ: أكُلُّ عام يا رسول الله؟ فسكتَ حتى قالها مرارًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلت: نعم. لوجبت، ولما استطعتم» ، ثم قال: «دعوني ما تركتكم..» الحديث.
وهو من قواعد الإسلام المهمة، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر (59) ] . وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن (16) ] .
ويُستفاد منه: كراهة كثرة المسائل من غير ضرورة.
قال مالك رحمه الله تعالى: «المِراء والجدال يذهب بنور العلم من قلب الرجل» .
وفي بعض الآثار: «إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العلم، وأغلق عنه
(1/127)
باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًّا فتح له باب الجدل وأغلق عنه باب العلم» .
[157] الثاني: عن أَبي نَجيحٍ العِرباضِ بنِ سَارية - رضي الله عنه - قَالَ: وَعَظَنَا
رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَوعظةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رسولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأوْصِنَا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيراً، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِيِّنَ عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة» . رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ: «حديث حسن صحيح» .
«النَّواجذُ» بالذال المعجمةِ: الأنيَابُ، وَقِيلَ: الأضْراسُ.
الخلفاء الراشدون هم: أبو بكر وعمر وعثمان، وعلي رضي الله عنهم.
وفي الحديث: التمسُّك بالسنَّة في الاعتقاد والأعمال والأقوال، والتحذير من البِدع، وهي ما أُحْدث في الدين مما لا أصل له في الشريعة.
قوله: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة» . هاتان الكلمتان تَجْمَعَان سعادة الدنيا والآخرة.
قال الحسن: والله لا يستقيم الدِّينُ إلا بالأُمراء وإن جاروا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون.
(1/128)
[158] الثَّالثُ: عَنْ أَبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلا مَنْ أبَى» . قيلَ: وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: أعظم بشارة للطائعين من هذه الأمة، وأن كُلّهم يدخلون الجنة إلا من عصى الله ورسوله واتَّبع شهواته وهواه، قال الله تعالى {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ... [النازعات (37: 41) ] .
[159] الرابع: عن أَبي مسلم، وقيل: أَبي إياس سَلمة بنِ عمرو بنِ الأكوع - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينكَ» قَالَ: لا أسْتَطيعُ. قَالَ: «لا استَطَعْتَ» . مَا مَنَعَهُ إلا الكِبْرُ فمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ. رواه مسلم.
في هذا الحديث: مشروعية الأكل باليمين، وكراهة الأكل بالشمال مع عدم العذر.
[160] الخامس: عن أَبي عبدِ الله النعمان بن بشير رَضيَ الله عنهما، قَالَ: سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا حتى كأنَّما يُسَوِّي بِهَا القِدَاحَ حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ. ثُمَّ خَرَجَ يَوماً فقامَ حَتَّى كَادَ أنْ يُكَبِّرَ فرأَى رَجلاً بَادياً صَدْرُهُ، فَقَالَ: «عِبَادَ الله، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» .
(1/129)
في هذا الحديث: وعيدٌ شديد على من لم يسوَّ الصفوف، والحثّ على تسويتها، وجواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة.
[161] السادس: عن أَبي موسى - رضي الله عنه - قَالَ: احْتَرقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ عَلَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيلِ، فَلَمَّا حُدِّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشَأنِهِمْ، قَالَ: «إنَّ هذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ، فَأطْفِئُوهَا عَنْكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: الأمر بإطفاء النار عند الرقاد، لما يخشى من الاحتراق ويدخل فيه نار السراج وغيره، إلا أنْ يُؤْمَن الضرر.
[162] السابع: عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْم كَمَثَلِ غَيثٍ أَصَابَ أرْضاً فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أمسَكَتِ المَاء فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَربُوا مِنْهَا وَسَقُوا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائفةً مِنْهَا أخْرَى إنَّمَا هِيَ قيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في
دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ بمَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«فَقُهَ» بضم القافِ عَلَى المشهور وقيل بكسرِها: أي صار فقيهاً.
قال القرطبي: هذا مثل ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء به من الدين، وشبّه السامعين له بالأرض المختلفة.
(1/130)
فمنهم: العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها.
ومنهم: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقَّه فيما جمع، لكنه أدَّاه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي، فأدَّاها كما سمعها» .
ومنهم: من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة، أو الملساء التي لا تقبل الماء، أو تفسده. انتهى مُلخَّصًا.
والحاصل أنَّ الناس في الدِّين ثلاثة أقسام:
قوم عَلِموا وعَمِلوا، وهم عامة المؤمنين.
وقوم علموا وعملوا وعلَّموا، وهم العلماء.
وقوم لم يعملوا، وهم الكفار والفاسقون.
[163] الثامن: عن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أوْقَدَ نَاراً فَجَعَلَ الجَنَادِبُ والفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخذٌ بحُجَزكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأنْتُمْ تَفَلَّتونَ مِنْ يَدَيَّ» . رواه مسلم.
«الجَنَادِبُ» : نَحوُ الجرادِ وَالفَرَاشِ، هَذَا هُوَ المَعْرُوف الَّذِي يَقَعُ في النَّارِ. وَ «الحُجَزُ» : جَمْعُ حُجْزَة وَهِيَ مَعْقدُ الإزَار وَالسَّراويل.
شبَّه - صلى الله عليه وسلم - تساقطَ الجاهلينَ والمخالفينَ بمعاصيهم، وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إيّاهم بتساقط الفَرَاش في نار الدنيا، لهواه وضعف تمييزه، وكلاهما ساع في هلاك نفسه لجهله.
(1/131)
[164] التاسع: عَنْهُ أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِلَعْقِ الأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: «إنَّكُمْ لا تَدْرونَ في أَيِّها البَرَكَةُ» . رواه مسلم.
وفي رواية لَهُ: «إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأخُذْهَا، فَليُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أذىً، وَلْيَأكُلْهَا وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيطَانِ، وَلا يَمْسَحْ يَدَهُ بالمنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أصَابعَهُ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي في أيِّ طَعَامِهِ البَرَكَةُ» .
وفي رواية لَهُ: «إنَّ الشَّيطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيءٍ مِنْ شَأنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإذَ سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَليُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أذَىً، فَلْيَأكُلْهَا وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيطَانِ» .
في هذا الحديث: الحث على كسر النفس بالتواضع، وأخْذ اللقمة الساقطة، ولا يدعها كما يفعله بعض المتْرفين استكبارًا والأمر بلَعْق الأصابع والصحفة.
[165] العاشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَوعِظَةٍ، فَقَالَ: «يَا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ مَحْشُورونَ إِلَى الله تَعَالَى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء (104) ] .
ألا وَإنَّ أَوَّلَ الخَلائِقِ يُكْسى يَومَ القِيَامَةِ إبراهيمُ - صلى الله عليه وسلم -، ألا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرجالٍ مِنْ أُمَّتي فَيُؤخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشَّمالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أصْحَابِي. فَيُقَالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأقُولُ كَما قَالَ العَبدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قولِهِ: {العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة (117، 118) ] فَيُقَالُ لِي: إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«غُرْلاً» : أي غَيرَ مَخْتُونِينَ.
(1/132)
قال الخطابي: فيه إشارة إلى قلَّة عدد من وقع لهم ذلك، وإنما وقع ذلك لبعض جفاة الأعراب، ولم يقع لأحد من الصحابة المشهورين.
[166] الحادي عشر: عن أَبي سعيد عبد الله بن مُغَفَّلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الخَذْفِ، وقالَ: «إنَّهُ لا يَقْتُلُ الصَّيْدَ، وَلا يَنْكَأُ العَدُوَّ، وإنَّهُ يَفْقَأُ العَيْنَ، وَيَكْسِرُ السِّنَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: أنَّ قَريباً لابْنِ مُغَفَّل خَذَفَ فَنَهَاهُ، وَقالَ: إنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَن الخَذْفِ، وَقَالَ: «إنَّهَا لا تَصِيدُ صَيداً» ثُمَّ عادَ، فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ عُدْتَ تَخذفُ!؟ لا أُكَلِّمُكَ أَبَداً.
الخذف: رمي الحصى بالسبابة والإبهام، أو بالسبابتين.
وفيه: هجران أهل البدع والفسوق، ومُنَابِذِي السنَّة مع العلم.
[167] وعَن عابس بن رَبيعة، قَالَ: رَأيْتُ عُمَرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - يُقَبِّلُ الحَجَرَ - يَعْنِي: الأسْوَدَ - وَيَقُولُ: إني أَعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ وَلا تَضُرُّ، وَلَولا أنِّي رَأيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الإتباع فيما لم يكشف عن معانيه، وهي قاعدة عظيمة في إتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله، ولو لم نعلم الحكمة فيه.
وفيه: دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحَجَر خاصية ترجع إلى ذاته.
وفيه: بيان السُّنَنِ بالقول، والفعل، وأنَّ الإمام إذا خشِيَ على أحد من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر.
(1/133)
17- باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى
وما يقوله من دُعِيَ إلى ذلك وأُمر بمعروف أو نُهي عن منكر.
قال الله تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء 65]
أقسم سبحانه وتعالى أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكٌم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما له وعليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواهُ تبعًا لما جئت ... به» .
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور (51) ] .
يخبر تعالى أن قول المؤمنين إذا دُعُوا إلى حكم الله وحكم رسوله خلاف قول المنافقين، فإن المنافقين إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أعرضوا، وإن كان الحق لهم أتوا. وأما المؤمنون فيقولون: سمعنا وأطعنا سواءً كان الحق لهم أو عليهم.
وفيه من الأحاديث: حديث أَبي هريرة المذكور في أول الباب قبله، وهو قوله: «إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْء فَاجْتَنِبُوه ... » الحديث..
وغيره من الأحاديث فِيهِ.
الدالَّة على وجوب طاعة الله ورسوله.
(1/134)
[168] عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: {للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} الآية [البقرة (284) ] .
اشْتَدَّ ذلِكَ عَلَى أصْحَابِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأتَوا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أيْ رسولَ الله، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلاةَ والجِهَادَ والصِّيامَ والصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِهِ الآيَةُ وَلا نُطيقُها. قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكتَابَينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ» [قَالُوا: سمعنا وأَطعنا غفرانك ربنا وإِليك المصير] .
فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا القومُ، وَذَلَّتْ بِهَا ألْسنَتُهُمْ أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى في إثرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة (285) ] فَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأنزَلَ الله - عز وجل -: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قَالَ: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} قَالَ: نَعَمْ {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قَالَ: نَعَمْ. رواه مسلم.
(1/135)
قال السدي: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [البقرة (286) ] طاقتها وحديث النفس مما لا يطيقون.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل» .
18- باب النهي عن البدع ومحدثات الأمور
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلال} [يونس (32) ] .
أي: لأنهما ضِدَّان وبترك الحق يقع الضلال، والحق ما جاء به الكتاب والسنة.
وَقالَ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام (38) ] .
قال البغوي: الكتاب: اللوح المحفوظ.
وقيل: المراد بالكتاب: القرآن.
وَقالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء (59) ] أيِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
ذكر تعالى في أول هذه الآية الأمر بطاعة الله، وطاعة رسوله، وأولي الأمر، ثم قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء (59) ] ، فإذا اختلف العلماء في حكم من الأحكام قُدَّم الأقرب إلى الدليل من القرآن والحديث.
وَقالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام (153) ] .
(1/136)
الصراط المستقيم: الإسلام. والسُّبُل المتفرقة: هي البدع.
وَقالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران (31) ] .
قال الحسن البصري: زعم قومٌ محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية.
وَالآياتُ في البَابِ كَثيرةٌ مَعلُومَةٌ.
وَأَمَّا اَلأحادِيثُ فَكَثيرَةٌ جداً، وَهيَ مَشْهُورَةٌ فَنَقْتَصِرُ عَلَى طَرَفٍ مِنْهَا:
[169] عن عائشة رَضِي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيهِ أمرُنا فَهُوَ رَدٌّ» .
هذا الحديث: من أصول الدين وقواعده، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهيّ عنها، وفي ردِّ المحدثاث وجميع المنهيّات.
[170] وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ ... عَينَاهُ، وَعَلا صَوتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيشٍ، يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» وَيَقُولُ: «بُعِثتُ أنَا والسَّاعَةُ كَهَاتَينِ» وَيَقْرِنُ بَيْنَ أُصبُعَيهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَيَقُولُ: «أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ الله، وَخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَة ضَلالَةٌ» ثُمَّ يَقُولُ: «أنَا أوْلَى بِكُلِّ مُؤمِنٍ مِنْ نَفسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً فَإلَيَّ وَعَلَيَّ» . رواه مسلم.
(1/137)
محدثات الأمور ما لم يكن معروفًا في الكتاب والسنة ولا أصل له فيهما.
وعن العرباض بن سَارية - رضي الله عنه - حدِيثه السابق في بابِ المحافظةِ عَلَى السنةِ.
وفيه: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنَّتي ... » إلخ.
19- باب فيمن سن سنة حسنة أَوْ سيئة
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان (74) ] .
أي: أئمة يُقْتَدى بنا في الخير، ولنا نفع متعد إلى غيرنا.
وَقالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء (73) ] .
لما صبروا على أوامر الله ومصائبه، فبالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.
[171] عن أَبي عمرو جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: كنا في صَدْرِ ... النَّهَارِ عِنْدَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءهُ قَومٌ عُرَاةٌ مُجْتَابي النِّمَار أَوْ العَبَاء، مُتَقَلِّدِي السُّيُوف، عَامَّتُهُمْ من مضر بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رَأَى بِهِمْ مِنَ الفَاقَة، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: « {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى آخر الآية: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ ... رَقِيباً} ، والآية الأُخْرَى التي في آخر الحَشْرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرهمِهِ، مِنْ ثَوبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشقِّ تَمرَةٍ»
(1/138)
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعجَزُ عَنهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ
تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأيْتُ كَومَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأيْتُ وَجْهَ ... رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُهَا، وَأجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدَهُ، مِنْ غَيرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورهمْ شَيءٌ، وَمَنْ سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهمْ شَيءٌ» . رواه مسلم.
قَولُهُ: «مُجْتَابِي النِّمَارِ» هُوَ بالجيم وبعد الألِف باءٌ مُوَحَّدَةٌ، والنِّمَارِ جَمْعُ نَمِرَةٍ وَهِيَ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ مُخَطَّطٌ. وَمَعْنَى «مُجْتَابِيهَا» ، أي: لاَبِسيهَا قَدْ خَرَقُوهَا في رُؤوسِهِم. وَ «الجَوْبُ» القَطْعُ، ومِنْهُ قَولُهُ تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي نَحتُوهُ وَقَطَعُوهُ. وَقَولُهُ: «تَمَعَّرَ» هُوَ بالعين المهملة: أيْ تَغَيَّرَ. وَقَولُهُ: «رَأَيْتُ كَوْمَينِ» بفتح الكافِ وَضَمِّهَا: أي صُبْرَتَيْنِ. وَقَولُهُ: «كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ» هُوَ بالذال المُعْجَمَةِ وفتح الهاءِ والباءِ الموحَّدةِ قالَهُ القاضي عِيَاضٌ وَغَيرُهُ وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: «مُدْهُنَةٌ» بدَال مهملة وَضَمِّ الهاءِ وبالنونِ وكذا ضبطه الحميدي. والصحيح المشهور هُوَ الأول. والمراد بهِ عَلَى الوجهين: الصفاءُ والاستنارة.
سبب تَمَعُّرِ وَجْه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شدَّة احتياج هؤلاء مع عدم مواساة الأغنياء لهم، مما يدفع ضررهم، ولهذا استنار وجهه حين حصل ما يسدّ فاقتهم.
[172] وعن ابنِ مسعود - رضي الله عنه - أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ مِنْ نَفْس تُقْتَلُ ظُلْماً إلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوْلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنَّهُ كَانَ أوَّلَ مَنْ سَنَّ القَتلَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/139)
ابن آدم المذكور: هو قابيل. والمقتول: هابيل. وهما المذكوران في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} الآيات [المائدة (27) ] .
20- باب في الدلالة عَلَى خير والدعاء إِلَى هدى أَوْ ضلالة
قَالَ تَعَالَى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص (87) ] .
أي: ادع الناس إلى ربك بتوحيده وطاعته.
وَقالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} [النحل (125) ] .
الحكمة: القرآن، أي: ادع إلى دين الله بآيات القرآن ومواعظه، بلين ورفق وحُسْن خطاب.
وَقالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة (2) ] .
وهذا الأمر عام في جميع الطاعات.
وَقالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران (104) ] .
فيه: إشارة إلى أنَّ الدعاة إلى الخير أفضل الأمَّة.
[173] وعن أَبي مسعود عُقبةَ بنِ عمرو الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ» . رواه مسلم.
وأوله عن أبي مسعود قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أبدِع بي فاحملني. قال: «ما عندي» . قال رجل: يَا رسول الله، أنا أدلّه على من يحمله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله» .
(1/140)
[174] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أجُورِهمْ شَيئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ، كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيئاً» . رواه مسلم.
يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت (12، 13) ] .
[175] وعن أَبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يوم خَيبَر: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رجلاً يَفْتَحُ الله عَلَى يَدَيهِ، يُحبُّ اللهَ وَرَسولَهُ، ويُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» ، فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أيُّهُمْ يُعْطَاهَا. فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا. فَقَالَ: «أينَ عَلِيُّ بنُ أَبي طالب؟» فقيلَ: يَا رسولَ الله، هُوَ يَشْتَكي عَيْنَيهِ. قَالَ: «فَأَرْسِلُوا إِلَيْه» فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في
عَيْنَيْهِ، وَدَعَا لَهُ فَبَرِئَ حَتَّى كأنْ لَمْ يكُن بِهِ وَجَعٌ، فأعْطاهُ الرَّايَةَ. فقَالَ عَليٌّ - رضي الله عنه -: يَا رَسُول اللهِ، أقاتِلُهمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتهمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلاَمِ، وَأخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، فَوَالله لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «يَدُوكُونَ» : أي يَخُوضُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ. وقوله: «رِسْلِكَ» بكسر الراءِ وبفتحها لغتانِ، والكسر أفصح.
(1/141)
في هذا الحديث: بيانُ فضل الدعاء إلى الهدى، وعظيمِ أجر من اهتدى بسببه أحد.
[176] وعن أنس - رضي الله عنه -: أن فتىً مِنْ أسلم قَالَ: يَا رَسُول الله، إنِّي أُرِيدُ الغَزْوَ وَلَيْسَ معي مَا أتَجَهَّز بِهِ، قَالَ: «ائتِ فُلاَناً فإنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ فَمَرِضَ» فَأتَاهُ، فَقَالَ: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقْرِئُكَ السَّلامَ، وَيَقُولُ: أعْطني الَّذِي تَجَهَّزْتَ بِهِ، فَقَالَ: يَا فُلاَنَةُ، أعْطِيهِ الَّذِي تَجَهَّزْتُ بِهِ، وَلا تَحْبِسي مِنْهُ شَيئاً، فَواللهِ لا تَحْبِسِين مِنْهُ شَيئاً فَيُبَاركَ لَكِ فِيهِ. رواه مسلم.
في هذا الحديث: أنَّ من نوى صرف شيء في خير وتعذَّر عليه، استُحبَّ له بذلك في خير آخر. ومناسبة الحديث للترجمة دلالته - صلى الله عليه وسلم - لذلك المنقطع على ذلك الذي تجهز ثم مرض.
21- باب التعاون عَلَى البر والتقوى
قَالَ الله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة (2) ] .
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالتعاون على الطاعات وترك المعاصي.
وَقالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر (1: 3) ] .
قَالَ الإمام الشافعي - رَحِمَهُ الله - كلاماً معناه: إنَّ النَّاسَ أَوْ أكثرَهم في غفلة عن تدبر هذِهِ السورة.
صرَّح بكلام الشافعي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقال: قال الشافعي رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم. يعني أنها تضمنت أحوال الناس، فأخبر تعالى أنَّ الناس كلهم في خسار إلا مَنْ آمن وعمل صالحًا وصبر.
(1/142)
[177] وعن أَبي عبد الرحمن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَهَّزَ غَازِياً في سَبيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيرٍ فَقَدْ غَزَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: أنَّ مَن أعان على فعل خير كان له مثل أجر عامله.
[178] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثاً إِلَى بني لِحْيَان مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ: «لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالأجْرُ بَيْنَهُمَا» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: دلالة على أنَّ الغازي والخالف له بخير، أجرهما سواء.
[179] وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْباً بالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟» قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنتَ؟ قَالَ: «رَسُول الله» ، فرفعت إِلَيْه امرأةٌ صبياً، فَقَالَتْ: ألِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أجْرٌ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: دليل على صحة حج الصبي وثبوت أجر وليِّه، ولا تجزيه عن حجة الإسلام.
[180] وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ: «الخَازِنُ المُسْلِمُ الأمِينُ الَّذِي يُنفِذُ مَا أُمِرَ بِهِ فيُعْطيهِ كَامِلاً مُوَفَّراً طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ، أحَدُ المُتَصَدِّقين» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ» وضبطوا «المُتَصَدِّقَينِ» بفتح
(1/143)
القاف مَعَ كسر النون عَلَى التثنية، وعكسه عَلَى الجمعِ وكلاهما صحيح.
نبّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «كاملاً موفرًا طيبة بها نفسه» . على ما هو الغالب على خزان المال من الطمع والعبوس والحسد، فمن فعل ذلك فهو أبخل البخلاء، ومن دفعه كاملاً بغير تكدير فله أجر المعطي.
22- باب النصيحة
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات (10) ] .
في التعبير بالأُخوَّة إيماء إلى تأكيد النصيحة.
وَقالَ تَعَالَى: إخباراً عن نوحٍ - صلى الله عليه وسلم -: {وَأنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف (62) ] .
وعن هود - صلى الله عليه وسلم -: {وَأنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أمِينٌ} [الأعراف (68) ] .
قال بعض العلماء: علامة النصيحة ثلاث: اغتمام القلب بمصائب المسلمين، وبذل النصح لهم وإرشادهم إلى مصالحهم وإنْ جهلوا وكَرِهُوْهُ.
وأما الأحاديث:
[181] فالأول: عن أَبي رُقَيَّةَ تَمِيم بن أوس الداريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحةُ» قلنا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» . رواه مسلم.
هذا الحديث: عليه مدار الإسلام، والنصيحةُ عماد الدين وقوامه.
فالنصيحة لله: الإيمان به، ونفي الشريك عنه، ووصفه بصفات الكمال، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه، والبعض فيه، وشكره على نعمه.
والنصيحة لكتابه: الإيمان بأنه تنزيله، وتلاوته، والعمل به، وتفهم علومه، وأمثاله.
(1/144)
والنصيحة لرسوله: تصديقه، وطاعته ونصرُ سنته.
والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم، وتنبيههم، وتذكيرهم برفق، وترك الخروج عليهم، والدعاء لهم.
والنصيحة لعامتهم: إرشادهم لمصالحهم في دينهم ودنياهم، وإعانتهم، وستر عوراتهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق.
[182] الثاني: عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: بَايَعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: وجوب النصيحة، وهي لازمة على قدر الحاجة، إذا علم الناصح أنه يُقبل نصحه وأمن على نفسه المكروه.
[183] الثالث: عن أنس - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: دليل على أنه لا يؤمن المسلم حتى يحب لأخيه من الخير والطاعات ما يحب لنفسه.
قال ابن الصلاح: وهذا قد يُعَدُّ من الصعب الممتنع، وليس كذلك. إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه. والقيام بذلك يحصل بأنْ يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، بحيث لا ينقص النعمة على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك يسهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل، عافانا الله من ذلك آمين.
(1/145)
23- باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران (104) ] .
المعروف: كل فعل يعرف حسنه بالشرع، والعقل، والمنكر ضد ذلك.
قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} ، منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال البغوي: والخير: الإسلام.
قال في «جامع البيان» : أمة: جماعة يدعون الناس إلى الخير، إتباع القرآن وسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر عطف الخاص على العام لشرفه؛ لأنَّ الخير أعمّ.
وَقالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} [آل عمران (110) ] .
أي: كنتم يَا أمة محمد خير أمة أنفع الناس للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، فمن تحقق فيه هذا الوصف فهو من أفضل الأمة.
وَقالَ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف (199) ] .
أي: خذ العفو من أخلاق الناس كقبول أعذارهم، والمساهلة معهم، والصبر عليهم، {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} ، المعروف {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . لا تقابل السفه بالسفه.
(1/146)
وَقالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة (71) ] .
يخبر تعالى أنَّ المؤمنين أنصارٌ يتعاونون على العبادة، ويتبادرون إليها يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ضد وصف المنافقين فإنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
وَقالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة (78، 79) ] .
قال ابن عباس: لُعنوا بكل لسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن.
وفي حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لتأمُرُنّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم» .
وَقالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف (29) ] .
أي: إذا بينت لكم الحق فلا أبالي بإيمان من آمن، وكفر من كفر.
وَقالَ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر} [الحجر (94) ] .
أي: اجهر بما أمرك الله بتبليغه.
وَقالَ تَعَالَى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف (165) ] .
(1/147)
أول الآية: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ... } الآية. نزلت في أصحاب السبت، وهي عامة في كل من فعل مثل فعلهم.
وَالآيات في الباب كثيرة معلومة.
وأما الأحاديث:
[184] فالأول: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ» . رواه مسلم.
هذا الحديث: دليل على وجوب تغيير المنكر بحسب القدرة.
قال الإمام أحمد: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح.
وقال: الناس محتاجون إلى مداراة ورفق، الأمر بالمعروف بلا غلطة، إلا رجل معلن بالفسق فلا حرمة له، وقال أيضًا: يأمر بالرفق، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب، فيكون يريد أنْ ينتصر لنفسه.
[185] الثاني: عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ نَبيٍّ بَعَثَهُ اللهُ في أمَّة قَبْلِي إلا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأصْحَابٌ يَأخُذُونَ بِسنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلبِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلسَانِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، وَلَيسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَل» . رواه مسلم.
(1/148)
الحواريٌّون: الأصفياء، الناصرون.
وفي الحديث: دليل على تفاوت مراتب الإيمان، وأنَّ عدم إنكار القلب دليل على ذهاب الإيمان منه، ولهذا قال ابن مسعود: هلكت إنْ لم يعرف قلبك المعروف، وينكر المنكر.
وفي سنن أبي داود: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» .
[186] الثالث: عن أبي الوليدِ عبادة بن الصامِت - رضي الله عنه - قَالَ: بَايَعْنَا
رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ، والمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَعَلَى أثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ إلا أنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ بُرْهَانٌ، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحَقِّ أيْنَمَا كُنَّا لا نَخَافُ في اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«المَنْشَطُ وَالمَكْرَهُ» بفتح ميمَيْهِما: أي في السهل والصعب. وَ «الأثَرَةُ» : الاختِصاص بالمشترَكِ وقد سبق بيانها. «بَوَاحاً» بفتح الباءِ الموحدة بعدها واو ثُمَّ ألف ثُمَّ حاءٌ مهملة: أي ظاهِراً لا يحتمل تأويلاً.
في هذا الحديث: دليل عل وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وإنْ جاروا، وأنه لا يجوز الخروج عليهم ما لم يظهروا كفرًا واضحًا لا يحتمل التأويل.
[187] الرابع: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالوَاقعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَومٍ
(1/149)
اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ
فَصَارَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هَلَكُوا جَميعاً، وَإنْ أخَذُوا عَلَى أيدِيهِمْ نَجَوا وَنَجَوْا جَميعاً» . رواه البخاري.
«القَائِمُ في حُدُودِ اللهِ تَعَالَى» معناه: المنكر لَهَا، القائم في دفعِها وإزالتِها، وَالمُرادُ بالحُدُودِ: مَا نَهَى الله عَنْهُ. «اسْتَهَمُوا» : اقْتَرَعُوا.
في هذا الحديث: دليل على أن عقوبة المعاصي، تَعُمّ إذا تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال (25) ] .
[188] الخامس: عن أُمِّ المؤمنين أم سلمة هند بنت أَبي أمية حذيفة رضي الله عنها، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «إنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعرِفُونَ وتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالوا: يَا رَسُول اللهِ، ألا نُقَاتِلهم؟ قَالَ: «لا، مَا أَقَامُوا فيكُمُ الصَّلاةَ» . رواه مسلم.
معناه: مَنْ كَرِهَ بِقَلْبهِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ إنْكَاراً بِيَدٍ وَلا لِسَانٍ فقَدْ بَرِئَ مِنَ الإِثْمِ، وَأَدَّى وَظيفَتَهُ، وَمَنْ أَنْكَرَ بحَسَبِ طَاقَتِهِ فَقَدْ سَلِمَ مِنْ هذِهِ المَعْصِيَةِ وَمَنْ رَضِيَ بِفِعْلِهِمْ وَتَابَعَهُمْ فَهُوَ العَاصِي.
في هذا الحديث: دليل على وجوب إنكار المنكر على حسب القدرة، ولا يجوز الخروج على وُلاة الأمر، إلا إذا تركوا الصلاة، لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام.
(1/150)
[189] السادس: عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنتِ جحش رَضِي الله عنها: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دخل عَلَيْهَا فَزِعاً، يقول: «لا إلهَ إلا الله، وَيلٌ للْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ مِثلَ هذِهِ» ، وحلّق بأُصبُعيهِ الإبهامِ والتي تليها، فقلتُ: يَا رَسُول الله، أنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال الحافظ: والمراد بالشر ما وقع بعده - صلى الله عليه وسلم - من قتل عثمان، ثم توالت الفتن حتى صارت العرب بين الأمم كالقصعة بين الأكَلَة.
والمراد بالردم: السد الذي بناه ذو القرنين. انتهى.
وفي الحديث: بيان شؤم المعاصي والتحريض على إنكارها، وأنها إذا كثرت فقد يحصل الهلاك العام، وإنْ كثر الصالحون.
[190] السابع: عن أَبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ في الطُّرُقَاتِ!» فقالوا: يَا رَسُول الله، مَا لنا مِنْ مجالِسِنا بُدٌّ، نتحدث فِيهَا. فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَإذَا أبَيْتُمْ إلا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ» . قالوا: وما حَقُّ الطَّريقِ يَا رسولَ الله؟ قَالَ: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهيُ عن المُنْكَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذ االحديث: استحباب ترك الجلوس في الطريق، وأنَّ مَنْ جلس فعليه القيام، بما ذكر من غض البصر عما لا يحل، وكف الأذى بفعل أو قول، وإذا رأى ما يعجبه فليقل: ما شاء الله، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(1/151)
وورد في بعض الأحاديث زيادات على ما ذكر
وجمعها بعض العلماء في أبيات فقال:
جمعت آداب من رام الجلوس على الطريق ... من قول خير الخلق إنسانا
افش السلام وأحسن في الكلام وشمّت ... ?? ... عاطسًا وسلامًا رد إحسانا ... ??
في العمل عاون ومظلومًا أعن وأغِث ... لهفان اِهْدِ سبيلاً، واهدِ حيرانا
بالعرف أمُرْ وانهَ عن منكر وكف أذى ... ?? ... وغضّ طرفًا وأكثر ذكر مولانا ... ??
[191] الثامن: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتَماً مِنْ ذهبٍ في يدِ رجلٍ فنَزعه فطرحه، وَقالَ: «يَعْمدُ أحَدُكُمْ ... إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ!» ‍‍‍‍‍‍فقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذهب ... رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لا والله لا آخُذُهُ أبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم.
في هذا الحديث: إزالة المنكر باليد للقادر عليه، وأنَّ النهي عن خاتم الذهب للتحريم.
وفيه: المبالغة في امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتناب نهيه، ولهذا ترك الرجل أخذ الخاتم، وأخذُه جائز للانتفاع به.
[192] التاسع: عن أَبي سعيد الحسن البصري: أن عائِذَ بن عمرو - رضي الله عنه - دخل عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بنِ زياد، فَقَالَ: أي بُنَيَّ، إني سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «إنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الحُطَمَةُ» فَإِيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ: اجلِسْ فَإِنَّمَا أنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أصْحَابِ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: وهل كَانَتْ لَهُم نُخَالَةٌ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفي غَيْرِهِمْ. رواه مسلم.
الحطمة: العنيف في رعيته لا يرفق بها في سوقها، ومرعاها، وشربها.
(1/152)
وفي هذا الحديث: أمر الأمراء بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق.
وفيه: فضل الصحابة رضي الله عنهم.
وفي الحديث المشهور: «أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم» .
[193] العاشر: عن حذيفة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُوْنَهُ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حديث حسن) .
في هذا الحديث: أنه إذا لم يُنْكَر المنكر عمَّ شؤمه وبلاؤه بجَوْر الولاة أو تسليط الأعداء، أو غير ذلك.
[194] الحادي عشر: عن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «أفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ» . رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ: «حديث حسن» .
[195] الثاني عشر: عن أَبي عبدِ الله طارِقِ بن شِهاب البَجَليِّ الأَحْمَسِيّ - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً سأل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وقد وضع رِجله في الغَرْزِ: أيُّ الجِهادِ أفضلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ» . رواه النسائي بإسناد صحيح.
«الغرز» بغين معجمة مفتوحة ثُمَّ راء ساكنة ثُمَّ زاي: وَهُوَ ركاب كَوْرِ الجملِ إِذَا كَانَ من جلد أَوْ خشب وقيل: لا يختص بجلد وخشب.
(1/153)
إنما كان ذلك أفضل الجهاد لأنَّه يدل على كمال يقين فاعله، وقوَّة إيمانه، حيث تكلَّم بالحق عند هذا السلطان الجائر، ولم يخف من بطشه بل باع نفسه وقدَّم أمر الله.
[196] الثالث عشر: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ الله ودَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، فَلا يَمْنَعُهُ ذلِكَ أنْ يَكُونَ أكِيلَهُ وَشَريبَهُ وَقَعيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ» ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} - إِلَى قوله - {فاسِقُونَ} [المائدة (78: 81) ] .
ثُمَّ قَالَ: «كَلا، وَاللهِ لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، وَلَتَأخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأطِرُنَّهُ عَلَى الحَقِّ أطْراً، وَلَتَقْصُرُنَّه عَلَى الحَقِّ قَصْراً، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ ليَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» . رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ: (حديث حسن) .
هَذَا لفظ أَبي داود، ولفظ الترمذي، قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ في المَعَاصي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ في مَجَالِسِهمْ، وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَربَ اللهُ قُلُوبَ بَعضِهِمْ بِبعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسانِ دَاوُد وعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بما عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ» فَجَلَسَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مُتَّكِئاً، فَقَالَ: «لا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأطِرُوهُمْ عَلَى الحَقِّ أطْراً» .
(1/154)
قوله: «تَأطِرُوهم» : أي تعطفوهم. «ولتقْصُرُنَّهُ» : أي لتحبِسُنَّه.
هؤلاء الملعون جمعوا بين فعل المنكر والتجاهرَ به.
وفي الحديث: وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنهي عن مجالسة أهل المعاصي.
[197] الرابع عشر: عن أَبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قَالَ: يَا أيّها النَّاس، إنّكم لتَقرؤُون هذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة (105) ] .
وإني سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يأخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» . رواه أَبُو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.
معناه: أنكم تقرؤون هذه الآية وتتوهَّمون أن من فعل ما أُمر به وترك ما نُهي عنه في نفسه أنْ لا حرج عليه في عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يَجِب كما في الحديث الآخر: «يَا أيها الناس، مُروا بالمعروف، وتناهَوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحًّا مطاعًا، وهوًى متَّبعًا، ودنيا مُؤثرة، وإعجاب كلُّ ذي رأي برأيه، فعليك نفسك، ودع عنك العوام» .
24- باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف
أَوْ نهى عن منكر وخالف قوله فعله
قَالَ الله تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة (44) ] .
في هذا الآية: توبيخ وتقريع لمن أمر بالطاعة ولم يفعل.
(1/155)
وفيها: تنبيه على أنَّ ذلك خلاف العقل.
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف (2، 3) ] .
المقت: أشد البغض.
وَقالَ تَعَالَى إخباراً عن شعيب - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود (88) ] .
أي: ما أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أرتكبه.
قال الشاعر:
لا تَنْه عن خُلُقٍ وتأتيَ مثله ... ?? ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيما ... ???
[198] وعن أَبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما، قَالَ: سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَوْمَ القيَامَةِ فَيُلْقَى في النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أقْتَابُ بَطْنِهِ فَيدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ في الرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْه أهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلانُ، مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُ تَأمُرُ بالمعْرُوفِ وَتنهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ، وأنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «تَنْدلِقُ» هُوَ بالدالِ المهملةِ، ومعناه تَخرُجُ. وَ «الأَقْتَابُ» : الأمعاءُ، واحدها قِتْبٌ.
في هذا الحديث: وعيدٌ شديد لمن خالف قوله فعله، وأنَّ العذاب يُشَدَّدُ على العالِم إذا عصى أعظم من غيره، كما يضاعف له الأجر إذا عمل بعلمه.
(1/156)
25- باب الأمر بأداء الأمانة
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ... [النساء (58) ] .
سبب نزول هذه الآية: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، وهي عامة في كل الأمانات.
وقال ابن عباس وغيره: نزلت في الأمراء وأنْ يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب (72) ] .
قال ابن عباس: الأمانة: الفرائض التي افترضها الله على العباد.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ... } قال: فلما عُرضت على آدم، قال: أي رب وما الأمانة؟ ! قال: قيل: إنْ أدَّيتها جُزيت، وإنْ ضيَّعتها عوقبت. قال: أي رب حملتها بما فيها؟ قال: فما مكث في الحنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس، حتى عمل بالمعصية فأُخرجَ منها.
(1/157)
[199] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آيةُ المُنافقِ ثلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعدَ أخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ» .
الحديث: دليل على أنَّ هذه الخصال من علامات النفاق.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: «أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتُمِنَ خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر» .
[200] وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قَالَ: حدثنا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حدِيثَينِ قَدْ رأيْتُ أحَدَهُمَا وأنا أنتظرُ الآخر: حدثنا أن الأمانة نَزلت في جَذرِ قلوبِ الرجال، ثُمَّ نزل القرآن فعلموا مِنَ القرآن، وعلِموا من السنةِ.
ثُمَّ حدّثنا عن رفع الأمانة، فَقَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبهِ، فَيَظَلُّ أثَرُهَا مِثلَ الوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّومَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبهِ، فَيَظَلُّ أثَرُهَا مِثلَ أَثَرِ المَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبراً وَلَيسَ فِيهِ شَيءٌ» ثُمَّ أخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ «فَيُصْبحُ النَّاسُ يَتَبَايعُونَ، فَلا يَكَادُ أحدٌ يُؤَدّي الأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ: إنَّ في بَني فُلانٍ رَجُلاً أميناً، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أجْلَدَهُ! مَا أَظْرَفَهُ! مَا أعْقَلَهُ! وَمَا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّة مِن خَرْدَل مِنْ إيمَان» .
(1/158)
وَلَقدْ أتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أيُّكُمْ بَايَعْتُ: لَئن كَانَ مُسْلِماً لَيَرُدَّنَّهُ عليَّ دِينهُ، وَإنْ كَانَ نَصْرانِيّاً أَوْ يَهُودِياً لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا اليَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايعُ مِنْكُمْ إلا فُلاناً وَفُلاناً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «جَذْرُ» بفتح الجيم وإسكان الذال المعجمة: وَهُوَ أصل الشيء وَ «الوكت» بالتاء المثناة من فوق: الأثر اليسير. وَ «المَجْلُ»
بفتح الميم وإسكان الجيم: وَهُوَ تَنَفُّطٌ في اليدِ ونحوها من أثرِ عمل وغيرِهِ. قوله: «مُنْتَبراً» : مرتفِعاً. قوله: «ساعِيهِ» : الوالي عَلَيهِ.
يعني: أنَّ الأمانة نزلت في القلوب بالفطرة، ثم نزل القرآن شفاء من الجهل، نور على نور، وقول حذيفة: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين - يعني: في الأمانة -، وهذا أحدهما.
والثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة، ولا تقبض الأمانة إلا بسوء العمل. قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد (11) ] .
[201] وعن حُذَيفَة وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَجمَعُ اللهُ تبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ المُؤمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الجَنَّةُ، فَيَأتُونَ آدَمَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِ، فَيقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الجَنَّةَ، فَيقُولُ: وَهَلْ أخْرَجَكُمْ مِنَ الجَنَّةِ إلا خَطيئَةُ أبيكُمْ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لَسْتُ بِصَاحِبِ ... ذلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْراهيمَ خَلِيل اللهِ.
قَالَ: فَيَأتُونَ إبرَاهِيمَ فَيَقُولُ إبراهيم: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَليلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ الله تَكليماً. فَيَأتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لستُ بِصَاحِبِ ذلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسى كلمةِ اللهِ ورُوحه، فيقول عيسى: لستُ بصَاحبِ ذلِكَ.
(1/159)
فَيَأتُونَ مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُومُ فَيُؤذَنُ لَهُ، وتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَيَقُومانِ جَنْبَتَي الصِّرَاطِ يَمِيناً وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أوَّلُكُمْ كَالبَرْقِ» قُلْتُ: بأبي وَأمِّي،
أيُّ شَيءٍ كَمَرِّ البَرقِ؟ قَالَ: «ألَمْ تَرَوا كَيْفَ يمُرُّ وَيَرْجِعُ في طَرْفَةِ عَيْن، ثُمَّ كَمَرّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَأَشَدِّ الرِّجَال تَجْري بهمْ أعْمَالُهُمْ، وَنَبيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّراطِ، يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أعْمَالُ العِبَادِ، حَتَّى يَجِيء الرَّجُلُ لا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلا زَحْفاً، وَفي حَافَتي الصِّراطِ كَلاَلِيبُ معَلَّقَةٌ مَأمُورَةٌ بِأخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ في النَّارِ» وَالَّذِي نَفْسُ أَبي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، إنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفاً. رواه مسلم.
قوله: «وراء وراء» هُوَ بالفتح فيهما. وقيل: بالضم بلا تنوين ومعناه: لست بتلك الدرجة الرفيعة، وهي كلمة تذكر عَلَى سبيل التواضع. وقد بسطت معناها في شرح صحيح مسلم، والله أعلم.
هذا حديث جليل القدر، مشتمل على فوائد كثيرة، والشاهد من الحديث للترجمة قوله: " وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط ".
وذلك لعظم أمرهما وكبر موقعهما، فمن أدَّى الأمانة ووصل الرحم نجا.
[202] وعن أَبي خُبيب - بضم الخاء المعجمة - عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا وَقفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَل دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبه، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إنَّهُ لا يُقْتَلُ اليَومَ إلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإنِّي لا أراني إلا سَأُقْتَلُ اليوم مظلوماً، وإنَّ مِنْ أكبرَ هَمِّي لَدَيْنِي، أفَتَرَى
(1/160)
دَيْننا يُبقي من مالِنا شَيئاً؟ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، بعْ مَا لَنَا وَاقْضِ دَيْنِي، وَأوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ، يعني لبني عبد الله بن الزبير ثُلُثُ الثُّلُث. قَالَ: فَإنْ فَضَلَ مِنْ
مَالِنَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّينِ شَيء فَثُلُثُه لِبَنِيكَ. قَالَ هِشَام: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللهِ قَدْ وَازى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبيبٍ وَعَبَّادٍ، وَلهُ يَوْمَئذٍ تِسْعَةُ بَنينَ وَتِسْعُ بَنَات.
قَالَ عَبدُ الله: فَجَعلَ يُوصينِي بدَيْنِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ، إنْ عَجَزْتَ عَن شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِنْ عَلَيهِ بِمَوْلاَيَ. قَالَ: فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا أرَادَ حَتَّى ... قُلْتُ: يَا أبَتِ مَنْ مَوْلاَكَ؟ قَالَ: الله. قَالَ: فَوَاللهِ مَا وَقَعْتُ في كُرْبةٍ مِنْ دَيْنِهِ إلا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيَهُ. قَالَ: فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ وَلَم يَدَعْ دِينَاراً وَلا دِرْهماً إلا أرَضِينَ، مِنْهَا الغَابَةُ وإحْدَى عَشْرَةَ دَاراً بالمَدِينَةِ، وَدَارَيْنِ بالبَصْرَةِ، ودَاراً بالكُوفَةِ، ودَاراً بمِصْرَ.
قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيهِ أنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأتِيهِ بالمال، فَيَسْتَودِعُهُ إيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا، وَلَكِنْ هُوَ سَلَفٌ إنِّي أخْشَى عَلَيهِ الضَّيْعَةَ. وَمَا وَليَ إمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايَةً، ولا خراجاً، وَلا شَيئاً إلا أنْ يَكُونَ في غَزْوٍ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْ مَعَ أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رضي الله عنهم -، قَالَ عَبدُ الله: فَحَسَبْتُ مَا كَانَ عَلَيهِ مِن الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ ألْفيْ ألْفٍ وَمئَتَي ألْف ‍! فَلَقِيَ حَكِيمُ بنُ حِزَام عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أخِي، كَمْ عَلَى أخي مِنَ الدَّيْنِ؟ فَكَتَمْتُهُ وَقُلْتُ: مِئَةُ ألْف. فَقَالَ حَكيمٌ: واللهِ مَا أرَى أمْوَالَكُمْ تَسَعُ هذِهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أرَأيْتُكَ إنْ كَانَتْ ألْفَي ألف وَمائَتَيْ ألْف؟ قَالَ: مَا أرَاكُمْ تُطيقُونَ هَذَا، فَإنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بي.
قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيرُ قَد اشْتَرَى الغَابَةَ بِسَبْعِينَ ومئة ألف، فَبَاعَهَا
(1/161)
عَبدُ اللهِ بِألْفِ ألْف وَسِتّمِئَةِ ألْف، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيرِ شَيْء فَلْيُوافِنَا بِالغَابَةِ، فَأتَاهُ عَبدُ اللهِ بنُ جَعفَر، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيرِ أرْبَعمئةِ ألْف، فَقَالَ لعَبدِ الله: إنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكمْ؟ قَالَ عَبدُ الله: لا، قَالَ: فَإنْ شِئتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إنْ إخَّرْتُمْ، فَقَالَ عَبدُ الله: لا، قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قطْعَةً، قَالَ عَبدُ الله: لَكَ مِنْ ها هُنَا إِلَى هَا هُنَا. فَبَاعَ ... عَبدُ اللهِ مِنهَا فَقَضَى عَنْهُ دَينَه وَأوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أرْبَعَةُ أسْهُم وَنِصْفٌ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَة وَعنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَالمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاويَةُ: كَمْ قُوِّمَتِ الغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْم بمئَة ألف، قَالَ: كَمْ بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَ: أرْبَعَةُ أسْهُم وَنصْفٌ، فَقَالَ المُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيرِ: قَدْ أخَذْتُ مِنْهَا سَهماً بِمئَةِ ألف، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أخَذْتُ مِنْهَا سَهْماً بمئَةِ ألْف. وَقالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أخَذْتُ سَهْماً بِمئَةِ ألْف، فَقَالَ مُعَاويَةُ: كَمْ بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَ: سَهْمٌ ونصْفُ سَهْم، قَالَ: قَدْ أخَذْتُهُ بخَمْسِينَ وَمئَةِ ألْف. قَالَ: وَبَاعَ عَبدُ الله بْنُ جَعفَر نَصيبهُ مِنْ مَعَاوِيَةَ بستِّمِئَةِ ألْف.
فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيرِ: اقسمْ بَينَنَا ميراثَنا، قَالَ: وَاللهِ لا أقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أنَادِي بالمَوْسم أرْبَعَ سنينَ: ألا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيرِ دَيْنٌ فَلْيَأتِنَا فَلْنَقْضِهِ. فَجَعَلَ كُلّ سَنَةٍ يُنَادِي في المَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أرْبَعُ سنينَ قَسَمَ بيْنَهُمْ وَدَفَعَ الثُّلُثَ. وَكَانَ للزُّبَيْرِ أرْبَعُ نِسْوَةٍ،
فَأصَابَ كُلَّ امرَأةٍ ألْفُ ألف وَمِئَتَا ألْف، فَجَميعُ مَالِه خَمْسُونَ ألف ألْف وَمِئَتَا ألْف. رواه البخاري.
في هذا الحديث: دليل على عِظَم الأمانة، وأنَّ مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، وأنَّ مَن استعان بالله أعانه.
(1/162)
26- باب تحريم الظلم والأمر بردِّ المظالم
قَالَ الله تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر (18) ] .
الحميم: القريب المشفق.
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج (71) ] .
وأمّا الأحاديث فمنها: حديث أبي ذر - رضي الله عنه - المتقدم في آخر باب المجاهدة.
والشاهد منه: قوله تعالى: «يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» .
[203] وعن جابر - رضي الله عنه -: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. حَمَلَهُمْ عَلَى أنْ سَفَكُوا دِمَاءهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» . رواه مسلم.
الشحّ: البخل مع الحرص على طلب المال من غير وجهه المأذون فيه، كما في الحديث الآخر: «إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأمَّهات، ووأد البنات، ومنعًا، وهات» .
(1/163)
[204] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَومَ القِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: دليل على أنَّ الشاة الجمّاء تقتص يوم القيامة من ذات القرن، وبعد القصاص تكون البهائم ترابًا، فيقول الكافر: يَا ليتني كنتُ ترابًا.
وفيه: تنبيه على أنَّ المظلوم يقتص من ظالمه يوم القيامة، ويؤخذ له حقه.
[205] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كُنَّا نَتَحَدَّثُ عَنْ حَجَّةِ الوَدَاعِ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أظْهُرِنَا، وَلا نَدْرِي مَا حَجَّةُ الوَدَاعِ حَتَّى حَمِدَ اللهَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَأثْنَى عَلَيهِ ثُمَّ ذَكَرَ المَسْيحَ الدَّجَّال فَأطْنَبَ في ذِكْرِهِ، وَقَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبيٍّ إلا أنْذَرَهُ أُمَّتَهُ أنْذَرَهُ نُوحٌ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّهُ إنْ يَخْرُجْ فِيكُمْ فَما خَفِيَ عَليْكُمْ مِنْ شَأنِه فَلَيْسَ يَخْفَى عَليْكُم، إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بأعْوَرَ وإنَّهُ أعْوَرُ عَيْنِ اليُمْنَى، كَأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ.
ألا إنَّ الله حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءكُمْ وَأمْوَالَكُمْ كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بلدكم هذا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، ألا هَلْ بَلّغْتُ؟» قالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ... «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» ثلاثاً «وَيْلَكُمْ - أَوْ وَيْحَكُمْ -، انْظُروا: لا تَرْجعُوا
بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . رواه البخاري، وروى مسلم بعضه.
في هذا الحديث: وعيدٌ شديد على القتال بغير حق، كما في الحديث الآخر: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار ". قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ ! قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» .
(1/164)
[206] وعن عائشة رضي الله عنها: أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «مَنْ ظَلَمَ قيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سبْعِ أرَضينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: تأكيد تحريم غصب الأرض، وأنَّ من أخذ شيئًا منها ظلمًا عُذَّب بحمله يوم القيامة في عنقه.
وفي الحديث الآخر: «من أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه، خُسف به يوم القيامة إلى سبع أَرَضين» .
وفيه: دليل على أنَّ الأرضين السبع طباق، كالسموات.
[207] وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ: {وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود (102) ] مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فيه: الوعيد الشديد للظالم، وإنْ أُمْهِل على ظلمه، ولم يُعاجل بالعقوبة، فإن الله تعالى (يمهل ولا يهمل) . قال الله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف (183) ] .
[208] وعن معاذ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنَّكَ تَأتِي قَوْماً مِنْ أهلِ الكِتَابِ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلا الله، وَأنِّي رسولُ الله، فَإنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ قَدِ افْتَرضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَها وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: التنبيه على المنع من الظلم.
(1/165)
وفيه: إشارة إلى أن أخذ كرائم الأموال ظلم، إلا إنْ رضي صاحبها.
وفيه: أنَّ دعوة المظلوم مقبولة، كما في الحديث الآخر: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه» .
[209] وعن أبي حُمَيدٍ عبد الرحمن بن سعد السَّاعِدِي - رضي الله عنه - قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنَ الأزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ، فَقَامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المِنْبَرِ فَحَمِدَ الله وَأثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: «أمَّا بَعدُ، فَإِنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ منْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلانِي اللهُ، فَيَأتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيتْ إلَيَّ، أفَلا جَلَسَ في بيت أبِيهِ أَوْ أُمِّهِ حَتَّى تَأتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إنْ كَانَ صَادِقاً ‍، واللهِ لا يَأخُذُ أحَدٌ مِنْكُمْ شَيئاً بِغَيرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ الله تَعَالَى، يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلا أعْرِفَنَّ أحَداً مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعيراً لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ
شَاةً تَيْعَرُ» . ثُمَّ رفع يديهِ حَتَّى رُؤِيَ عُفْرَةُ إبْطَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» ثلاثاً مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: دليل على أنَّ هدية العمال راجعة إلى بيت المال، وأنَّ ما أخذه بغير حقه يجيء به يحمله يوم القيامة تعذيبًا له وزيادة في فضيحته.
قال الله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران (161) ] .
[210] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأَخِيه، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أنْ لا يَكُونَ دِينَار وَلا دِرْهَمٌ؛ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ
(1/166)
مَظْلمَتِهِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيهِ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: الأمر بالاستحلال، ورد المظالم في الدنيا، وإلا أخذ المظلوم لحقه وافيًا في الآخرة.
[211] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «المُسْلِمُ منْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: دليل على أن من كف لسانه ويده عن المسلمين أنه كامل الإسلام، ومن هجر ما نهى الله عنه فهو المهاجر حقًا، فاشتمل هذا الحديث على جوامع من معاني الكلم والحكم.
[212] وعنه - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَل النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هُوَ في النَّارِ» فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْه، فَوَجَدُوا عَبَاءةً قَدْ غَلَّهَا. رواه البخاري.
في هذا الحديث: تحريم الغلول قليله وكثيره، وهو من الكبائر بالإجماع.
[213] وعن أَبي بكْرة نُفَيْع بن الحارث - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَاً، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاثٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَة، وذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ
(1/167)
جُمَادَى وَشعْبَانَ، أيُّ شَهْر هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَننَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «ألَيْسَ ذَا الحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَأيُّ بَلَد هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيرِ اسْمِهِ. قَالَ: «ألَيْسَ البَلْدَةَ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَأيُّ يَوْم هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بغَيرِ اسْمِهِ. قَالَ: «ألَيسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: «فَإنَّ دِمَاءكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عليكم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقُونَ رَبَّكُمْ فَيَسْألُكُمْ عَنْ أعْمَالِكُمْ، ألا فَلا تَرْجعوا بعدي كُفّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض، ألا لَيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أنْ يَكُونَ أوْعَى لَهُ مِنْ بَعْض
مَنْ سَمِعَهُ» ، ثُمَّ قَالَ: «ألا هَلْ بَلَّغْتُ، ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
المراد بالزمان: السنة
وفيه: إشارة إلى بطلان النسيء؛ لأن أهل الجاهلية إذا احتاجوا إلى الحرب في المحرم استحلوه، وجعلوا المحرم صفر، وأحلوا رجب وجعلوا المحرم شعبان، وبنوا عليه حساب حجهم.
وفي الحديث: تأكيد تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم.
وفيه: الأمر بتبليغ العلم ونشره.
[214] وعن أَبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرئ مُسْلِم بيَمينه، فَقدْ
(1/168)
أوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيهِ الجَنَّةَ» فَقَالَ رَجُلٌ: وإنْ كَانَ شَيْئاً يَسيراً يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: «وإنْ كَانَ قَضيباً مِنْ أرَاك» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: وعيد شديد على من حلف بيمين كاذبة ليقطع بها حق مسلم.
[215] وعن عَدِيّ بن عَميْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَل، فَكَتَمَنَا مِخْيَطاً فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولاً يَأتِي به يَومَ القِيَامَةِ» فَقَامَ إليه رَجُلٌ أسْوَدُ مِنَ الأنْصَارِ، كَأنِّي أنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: «وَمَا لَكَ؟» قَالَ: سَمِعْتكَ تَقُولُ كَذَا وكَذَا، قَالَ: «وَأَنَا أقُولُه الآنَ: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ
فَلْيَجِئْ بقَليله وَكَثيره، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: وعيد شديد، وزجر أكيد في الخيانة من العامل، وأنه من الكبائر.
[216] وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيبَر أقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ أصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ، وفُلانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فقالوا: فُلانٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كَلا، إنِّي رَأيْتُهُ في النَّار في بُرْدَةٍ غَلَّهَا - أَوْ عَبَاءة -» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: تأكيد تحريم الغلول، وأنه من الكبائر.
(1/169)
[217] وعن أَبي قتادة الحارث بن ربعي - رضي الله عنه - عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ قَامَ فيهم، فَذَكَرَ لَهُمْ أنَّ الجِهَادَ في سبيلِ الله، وَالإِيمَانَ بالله أفْضَلُ الأعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أرَأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله، تُكَفَّرُ عَنّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سبيلِ اللهِ، وَأنْتَ صَابرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيرُ مُدْبر» ثُمَّ قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ قُلْتَ؟» قَالَ: أرَأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله، أتُكَفَّرُ عَنّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نَعمْ، وَأنْتَ صَابرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيرُ مُدْبِرٍ، إلا الدَّيْنَ؛ فإنَّ جِبريلَ قَالَ لي ذلِكَ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: تعظيم شأن الدَّيْنِ.
وفيه: تنبيه على أن الجهاد والشهادة لا تكفر حقوق الآدميين.
[218] وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أتدرونَ مَنِ المُفْلِسُ؟» قالوا: المفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرهَمَ لَهُ ولا مَتَاع، فَقَالَ: «إنَّ المُفْلسَ مِنْ أُمَّتي مَنْ يأتي يَومَ القيامَةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزَكاةٍ، ويأتي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وهَذَا مِنْ حَسناتهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قَبْل أنْ يُقضى مَا عَلَيهِ، أُخِذَ منْ خَطَاياهُم فَطُرِحَتْ عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: أن المفلس حقيقة من أخذ غرماؤه أعماله الصالحة.
(1/170)
[219] وعن أم سلمة رضي الله عنها: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا أنا بَشَرٌ، وَإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فأَقْضِيَ لَهُ بِنَحْوِ مَا أسْمعُ، فَمَنْ قَضَيتُ لَهُ بِحَقِّ أخِيهِ فَإِنَّما أقطَعُ لَهُ قِطعةً مِنَ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«ألْحَن» أي: أعلم.
في هذا الحديث: بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم من الغيب إلا ما علَّمَهُ الله، وأنه يقضي بين الخصوم بما ظهر له من الحجة.
وفيه: أنَّ حكم الحاكم لا يحل حرامًا في نفس الأمر، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة (188) ] .
[220] وعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دِينهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً» . رواه البخاري.
الفسحة: السِّعَة. أي: لا يزال في رجاء رحمة من الله على ما ارتكبه من الذنوب، فإذا أصاب الدم الحرام ضاقت عليه المسالك.
ورُوي عن أبي هريرة مرفوعًا: «مَن أعانَ على من قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله» .
[221] وعن خولة بنتِ عامر الأنصارية وهي امرأة حمزة - رضي الله عنه - وعنها، قَالَتْ: سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ رِجَالاً
(1/171)
يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ الله بغَيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ» . رواه البخاري.
التخوض: التصرف بالباطل.
ففيه: أنَّ التصرف في بيت المال لا يجوز بمجرد التشهي.
وفي رواية الترمذي من حديث خولة بنت قيس بن قَهْد: «إنَّ هذا المال حلوة خضرة، مَنْ أصابه بحقه بُوْرِكَ له فيه، ورُبَّ مُتخوضٍ فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار» .
27- باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم
والشفقة عليهم ورحمتهم
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه} ... [الحج (30) ] .
تعظيم حرمات الله، تركُ ما نهى الله عنه.
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج (32) ] .
شعائر الله: الهدايا، وفرائض الحج ومواضع نسكه، والآيةُ عامَّة في جميع شعائر الدين.
وَقالَ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر (88) ] .
أي: ألِنْ جَانِبك، وتواضع لهم وارفق بهم.
(1/172)
وَقالَ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة (32) ] .
قوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} ، أي: توجب القصاص. {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} ، كالشرك، وقطع الطرق.
وثبت بالسُّنَّة رجم الزاني المحصن، وقتل تارك الصلاة {وَمَنْ أَحْيَاهَا} ، أي: تسبب لبقاء حياتها بعفو، أو منع عن القتل، أو استنقاذ {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} .
وفيه: تعظيم إثم قاتل النفس وتعظيم أجر من أحياها.
[222] وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً» وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: الحضُّ على معاونة المؤمن ونصرته، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة (2) ] .
[223] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ مَرَّ في شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا بكَفّه؛ أنْ يُصِيبَ أحَداً مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْء» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: الأمر بالقبض على نصال النبل، ومثله جفر السيف والسكين والحربة، ونحو ذلك. وأخذ الرصاصة من البندق والفرد مخافة أنْ يصيب أحدًا.
[224] وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ
(1/173)
إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: تعظيمُ حقوق المسلمين، والحض على تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضًا.
[225] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَبَّلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحَسَنَ بْنَ عَليٍّ رضي الله عنهما، وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِس، فَقَالَ الأقْرَعُ: إن لِي عَشرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أحَداً. فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ!» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
[226] وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأعْرَابِ عَلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: أتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ» قالوا: لَكِنَّا والله مَا نُقَبِّلُ! فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَ أَمْلِك إنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْ قُلُوبِكُم الرَّحْمَةَ» ! . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: الشفقة على الأولاد، وتقبيلهم ورحمتهم.
[227] وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لا يَرْحَم النَّاسَ لا يَرْحَمْهُ الله» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
خصَّ الناس بالرحمة، اهتمامًا بهم وإلا فالرحمة مطلوبة لسائر الحيوانات قال - صلى الله عليه وسلم -: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» .
(1/174)
[228] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا صَلَّى أحَدُكُمْ للنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإن فيهِم الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبيرَ، وَإِذَا صَلَّى أحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّل مَا شَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «وذَا الحَاجَةِ» .
التخفيف والتطويل من الأمور الإِضافية يرجع إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا حجة فيه للنقارين.
(1/175)
[229] وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: إنْ كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيَدَعُ العَمَلَ، وَهُوَ يُحبُّ أنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أنْ يَعمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ علَيْهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته، كما ترك الخروج في الليلة الرابعة من رمضان حتى طلع الفجر، وقال: «ما منعني إلا خشية أنْ تفرض عليكم فتعْجَزوا عنها» .
[230] وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: نَهَاهُمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الوِصَال رَحمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ؟ قَالَ: «إنّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أبيتُ يُطْعمُني رَبِّي وَيَسقِيني» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
مَعنَاهُ: يَجْعَلُ فِيَّ قُوَّةَ مَنْ أَكَلَ وَشَرِبَ.
في هذا الحديث: النهي عن الوصال شفقة بهم.
وفي الحديث الآخر: «فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السَّحَر» .
[231] وعن أَبي قَتادةَ الحارثِ بن رِبعِي - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاة، وَأُرِيدُ أنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأسْمَع بُكَاءَ الصَّبيِّ فَأَتَجَوَّزَ في صَلاتي كَرَاهية أنْ أشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: شفقته - صلى الله عليه وسلم -، ومرعاة أحوال الكبير منهم والصغير.
[232] وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ في ذِمَّةِ الله فَلا يَطْلُبَنَّكُمُ الله مِنْ ذِمَّته بشَيءٍ، فَإنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ منْ ذمَّته بشَيءٍ يُدْركْهُ، ثُمَّ يَكُبُّهُ عَلَى وَجْهِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ» . رواه مسلم.
ذمة الله: أمانه وعهده.
وفي رواية: «من صلَّى صلاة الصبح في جماعة» . وكأنها خُصَّت بذلك، لأنها أول النهار الذي هو وقت ابتداء انتشار الناس في حوائجهم.
وفي الحديث: وعيد شديد لمن تعرض للمصلين بسوء.
[233] وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم، لا يَظْلِمهُ، وَلا يُسْلمُهُ. مَنْ كَانَ في حَاجَة أخيه، كَانَ اللهُ في حَاجَته، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بها كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: حضّ المسلمين على التعاون، وشفقة بعضهم على بعض، وترك ظلمهم، وقضاء حوائجهم، وتفريج كرباتهم، وستر عوراتهم وإدخال السرور عليهم.
(1/176)
وفي بعض الآثار: (الخلق عيال الله وأحبّهم إلى الله أرفقهم لعياله) .
[234] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المُسْلِمُ أخُو
المُسْلِمُ، لا يَخُونُهُ، وَلا يَكْذِبُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِم حَرَامٌ عِرْضُهُ وَمَالهُ وَدَمُهُ، التَّقْوى ها هُنَا، بحَسْب امْرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ المُسْلِم» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن» .
في هذا الحديث: تحريم دم المسلم وماله، وعرضه، وتحريم خُذْلانه وخيانته وحقرانه، وأن يحدِّثه كذبًا.
وفيه: أن التقوى في القلب.
[235] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْع بَعْض، وَكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً، المُسْلِمُ أخُو المُسْلم: لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى ها هُنَا - ويشير إِلَى صدره ثلاث مرات - - بحَسْب امْرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلم عَلَى المُسْلم حَرَامٌ، دَمُهُ ومَالُهُ وعرْضُهُ» . رواه مسلم.
«النَّجْشُ» : أنْ يزيدَ في ثَمَنِ سلْعَة يُنَادَى عَلَيْهَا في السُّوقِ وَنَحْوه، وَلا رَغْبَةَ لَهُ في شرَائهَا بَلْ يَقْصدُ أنْ يَغُرَّ غَيْرَهُ، وهَذَا حَرَامٌ.
وَ «التَّدَابُرُ» : أنْ يُعْرضَ عَنِ الإنْسَان ويَهْجُرَهُ وَيَجْعَلهُ كَالشَيءِ الَّذِي وَرَاء الظَّهْر وَالدُّبُر.
(1/177)
في هذا الحديث: تحريم الحسد وهو تمنِّي زوال نعمة المحسود. والحسدُ اعتراض على الله تعالى في فعله.
وفيه: تحريم النجش؛ لأنه غش وخداع.
وفيه: النهي عن التباغض والتدابر، والنهي عن البيع على البيع، ومثله الشراء على الشراء، بغير إذنه في زمن الخيار؛ لأن ذلك من دواعي النفرة والتباغض.
وفيه: أنَّ التقوى إنما تحصل بما يقع في القلب من خشية الله ومراقبته.
[236] وعن أنس - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لنَفْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: أنَّ الإيمان الكامل لا يحصل حتى يحب للمسلم من الطاعات والمباحات ما يحب لنفسه؛ لأنَّ المؤمنين كالجسد الواحد.
وفيه: التحريضُ على التواضع ومحاسن الأخلاق، ولا يحصل ذلك إلا بالمجاهدة، لأنَّه خلاف الهوى.
[237] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انْصُرْ أخَاكَ ظَالماً أَوْ مَظْلُوماً» فَقَالَ رجل: يَا رَسُول اللهِ، أنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُوماً، أرَأيْتَ إنْ كَانَ ظَالِماً
كَيْفَ أنْصُرُهُ؟ قَالَ: «تحْجُزُهُ - أَوْ تمْنَعُهُ - مِنَ الظُلْمِ فَإِنَّ ذلِكَ نَصرُهُ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: من وجيز البلاغة، ومعناه: أنَّ الظالم مظلوم في نفسه؛ لأنه ظَلَمَ نفسه بعدم ردعها عن الظلم، فوجب نصره لذلك. .
[238] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حَقُّ المُسْلِم عَلَى المُسْلِم خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ المَريض، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإجَابَةُ الدَّعْوَة، وتَشْميتُ العَاطِسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/178)
وفي رواية لمسلم: «حَقُّ المُسْلِم عَلَى المُسْلِم ستٌّ: إِذَا لَقيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجبْهُ، وإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ الله فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» .
في هذا الحديث: بيان حق المسلم على المسلم، فمنها: واجب، ومنها: مندوب. ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص، والله أعلم.
[239] وعن أَبي عُمَارة البراءِ بن عازب رضي الله عنهما، قَالَ: أمرنا
رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع: أمَرَنَا بعيَادَة المَرِيض، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وتَشْمِيتِ العَاطسِ، وَإبْرار المُقْسِم، ونَصْرِ المَظْلُوم، وَإجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلامِ، ونَهَانَا عَنْ خَواتِيمٍ أَوْ تَخَتُّمٍ بالذَّهَبِ، وَعَنْ شُرْبٍ بالفِضَّةِ، وَعَن الميَاثِرِ الحُمْرِ، وَعَن القَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الحَريرِ والإسْتبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: وَإنْشَادِ الضَّالَّةِ في السَّبْعِ الأُوَل.
«المَيَاثِرُ» بياء مثَنَّاة قبل الألفِ، وثاء مُثَلَّثَة بعدها: وهي جَمْعُ ميثَرة، وهي شيء يُتَّخَذُ مِنْ حرير وَيُحْشَى قطناً أَوْ غيره، وَيُجْعَلُ في السَّرْجِ وَكُور البَعير يجلس عَلَيهِ الراكب. «القَسِّيُّ» بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة: وهي ثياب تنسج مِنْ حرير وَكتَّانٍ مختلِطينِ. «وَإنْشَادُ الضَّالَّةِ» : تعريفها.
قوله: أمرنا بسبع، أي: سبع خصال، وهي من حقوق المسلمين بعضهم على بعض.
قوله: ونهانا عن سبع، أي: سبع خصال.
(1/179)
الأولى: المياثر الحمر، فإن كانت من حرير فالنهي للتحريم سواء كانت حمرًا أو غير حمر، وإن كانت من غير، فالنهي للتنزيه.
والقَسِيّ: ثياب مخلوطة بحرير، فإذا كان غير الحرير هو الأغلب جاز عند الجمهور.
والإِستبرق والديباج: صنفان من الحرير، وعطفهما عليه من عطف الخاص على العام، والله أعلم.
28- باب ستر عورات المسلمين
والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} [النور (19) ] .
هذه الآية نزلت في الذين رموا عائشة بالإفك.
وهي عامة في كل من رمى المحصنين والمحصنات.
والعذاب الأليم: هو حد القذف في الدنيا، وفي الآخرة بالنار.
[240] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْداً في الدُّنْيَا إلا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: الحثّ على ستر المسلم، خصوصًا من كان غير معروف بالشرّ.
[241] وعنه قَالَ: سمعت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافى إلا المُجَاهِرِينَ، وَإنّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيهِ، فَيقُولُ: يَا فُلانُ، عَمِلت البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصبحُ يَكْشِفُ ستْرَ اللهِ عَنْه» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/180)
المجاهر: الذي يظهر معصيته فيتحدَّث بها، وهو استخفاف بحقِّ الله تعالى.
[242] وعنه عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَتَبيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، وَلا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتِ الثَّانِيَةَ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، وَلا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْل مِنْ شَعَر» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«التثريب» : التوبيخ.
فيه: المسارعة لمفارقة أرباب المعاصي، ويلزمه تبيين العيب للمشتري، ولعلها تتعفف عنده؛ لأنَّه يرجى تبديل الحال عند تبديل المحل.
[243] وعنه قَالَ: أُتِيَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - برجل قَدْ شَرِبَ خَمْراً، قَالَ: «اضْربُوهُ» . قَالَ أَبُو هريرة: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، والضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعضُ القَومِ: أخْزَاكَ الله، قَالَ: «لا تَقُولُوا هكَذا، لا تُعِينُوا عَلَيهِ الشَّيْطَانَ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: أنَّ الضرب باليد، والنعل، والثوب يجزئ في حد الخمر.
وفيه: كراهة الدعاء عليه بالخزي ونحوه.
29- باب قضاء حوائج المسلمين
قَالَ الله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج (77) ] .
هذه الآية عامة في جميع أفعال الخير البدنية، والمالية، وغيرها كصلة الأرحام ومكارم الأخلاق، أي: افعلوا كل ذلك راجين الفلاح من فضل الله.
(1/181)
[244] وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ. مَنْ كَانَ في حَاجَة أخِيه، كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: النهي عن ظلم المسلم وإهانته.
وفيه: فضل قضاء حاجته، وتفريج كربته، وستر عورته.
وفيه: أنَّ الله يعامل العبد بما يعامل به الخلق، كما في الحديث المشهور: «الراحمون يرحمهم الله الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في ... السماء» .
[245] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيَا، نَفَّسَ الله عَنْهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّر عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عَلَيهِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ الله في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، والله في عَونِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ في عَونِ أخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَريقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَريقاً إِلَى الجَنَّةِ. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيت مِنْ بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ الله فِيمَنْ عِندَهُ. وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِع بِهِ نَسَبُهُ» . رواه مسلم.
هذا حديث عظيم، جليل، جامع لأنواع من العلوم، والقواعد، والآداب، والفضائل، والفوائد، والأحكام.
(1/182)
وفيه: إشارة إلى أنَّ الجزاء من جنس العمل.
وفيه: فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسَّر من علم، أو مال أو نصح أو دلالة على خير، وفضل التيسير على المعسر.
وفيه: فضل إعانة المسلم بما يقدر عليه؟
وفيه: فضل العلم الديني، وأنه سبب لدخول الجنة.
وفيه: فضل الاجتماع على مدارسة القرآن خصوصًا في المساجد.
30- باب الشفاعة
قَالَ الله تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} ... [النساء (85) ] .
الشفاعة الجائزة: هي السؤال بقضاء حاجة أو عفو عن زلة.
[246] وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أتاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أقبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ، فَقَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي الله عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أحبَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «مَا شَاءَ» .
في هذا الحديث: الحضُّ على الخير، والتسبُّب إليه بكل وجه، والشفاعة إلى الكبير، ومعونة الضعيف؛ إذ ليس كل أحد يقدر على تبيين حاله للرئيس.
وفيه: أنَّ الثواب حاصلٌ بالشفاعة، سواء حصل المشفوع به أم لا، وأنَّه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لم منع.
[247] وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قِصَّةِ برِيرَةَ وَزَوْجِهَا، قَالَ: قَالَ لَهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ رَاجَعْتِهِ؟» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ تَأمُرُنِي؟ قَالَ: «إنَّمَا أَشْفَع» . قَالَتْ: لا حَاجَةَ لِي فِيهِ. رواه البخاري.
(1/183)
في هذا الحديث: استحباب شفاعة الحاكم في الرفق بالخصم، وأنَّ الأَمَة إذا أُعتقت تحت عبد فلها الخيار، وأنَّ المرء إذا خُيِّر بين مباحين، فاختار ما ينفعه لم يُلَمْ، ولو أضرَّ ذلك برفيقه.
31- باب الإصلاح بَيْنَ الناس
قَالَ الله تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء (114) ] .
المعروف: كل ما يستحسنه الشرع. وخصَّ الإصلاح لشرفه.
قال الواحدي: هذا مما حثَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأبي أيُّوب الأنصاري: «ألا أَدُلُّك على صدقة هي خير لك من حمر النعم» . قال: نعم يَا رسول الله. قال: «تصلح بين الناس إذا فسدوا، وتقرَّب بينهم إذا تباعدوا» .
وَقالَ تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء (128) ] .
أي: من الفرقة. وهذه الآية نزلت في الصلح بين المرأة وزوجها، وهي عامة في كل شيء فيه خصومة ونزاع.
وَقالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال (1) ] .
هذه الآية نزلت حين اختلف الصحابة في غنائم بدر. وهي عامة في كل ما يقع فيه النزاع والاختلاف الذي يورث الشحناء؛ لأنَّ فساد ذات البين مضرة بالدين والدنيا.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ... [الحجرات (10) ] .
(1/184)
هذه الآية نزلت حين اقتتل بعضُ الصحابة بالسعف والنعال، ثم أخذوا السلاح، فأصلح بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهي عامة في كل نزاع يقع بين المسلمين.
[248] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَينِ صَدَقَةٌ، وَتُعينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقةٌ، وَبِكُلِّ خَطْوَةٍ تَمشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُميطُ الأَذى عَنِ الطَّريقِ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ومعنى «تَعدِلُ بينهما» : تُصْلِحُ بينهما بالعدل.
السُّلامى: عظام البدن ومفاصله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلق الإنسان على ستين وثلاثمئة مفصل» .
وفي الحديث: تجديد هذه الصدقات كل يوم شكرًا لله تعالى على ما أنعم به من العافية.
وفي الحديث الآخر: «إنَّ الصدقة تدفع البلاء» .
[249] وعن أمِّ كُلْثُوم بنت عُقْبَة بن أَبي مُعَيط رضي الله عنها، قَالَتْ: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيراً، أَوْ يقُولُ خَيْراً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية مسلم زيادة، قَالَتْ: وَلَمْ أسْمَعْهُ يُرْخِّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ النَّاسُ إلا في ثَلاثٍ، تَعْنِي: الحَرْبَ، وَالإِصْلاَحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثَ المَرْأةِ زَوْجَهَا.
(1/185)
في هذا الحديث: دليل على جواز الكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس في ذلك، وجواز الكذب على المرأة بما لا يبطل حقها، كأن يقول: أنت كذا وكذا، وأنا أحبك، ونحو ذلك. والتورية أحسن، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها.
[250] وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَوْتَ خُصُومٍ بِالبَابِ عَاليةً أصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَر وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: والله لا أفْعَلُ، فَخَرجَ عَلَيْهِمَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟» ، فَقَالَ: أَنَا يَا رسولَ اللهِ، فَلَهُ أيُّ ذلِكَ أحَبَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
معنى «يَسْتَوضِعُهُ» : يَسْأَلهُ أنْ يَضَعَ عَنْهُ بَعضَ دَيْنِهِ. «وَيَسْتَرفِقُهُ» : يَسأَلُهُ الرِّفْقَ. «وَالمُتَأَلِّي» : الحَالِفُ.
قوله: (فلهُ، أي: ذلك أحب) .
وفي رواية لابن حبان: «إن شئت وضعت ما نقصوا، وإنْ شئت من رأس المال» . فوضع ما نقصوا.
وفي أول الحديث دخلت امرأة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني ابتعتُ أنا وابني من فلان تمرًا فأحصيناه. (والذي أكرمك بالحق ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا، أو نطعمه مسكينًا، وجئنا نستوضعُه ما نقصنا ... ) الحديث.
قال الحافظ: وهي غير قصة كعب بن مالك وخصمه عبد الله بن أبي حدرد.
وفي الحديث: الحض على الرفق بالغريم، والإحسان إليه بالوضع، والزجر عن الحلف على ترك الخير.
(1/186)
وفيه: الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللفظ ورفع الصوت.
[251] وعن أَبي العباس سهل بن سَعد الساعِدِيّ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بَلَغَهُ أنَّ بَني عَمرو بن عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَرٌّ، فَخَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصْلِحُ بَينَهُمْ في أُنَاس مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَحَانَتِ الصَّلاة، فَجَاءَ بِلالٌ إِلَى أَبي بكر رضي الله عنهما، فَقَالَ: يَا أَبا بَكْر، إنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ حُبِسَ وَحَانَتِ الصَّلاةُ فَهَلْ لَكَ أنْ تَؤُمَّ النَّاس؟ قَالَ: نَعَمْ، إنْ شِئْتَ، فَأقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ، وتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ، وَجَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمشي في الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ في الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ في التَّصْفيقِ، وَكَانَ أَبُو بكرٍ - رضي الله عنه - لا يَلْتَفِتُ في صَّلاتِه، فَلَمَّا أكْثَرَ النَّاسُ في التَّصْفيقِ الْتَفَتَ، فإِذَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَشَارَ إِلَيْه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَفَعَ أَبُو بَكْر - رضي الله عنه - يَدَهُ فَحَمِدَ اللهَ، وَرَجَعَ القَهْقَرَى وَرَاءهُ حَتَّى قَامَ في الصَّفِّ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلَّى للنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: «أيُّهَا
النَّاسُ، مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ في الصَّلاةِ أخَذْتُمْ في التَّصفيق؟! إِنَّمَا التَّصفيق للنِّساء. مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ في صَلاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ الله، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُهُ أحدٌ حِينَ يقُولُ: سُبْحَانَ الله، إلا الْتَفَتَ. يَا أَبَا بَكْر: مَا مَنَعَكَ أنْ تُصَلِّي بالنَّاسِ حِينَ أشَرْتُ إلَيْكَ؟» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ يَنْبَغي لابْنِ أَبي قُحَافَةَ أنْ يُصَلِّي بالنَّاسِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
معنى «حُبِسَ» : أمْسَكُوهُ لِيُضَيِّفُوهُ.
(1/187)
في هذا الحديث: السعي في الإصلاح بين الناس، وجواز الصلاة بإمامين، وجواز الالتفات للحاجة.
32- باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف (28) ] .
نزلت هذه الآية حين قالت أشراف قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نحِّ هؤلاء - يعني فقراء المسلمين - حتى نجالسك.
[252] وعن حارثة بن وهْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سمعت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «ألا أُخْبِرُكُمْ بِأهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيف مُتَضَعَّف، لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«العُتُلُّ» : الغَلِيظُ الجَافِي. «وَالجَوَّاظُ» : بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة: وَهُوَ الجَمُوعُ المَنُوعُ، وَقِيلَ: الضَّخْمُ المُخْتَالُ في مِشْيَتِهِ، وَقِيلَ: القَصِيرُ البَطِينُ.
في هذا الحديث: بيان أن أكثر أهل الجنة الضعفاء، وأكثر أهل النار المتكبرون. وروي عن ابن عباس مرفوعًا: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: الجواظ، والعتل، والجعظري» . قيل: وما الجواظ: قال: الجَمُوع المنوع، البخيلُ بما في يديه. والجعظري: الفَظُّ على ما ملكت يمينه، والغليظ لقرابته وجيرانه وأهل بيته. والعتل: الشرس الخلق، الرحب الجوف، الأكول الشروب، الغشوم الظلوم» .
(1/188)
[253] وعن أَبي عباس سهل بن سعد الساعِدِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَىالنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٌ: «مَا رَأيُكَ في هَذَا؟» ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا واللهِ حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وَإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ. فَسَكَتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا رَأيُكَ في هَذَا؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَراءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنْكَحَ، وَإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشَفَّعَ، وَإنْ قَالَ أنْ لا يُسْمَعَ لِقَولِهِ. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلءِ الأرْضِ مِثْلَ هَذَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «حَرِيٌّ» هُوَ بفتح الحاءِ وكسر الراء وتشديد الياءِ: أي حَقيقٌ. وقوله: «شَفَعَ» بفتح الفاءِ.
يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ... [الحجرات (13) ] .
[254] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «احْتَجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ، فقالتِ النَّارُ: فِيَّ الجَبَّارُونَ وَالمُتَكَبِّرُونَ. وَقَالتِ الجَنَّةُ: فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَقَضَى اللهُ بَيْنَهُمَا: إنَّكِ الجَنَّةُ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، وَإنَّكِ النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، وَلِكلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: فضل الضعفاء والمساكين العاملين بطاعة الله التاركين لمعاصيه.
(1/189)
[255] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهُ لَيَأتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ لا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: أنَّ ذا القدر والجاه في الدنيا إذا لم يكن ذا تقوى، فليس له قدر عند الله.
وفي الحديث الصحيح: «ولا ينفعُ ذا الجد منك الجد» .
وفي الحديث الآخر: «إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» .
[256] وعنه: أنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ، أَوْ شَابّاً، فَفَقَدَهَا، أَوْ فَقَدَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ عَنْهَا، أو عنه، فقالوا: مَاتَ. قَالَ: «
أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ» فَكَأنَّهُمْ صَغَّرُوا أمْرَهَا، أَوْ أمْرهُ، فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ أو قَبْرِهَا» فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ هذِهِ القُبُورَ مَمْلُوءةٌ ظُلْمَةً عَلَى أهْلِهَا، وَإنَّ اللهَ تعالى يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «تَقُمُّ» هُوَ بفتح التاءِ وضم القاف: أي تَكْنُسُ. «وَالقُمَامَةُ» : الكُنَاسَةُ، «وَآذَنْتُمُونِي» بِمد الهمزة: أيْ: أعْلَمْتُمُونِي.
في هذا الحديث: أنّ القبور لا ينورها إلا الأعمال الصالحة، أو الشفاعة المقبولة.
وفيه: فضل تنظيف المساجد، والترغيب في شهود جنائز أهل الخير، ومشروعية الصلاة على قبر الميت لمن لم يصل عليه.
(1/190)
[257] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ أشْعَثَ أغبرَ مَدْفُوعٍ بالأبْوابِ لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ» . رواه مسلم.
قوله: «مدفوع بالأبواب» ، أي أبواب الملوك والأمراء لحقارة قدره عندهم، ولو حلف يمينًا بحصول أمر طمعًا في كرم الله لأبره، إكرامًا له بإجابة سؤاله، وصيانته من الحنث في يمينه. كما قال أنس بن النضر: لا والله لا تُكسر ثنية الربيع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أنس كتاب الله: القصاص» ، فرضي القوم أجمعون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبره» .
[258] وعن أسامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ، وَأصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أنَّ أصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«وَالْجَدُّ» : بفتح الجيم: الحَظُّ وَالغِنَى. وَقوله: «مَحْبُوسُونَ» أيْ: لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بَعْدُ في دُخُولِ الجَنَّةِ.
في هذا الحديث: فضل الفقراء الصابرين على الضَّرَّاء، والشاكرين على السراء، وأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء.
وفيه: أنَّ الذين يؤدَّون حقوق المال، ويسلمون من فتنته هم الأقلُّون، وأنَّ الكفار يدخلون النار ولا يُحبسون عنها.
وفيه: أن عامة من يدخل النار النساء لإكثارهن اللَّعْن. وكفر العشير.
(1/191)
[259] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِداً، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلاتِي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ فَانْصَرَفَتْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ أمِّي وَصَلاتِي، فَأقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الغَدِ أتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ أمِّي وَصَلاتِي، فَأقْبَلَ عَلَى صَلاَتِهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ المُومِسَاتِ. فَتَذَاكَرَ بَنُو إسْرائِيل جُرَيْجاً
وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأتَتْ رَاعِياً كَانَ يَأوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ، قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُريج، فَأتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا ... شَأنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بهذِهِ البَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ. قَالَ: أيْنَ الصَّبيُّ؟ فَجَاؤُوا بِهِ فَقَالَ: دَعُوني حَتَّى أصَلِّي، فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرفَ أتَى الصَّبيَّ فَطَعنَ في بَطْنِهِ، وَقالَ: يَا غُلامُ مَنْ أبُوكَ؟ قَالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَب. قَالَ: لا، أعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعلُوا.
وبَينَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ منْ أُمِّهِ فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ
(1/192)
حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَل ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى ثَدْيه فَجَعَلَ يَرتَضِعُ» ، فَكَأنِّي أنْظُرُ إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَحْكِي ارْتضَاعَهُ بِأصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ في فِيه، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا، قَالَ: «وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُم يَضْرِبُونَهَا، ويَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ. فَقَالَتْ أمُّهُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَل ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَركَ الرَّضَاعَ ونَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مثْلَهَا، فَهُنَالِكَ تَرَاجَعَا الحَديثَ، فَقَالَتْ: مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بهذِهِ الأمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، فقلتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا؟! قَالَ: إنَّ ذلك الرَّجُل
كَانَ جَبَّاراً، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإنَّ هذِهِ يَقُولُونَ: لها زَنَيْتِ، وَلَمْ تَزْنِ وَسَرقْتِ، وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«المُومسَاتُ» بِضَمِّ الميمِ الأُولَى، وَإسكان الواو وكسر الميم الثانية وبالسين المهملة؛ وهُنَّ الزَّواني. وَالمُومِسَةُ: الزَّانِيَةُ. وقوله: «دَابَّةٌ فَارِهَةٌ» بِالفَاءِ: أي حَاذِقَةٌ نَفيسةٌ. «وَالشَّارَةُ» بالشين المعجمة وتخفيف الرَّاءِ: وَهيَ الجَمَالُ الظَّاهِرُ في الهَيْئَةِ والمَلبَسِ. ومعنى «تَراجَعَا الحَديث» أي: حَدَّثت الصبي وحَدَّثها، والله أعلم.
كان جريج في أول أمره تاجرًا، وكان يزيد مرة، وينقص أخرى. فقال: ما في هذه التجارة خير، لأَلْتمَسَنَّ تجارة خيرًا من هذه، فبنى صومعة وترهَّب فيها. رواه أحمد.
(1/193)
وفي حديث مرفوع: «لو كان جريج عالمًا لعلم أنَّ إجابته أمه أولى من صلاته» .
وفي الحديث: إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع.
وفيه: أنّ صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن.
وفيه: إثبات كرامات الأولياء.
وفي الحديث أيضًا: أنّ نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال الظاهر، بخلاف أهل الحقيقة. كما قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ *
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} [القصص (79، 80) ] .
33- باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين
والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم
والتواضع معهم وخفض الجناح لهم
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر (88) ] .
أي: ليَّن جانبك. وهذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - محرضًا له على مكارم الأخلاق، ومحاسنها، وهو عام لجميع أمته. قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب (21) ] .
وَقالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف (28) ] .
(1/194)
أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحبس نفسه مع الذين يعبدون الله في سائر الأوقات، وأنْ لا يجاوزهم ناظرًا إلى غيرهم من ذوي الهيئات.
وَقالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى (9) ] .
أي: لا تغلبه بالظلم، وكُن له كالأب الرحيم.
وَقالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى (10) ] .
أي: لا تزجره، ولكن أعطه، أو رده ردًا جميلاً.
وَقالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون (1: 3) ] .
الاستفهام للتعجب من المكذب بالجزاء والبعث.
قوله: {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} ، أي: يدفعه دفعًا عنيفًا، ولا يحض أهله وغيرهم. على طعام المسكين.
[260] وعن سعد بن أَبي وَقَّاص - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اطْرُدْ هؤلاء لا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، وَكُنْتُ أنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلالٌ وَرَجُلاَنِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ في نفس رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفسَهُ، فَأنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ... [الأنعام (52) ] . رواه مسلم.
في بعض كتب التفسير أنهم لما عرضوا ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له: اجعل لنا يومًا ولهم يومًا، فَهَمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأنزل الله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام (52) ] ، فنهاه عن طردهم ووصفهم
(1/195)
بأحسن أوصافهم، وأمر بأن يصبر نفسه معهم فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رآهم يقول: «مرحبًا بالذين عاتبني الله فيهم» . وإذا جالسهم لم يقم عنهم، حتى يكونوا هم الذين يبدأون بالقيام.
[261] وعن أَبي هُبَيرَة عائِذ بن عمرو المزنِي وَهُوَ مِنْ أهْل بيعة الرضوان ... - رضي الله عنه - أنَّ أبا سُفْيَانَ أتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبلاَلٍ في نَفَرٍ، فقالوا: مَا
أخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عَدُوِّ الله مَأْخَذَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - أتَقُولُون هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيدِهِمْ؟ فَأتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعلَّكَ أغْضَبتَهُمْ؟ لَئِنْ كُنْتَ أغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أغْضَبتَ رَبَّكَ» فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: يَا إخْوَتَاهُ، أغْضَبْتُكُمْ؟ قالوا: لا، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أُخَيَّ. رواه مسلم.
قولُهُ: «مَأْخَذَهَا» أيْ: لَمْ تَسْتَوفِ حقها مِنْهُ. وقوله: «يَا أُخَيَّ» : رُوِي بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الخاءِ وتخفيف الياءِ، وَرُوِيَ بضم الهمزة وفتح الخاء وتشديد الياءِ.
كان إتيان أبي سفيان المدينة، وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية، وقول أبي بكر تألفًا لأبي سفيان.
وفي هذا الحديث: احترام الصالحين واتقاء ما يؤذيهم أو يغضبهم.
[262] وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا وَكَافلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا» . وَأَشارَ بالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا. رواه البخاري.
و «كَافلُ اليَتيم» : القَ‍ائِمُ بِأمُوره.
(1/196)
قال ابن بطال: حقٌ على من سمع هذا الحديث أن يعمل به، فيكون رفيق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة.
[263] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَافلُ اليَتيِم لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ في الجَنَّةِ» . وَأَشَارَ الرَّ اوِي وَهُوَ مَالِكُ بْنُ أنَس بالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى. رواه مسلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اليَتِيمُ لَهُ أَوْ لِغَيرِهِ» مَعْنَاهُ: قَريبُهُ، أَو الأجْنَبيُّ مِنْهُ، فالقَريبُ مِثلُ أنْ تَكْفَلهُ أمُّهُ أَوْ جَدُّهُ أَوْ أخُوهُ أَوْ غَيرُهُمْ مِنْ قَرَابَتِهِ، والله أعْلَمُ.
قال النووي: هذه الفضيلة تحصل لمن كفل اليتيم من مال نفسه، أو مال اليتيم، بولاية شرعية.
[264] وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ المِسْكينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا المِسكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية في الصحيحين: «لَيْسَ المِسكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ، وَالتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لا يَجِدُ غنىً يُغْنِيه، وَلا يُفْطَنُ لهِ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ» .
أي: ليس المسكين الممدوح من المساكين، الأحق بالصدقة والأحوج بها سوى المتعفف.
(1/197)
قال الخطابي: إنما نفى - صلى الله عليه وسلم - المسكنة عن السائل الطواف، لأنه تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزكاة فتزول خصاصته، وإنما تدوم الحاجة فيمن لا يسأل ولا يعطى.
[265] وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالمُجَاهِدِ في سَبيلِ اللهِ» وَأحسَبُهُ قَالَ: «وَكالقَائِمِ الَّذِي لا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ الَّذِي لا يُفْطِرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الأرملة: المرأة التي لا وزج لها. والأرامل: المساكين من رجال ونساء، والساعي عليهما، وهو المكتسب لهما بما يمونهما به.
[266] وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ» . رواه مسلم.
وفي رواية في الصحيحين، عن أَبي هريرة من قوله: «بئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهَا الأغْنِيَاءُ ويُتْرَكُ الفُقَراءُ» .
الوليمة: الطعام المتخذ للعرس، وتقع على كل دعوة تتخذ لسرور حادث، كختان ونحوه.
وفي الحديث: مراعاة الفقراء، والتلطف بهم، وإجابة الداعي.
[267] وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْن حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ» وضَمَّ أصَابِعَهُ. رواه مسلم.
(1/198)
«جَارِيَتَيْنِ» أيْ: بنتين.
في هذا الحديث: الثواب العظيم لمن قام على البنات بالمؤونة والتربية حتى يتزوجن.. وكذلك الأخوات.
[268] وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأةٌ وَمَعَهَا ابنتان لَهَا، تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيئاً غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحدَةٍ، فَأعْطَيْتُهَا إيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْها ولَمْ تَأكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرجَتْ، فَدَخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
عَلَينَا، فَأخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «مَنِ ابْتُليَ مِنْ هذِهِ البَنَاتِ بِشَيءٍ فَأحْسَنَ إلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتراً مِنَ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال القرطبي: يفيد هذا الحديث بعمومه أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدة من البنات، فإذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على السترِ السبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجنة كما في الحديث السابق.
[269] وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: جَاءتني مِسْكينةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأطْعَمْتُها ثَلاثَ تَمرَات، فَأعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعتْ إِلَى فِيها تَمْرَةً لِتَأكُلها، فَاسْتَطعَمَتهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتي كَانَتْ تُريدُ أنْ تَأكُلَهَا بَيْنَهُما، فَأعجَبَنِي شَأنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «إنَّ الله قَدْ أوْجَبَ لَهَا بها الجَنَّةَ، أَوْ أعتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: فضل الإثيار على النفس، ورحمة الصغار، ومزيد الإحسان والرفق بالبنات وأن ذلك سبب لدخول الجنة والعتق من النار.
(1/199)
[270] وعن أَبي شُرَيحٍ خُوَيْلِدِ بن عمرو الخزاعِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ: اليَتِيم وَالمَرْأةِ» . حديث حسن رواه النسائي بإسناد جيد.
ومعنى «أُحَرِّجُ» : أُلْحِقُ الحَرَجَ وَهُوَ الإثْمُ بِمَنْ ضَيَّعَ حَقَّهُمَا، وَأُحَذِّرُ مِنْ ذلِكَ تَحْذِيراً بَليغاً، وَأزْجُرُ عَنْهُ زجراً أكيداً.
أنما حرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حق اليتيم والمرأة، لأنهما لا قوة لهما ولا ملجأ إلا إلى الله تعالى.
[271] وعن مصعب بن سعد بن أَبي وقَّاص رضي الله عنهما، قَالَ: رَأى سعد أنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ تُنْصرُونَ وتُرْزَقُونَ إلا بِضُعَفَائِكُمْ» . رواه البخاري هكذا مُرسلاً، فإن مصعب بن سعد تابعيٌّ، ورواه الحافظ أَبُو بكر البرقاني في صحيحه متصلاً عن مصعب عن أبيه - رضي الله عنه -.
قال ابن بطال: تأويل الحديث أنَّ الضعفاء أشد إخلاصًا في الدعاء وأكثر خشوعًا في العبادة، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا.
[272] وعن أَبي الدَّرداءِ عُويمر - رضي الله عنه - قَالَ: سمعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «ابْغُوني الضُّعَفَاء، فَإنَّمَا تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ، بِضُعَفَائِكُمْ» . رواه أَبُو داود بإسناد جيد.
(1/200)
الضعفاء: صعاليك المسلمين، أي ائتوا بهم لأستعين بهم.
وفي رواية:: «ابغوني في الضعفاء» .
وفي أحاديث الباب: الانقطاع إلى الله سبحانه وإعانة الفقراء، وإغاثة المنقطعين وعدم رؤية النفس، والحذر من التعرُّض لإيذاء أحد من الضعفاء.
34- باب الوصية بالنساء
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} [النساء (19) ] .
المعاشرة بالمعروف: حُسْن الخلق. أي: أجملوا بالقول والفعل معهن.
وَقالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء (129) ] .
معنى الآية: أنَّ الرجال لا يستطيعون العدل بين النساء من جميع الوجوه؛ لأنه لا بُدَّ من التفاوت في المحبة والشهوة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه، فلا تميلوا كل الميل إلى واحدة فتتركوا الأخرى كالمعلقة، لا ذات بعل ولا مطلقة.
[273] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْراً؛ فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلعٍ، وَإنَّ أعْوَجَ مَا في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فَإنْ ذَهَبتَ تُقيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإنْ تَرَكْتَهُ، لَمْ يَزَلْ أعْوجَ، فَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية في الصحيحين: «المَرأةُ كالضِّلَعِ إنْ أقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإن اسْتَمتَعْتَ بِهَا، اسْتَمتَعْتَ وفِيهَا عوَجٌ» .
(1/201)
وفي رواية لمسلم: «إنَّ المَرأةَ خُلِقَت مِنْ ضِلَع، لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَريقة، فإن اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفيهَا عوَجٌ، وإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَها، وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا» .
قوله: «عَوَجٌ» هُوَ بفتح العينِ والواوِ.
العوج: بفتحتين في الأجساد، وبكسر العين في المعاني فالصواب الكسر، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف (1) ]
وفي الحديث: إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم عليهما السلام، وأن طبيعة المرأة الاعوجاج فلا بد من الصبر عليهن والرفق بهن.
[274] وعن عبد الله بن زَمْعَةَ - رضي الله عنه - أنَّهُ سَمِعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: « {إِذ انْبَعَثَ أشْقَاهَا} انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزيزٌ، عَارِمٌ مَنيعٌ في رَهْطِهِ» ، ثُمَّ ذَكَرَ النِّسَاءَ، فَوعَظَ فِيهنَّ، فَقَالَ: «يَعْمِدُ أحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأتَهُ جَلْدَ العَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَومِهِ» ثُمَّ وَعَظَهُمْ في ضَحِكِهمْ مِنَ الضَّرْطَةِ، وَقالَ: «لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ؟!» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«وَالعَارِمُ» بالعين المهملة والراء: هُوَ الشِّرِّيرُ المفسِدُ، وقوله: «انْبَعَثَ» ، أيْ: قَامَ بسرعة.
في هذا الحديث: إيماء إلى جواز الضرب اليسير للنساء، بحيث لا يحصل معه النفور، لأن المجامعة إنما تستحسن مع الرغبة في العشرة فيستبعد وقوع الضرب الشديد، والمضاجعة في يوم واحد من عاقل.
(1/202)
[275] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» ، أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ» . رواه مسلم.
وقولُهُ: «يَفْرَكْ» هُوَ بفتح الياءِ وإسكان الفاء وفتح الراءِ معناه: يُبْغِضُ، يقالُ: فَرِكَتِ المَرأةُ زَوْجَهَا، وَفَرِكَهَا زَوْجُهَا، بكسر الراء يفْرَكُهَا بفتحها: أيْ أبْغَضَهَا، والله أعلم.
أي ليس لمؤمن أن يبغض زوجته المؤمنة، لأنه إن وجد منها خلقًا يكرهه، كسوء خلق، رضي منها خلقًا يحبه، كالعفاف والمعاونة، ونحو ذلك.
[276] وعن عمرو بن الأحوصِ الجُشَمي - رضي الله عنه - أنَّهُ سَمِعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ يَقُولُ بَعْدَ أنْ حَمِدَ الله تَعَالَى، وَأثْنَى عَلَيهِ وَذَكَّرَ وَوَعظَ، ثُمَّ قَالَ: «ألا وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْراً، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ إلا أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ في المَضَاجِع، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيهنَّ سَبيلاً؛ ألا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً؛ فَحَقُّكُمْ عَلَيهِنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ؛ ألا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ في كِسْوَتِهنَّ وَطَعَامِهنَّ» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن صحيح» .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عَوان» أيْ: أسِيرَاتٌ جَمْع عَانِيَة، بالعَيْنِ المُهْمَلَةِ، وَهِيَ الأسِيرَةُ، والعاني: الأسير. شَبَّهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المرأةَ في دخولِها تَحْتَ حُكْمِ الزَّوْجِ بالأَسيرِ «وَالضَّرْبُ المبَرِّحُ» : هُوَ الشَّاقُ الشَّدِيد
(1/203)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فَلا تَبْغُوا عَلَيهنَّ سَبِيلاً» أيْ: لا تَطْلُبُوا طَريقاً تَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَيهِنَّ وَتُؤْذُونَهُنَّ بِهِ، والله أعلم.
حق الزوج على المرأة الاسمتاع، وأن تحفظه في نفسها وماله، فإنْ نشزت أو أساءت العشرة هجرها في المضجع، فإن أصرَّت ضَرَبَها ضربًا غير مبرح، بأنْ لا يجرحها ولا يكسر لها عظمًا، ويجتنب الوجه والمقاتل، وحق المرأة على الزوج نفقتُها وكسوتها عند عدم النشوز.
[277] وعن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُول الله، مَا حق زَوجَةِ أَحَدِنَا عَلَيهِ؟ قَالَ: «أنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طعِمْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلا تَضْرِبِ الوَجْهَ، وَلا تُقَبِّحْ، وَلا تَهْجُرْ إلا في البَيْتِ» . حديثٌ حسنٌ رواه أَبُو داود، وَقالَ: معنى «لا تُقَبِّحْ» : لا تقل: قبحكِ الله.
في هذا الحديث: وجوب إطعام المرأة وكسوتها، والنهي عن تقبيحها وضرب وجهها، وجواز هجرها في البيت تأديبًا لها.
[278] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكْمَلُ المُؤمِنِينَ إيمَاناً أحْسَنُهُمْ خُلُقاً، وخِيَارُكُمْ خياركم لِنِسَائِهِمْ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
في هذا الحديث: دليل على أنّ حسن الخلق من أفضل الأعمال.
وفيه: الحث على معاملة الزوجة بالإحسان إليها، وطلاقة الوجه، وكف الأذى عنها، والصبر على أذاها.
(1/204)
[279] وعن إياس بن عبد الله بن أَبي ذباب - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَضْرِبُوا إمَاء الله» . فجاء عُمَرُ - رضي الله عنه - إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: ذَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أزْوَاجِهِنَّ، فَرَخَّصَ في ضَرْبِهِنَّ، فَأطَافَ بآلِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءٌ كَثيرٌ يَشْكُونَ أزْواجَهُنَّ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ أطَافَ بِآلِ بَيتِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كثيرٌ يَشْكُونَ أزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أولَئكَ بخيَارِكُمْ» . رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
قوله: «ذَئِرنَ» هُوَ بذَال مُعْجَمَة مفْتوحَة، ثُمَّ هَمْزة مَكْسُورَة، ثُمَّ راءٍ سَاكِنَة، ثُمَّ نُون، أي: اجْتَرَأْنَ، قوله: «أطَافَ» أيْ: أحَاطَ.
ضرب المرأة يكون من حرج الصدر، وضيق النفس، وذلك خلاف حسن الخلق الذي هو من أوصاف الخيار، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس أولئك بخياركم» .
[280] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» . رواه مسلم.
قال القرطبي: فُسِّرت: المرأة الصالحة في الحديث بقوله: «التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسِهَا وماله» .
(1/205)
35- باب حق الزوج عَلَى المرأة
قَالَ الله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ} ... [النساء (34) ] .
يخبر تعالى أنَّ الرجالَ قوَّامون على النساء، قيام الوُلاة على الرعايا بما فضلهم الله به عليهن من كمال العقل، والدين والقوة، وبما أعطوهن من المهر والنفقة.
ثم أخبر أنَّ الصالحات منهن مطيعات لله، ولأزواجهن، حافظات لفروجهن.
وأما الأحاديث فمنها حديث عمرو بن الأحوص السابق في الباب قبله.
وفيه: «فحقكم عليهن: أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون» .
[281] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امرَأتَهُ إِلَى فرَاشِهِ فَلَمْ تَأتِهِ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا المَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبحَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لهما: «إِذَا بَاتَت المَرأةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبحَ» .
وفي رواية قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأتَهُ إِلَى فِرَاشهِ فَتَأبَى عَلَيهِ إلا كَانَ الَّذِي في السَّمَاء سَاخطاً عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنها» .
(1/206)
في هذا الحديث: دليل على تحريم امتناع المرأة إذا طلبها زوجها للجماع، وأنه يوجب سخط الله عليها، ولهذا لعنتها الملائكة.
[282] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ لامْرَأةٍ أنْ تَصُومَ وزَوْجُهَا شَاهدٌ إلا بإذْنِهِ، وَلا تَأذَنَ في بَيْتِهِ إلا بِإذنِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وهذا لفظ البخاري.
لا يجوز للمرأة أن تصوم نفلاً إلا بإذن زوجها، وكذلك قضاء رمضان إذا لم يضق الوقت، قالت عائشة: (كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان للشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
[283] وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كلكم رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: وَالأمِيرُ رَاعٍ، والرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أهْلِ بَيتِهِ، وَالمَرْأةُ رَاعِيةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجها وَوَلَدهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الراعي: هو الحافظ المؤتَمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه، فهو مطلوب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه، ومسؤول هل قام بما يجب لرعيته أو لا؟
[284] وعن أَبي علي طَلْق بن علي - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ زَوْجَتهُ لحَاجَتِهِ فَلْتَأتِهِ وَإنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُور» . رواه الترمذي والنسائي، وَقالَ الترمذي: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
(1/207)
الحديث: دليل على وجوب طاعة الزوج وتقديمه على شغلها.
[285] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ كُنْتُ آمِراً أحَداً أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ لأمَرْتُ المَرأةَ أنْ تَسْجُدَ لزَوجِهَا» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
فيه: دليل على تعظيم حق الزوج على المرأة وسبب هذا الحديث ما رواه أبو داود عن قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فقلت: رسول الله أحق أنْ يسجد له. قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت رسول الله أحق أن يُسجد لك، قال: «أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد لي» ، فقال: لا. قال: «فلا تفعلوا، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» .
[286] وعن أم سَلَمَة رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّمَا امْرَأةٍ مَاتَتْ، وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الجَنَّةَ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
فيه: الحثُّ على سعي المرأة فيما يرضي زوجها، وتجنّب ما يسخطه لتفوز بالجنة.
[287] وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تُؤْذِي امْرَأةٌ زَوْجَهَا في الدُّنْيَا إلا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الحُورِ العِينِ لا تُؤذِيهِ قَاتَلكِ اللهُ ‍! فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكِ دَخِيلٌ يُوشِكُ أنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
(1/208)
الدخيل: الضيف والنزيل؛ وعبرت بذلك لأن مدة المقام بالدنيا وإن طالت فهي يسيرة بالنظر إلى الآخرة التي لا أَمَد لها.
[288] وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّساء» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فيه: دليل على أن الافتتان بالنساء أشد من سائر الشهوات، لعدم الاستغناء عنهن، وقد يحمل حبهن على تعاطي ما لا يحل للرجل وترك ما ينفعه في أمور دينه ودنياه.
36- باب النفقة عَلَى العيال
قَالَ الله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف} [البقرة (233) ] .
أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن، سواءً كُنَّ في عصمته أو مطلقات بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته.
وَقالَ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا مَا آتَاهَا} [الطلاق (7) ] .
هذه الآية نزلت في الإنفاق على المرضعة، وهي عامة في جميع النفقات الواجبة.
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه} [سبأ (39) ] .
أي: يعوِّضه عاجلاً أو آجلاً.
[289] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دِينَارٌ أنْفَقْتَهُ في سَبيلِ اللهِ، وَدِينار أنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، وَدِينارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ
(1/209)
عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أنْفَقْتَهُ عَلَى أهْلِكَ، أعْظَمُهَا أجْراً الَّذِي أنْفَقْتَهُ عَلَى أهْلِكَ» . رواه مسلم.
فيه: أنّ النفقة الواجبة أعظم أجرًا من المندوبة.
[290] وعن أَبي عبد الله، ويُقالُ لَهُ: أَبو عبد الرحمن ثَوبَان بن بُجْدُد مَوْلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفقُهُ الرَّجُلُ: دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدينَارٌ يُنْفقُهُ عَلَى دَابَّتِهِ في سَبيلِ الله، وَدِينارٌ يُنْفقُهُ عَلَى أصْحَابهِ في سَبيلِ اللهِ» . رواه مسلم.
قدَّم في هذا الحديث النفقة على العيال في الذكر، اهتمامًا بذلك لأنه أشرف الأنواع.
[291] وعن أمِّ سَلمَة رَضي الله عنها، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُول الله، هَلْ لِي أجرٌ فِي بَنِي أَبي سَلَمَة أنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكتهمْ هكَذَا وَهكَذَا إنَّمَا هُمْ بَنِيّ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، لَكِ أجْرُ مَا أنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فيه: دليل على ثبوت الأجر على نفقة العيال وغيرهم، ولو كان ذلك لازمًا بالطبع.
[292] وعن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه - في حديثه الطويل الَّذِي قدمناه في أول الكتاب في باب النِّيَةِ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: «وإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فيِّ امرأتِك» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/210)
في هذا الحديث: أنّ كل شيء قصد به وجه الله تعالى يثاب عليه فاعله، ولو كان من الملاعبة.
[293] وعن أَبي مسعود البدري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فيه: أنّ النفقة على الأهل وإن كانت واجبة فهي له صدقة إذا احتسبها.
[294] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» . حديث صحيح رواه أَبُو داود وغيره.
ورواه مسلم في صحيحه بمعناه، قَالَ: «كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ» .
فيه: عظم إثم من منع نفقة زوجته أو ولده، أو غيرهم ممن تلزمه نفقتهم وكذلك دوابه.
[295] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلا مَلَكانِ يَنْزلاَنِ، فَيقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تلَفاً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
أيهم الخَلَفُ في هذا الحديث، ليتناول المال والثواب وغيرهما، والتَلَفُ يتناول ذلك المال بعينه، أو تلف نفس صاحب المال.
(1/211)
[296] وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ» . رواه البخاري.
اليد العليا: يد المعطي. والسفلى: هي السائلة.
قال الحافظ: ومحصل ما في الأحاديث أن أعلى الأيدي: المنفقة، ثم المتعففة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة.
وفي الحديث: وجوب البداءة بمن تلزمه مؤنته، وأن خير الصدقة ما كان بالفاضل عن كفايته، ومن يمونه.
وفيه: الحث على الاستعفاف والاستغناء.
37- باب الإنفاق مِمَّا يحبُّ ومن الجيِّد
قَالَ الله تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران (92) ] .
يقول تعالى: لن تنالوا كمال الخير الذي يسرع بكم إلى دخول الجنة حتى تنفقوا مما تحبون من أموالكم.
وقال عطاء: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} ، أي: شرف الدين والتقوى حتى تتصدَّقوا وأنتم أصحَّاء أشحَّاء.
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة (267) ] .
قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه،
(1/212)
ونهاهم عن التصدُّق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه، فإن الله طيِبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا.
[297] عن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ - رضي الله عنه - أكْثَرَ الأنْصَار بالمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْل، وَكَانَ أَحَبُّ أمْوالِهِ إِلَيْه بَيْرَحَاء، وَكَانتْ مُسْتَقْبلَةَ المَسْجِدِ وَكَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّب. قَالَ أنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إنَّ الله تَعَالَى أنْزَلَ عَلَيْكَ: ... {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ تَعَالَى، أرْجُو بِرَّهَا، وَذُخْرَهَا عِنْدَ الله تَعَالَى، فَضَعْهَا يَا رَسُول الله حَيْثُ أرَاكَ الله، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَخ! ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ، ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ، وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في
الأقْرَبينَ» ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يَا رَسُول الله، فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ في أقَارِبِهِ، وبَنِي عَمِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مالٌ رابحٌ» ، رُوِيَ في الصحيحين «رابحٌ» و «رايحٌ» بالباء الموحدة وبالياءِ المثناةِ، أي: رايح عَلَيْكَ نفعه، وَ «بَيرَحَاءُ» : حديقة نخلٍ، وروي بكسرِ الباءِ وَفتحِها.
في هذا الحديث: دليل على فضل إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب، وأن النفقة عليهم أفضل من الأجانب.
وفيه: جواز دخول أهل الفضل للحوائط والبساتين، والاستظلال بظلها، والأكل من ثمرها، والراحة، والتنزه، إذا علم رضا المالك.
(1/213)
38- باب وجوب أمر أهله وأولاده المميزين
وسائر من في رعيته بطاعة الله تعالى ونهيهم عن المخالفة وتأديبهم
ومنعهم من ارتكاب مَنْهِيٍّ عَنْهُ
قَالَ الله تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه (132) ] .
في هذه الآية: دليل على وجوب أمر الإنسان أهله بطاعة الله تعالى، خصوصًا الصلاة. وكان عمر بن الخطاب إذا استيقظ من الليل أقام أهله للصلاة، وتلا هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} .
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم (6) ] .
يأمر تعالى بطاعته، وترك معصيته، وأمر أهله بذلك، والقيام عليهم، وتأديبهم وتعليمهم، لينجو من النار العظيمة التي وقودها العُصاة من بني آدم وحجارة الكبريت.
[298] عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تَمْرَةً مِنْ تَمْر الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا في فِيهِ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَخْ كَخْ إرْمِ بِهَا، أمَا عَلِمْتَ أنَّا لا نَأكُلُ الصَّدَقَةَ» !؟ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «أنَّا لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» .
وقوله: «كَخْ كَخْ» يقال: بإسكان الخاء، ويقال: بكسرها مَعَ التنوين وهي كلمة زجر للصبي عن المستقذراتِ، وكان الحسن - رضي الله عنه - صبِيّاً.
في هذا الحديث: دليل على منع الصبي عما يحرم على المكلف.
(1/214)
[299] وعن أَبي حفص عمر بن أَبي سلمة عبد الله بن عبد الأسدِ ربيبِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ غلاَماً في حجر رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لي رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا غُلامُ، سَمِّ الله تَعَالَى، وَكُلْ بيَمِينكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتي بَعْدُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«وَتَطِيشُ» : تدور في نواحِي الصحفة.
في هذا الحديث: مشروعية تأديب الصبي وتعليمه.
[300] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتهِ: الإمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ رَاعٍ في أهْلِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأةُ رَاعِيَةٌ في بيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فيه: أن كل أحد مسؤول عَمَّنْ تَحتَ يده من آدمي وغيره.
[301] وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدهِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مُرُوا أوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أبْنَاءُ سَبْعِ سِنينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المضَاجِعِ» . حديث حسن رواه أَبُو داود بإسناد حسن.
في هذا الحديث: مشروعية أمر الأولاد، ذكورًا كانوا أو إناثًا بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين، وهو سِنُّ التمييز، وتأديبهم عليها إذا بلغوا عشر سنين، والتفريق بينهم في المضاجع حينئذٍ لأنها تنتشر فيها الشهوة.
(1/215)
[302] وعن أَبي ثُرَيَّةَ سَبْرَةَ بن معبدٍ الجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلاةَ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ» . حديث حسن رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
ولفظ أَبي داود: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ» .
يجب على الولي أمر الصبي بالصلاة ليتمرن عليها ويعتادها فلا يتركها إذا بلغ إنْ شاء الله تعالى.
39- باب حق الجار والوصية بِهِ
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء (36) ] .
يأمر تعالى بعبادته وحده لا شريك له، والإحسان بالوالدين، والأقارب، والأيتام والمساكين، والجيران، وهم ثلاثة:
فجارٌ له ثلاثة حقوق: وهو الجار المسلم القريب.
وجارٌ له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام.
وجار له حق الجوار: وهو الكافر.
والصاحب بالجنب: قيل: المرأة. وقيل الرفيق في السفر. وقيل: الذي يصحبك رجاء نفعك.
والآية تعمّ الجميع، وابن السبيل: المسافر، والضيف، وما ملكت أيمانكم: يعني العبيد، والإماء.
ثم قال تعالى بعد ما ذكر من الحقوق: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء (36) ] .
(1/216)
لأن المتكبِّر يمنع الحق.
قال أبو رجاء: لا تجد سيِّيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخورًا، ولا عاقًا إلا وجدته جَبَّارًا شقيًا.
[303] وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا زَالَ جِبْريلُ يُوصِيني بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُورِّثُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا تعظيم حق الجار، والاعتناء به، والاهتمام بشأنه.
[304] وعن أَبي ذر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأكثِرْ مَاءهَا، وَتَعَاهَدْ جيرَانَكَ» . رواه مسلم.
وفي رواية لَهُ عن أَبي ذر، قَالَ: إنّ خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوْصَاني: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَاً فَأكْثِرْ مَاءها، ثُمَّ انْظُرْ أهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ، فَأصِبْهُمْ مِنْهَا بِمعرُوفٍ» .
الأمر بإكثار ماء المرقة ليكثر الائتدام بها.
وفي الحديث: الحضّ على تعاهد الجيران ولو بالقليل، لما يترتب على ذلك من المحبة والأُلفة، ولما يحصل به من المنفعة ودفع المفسدة، لأن الجار قد يتزوج القتار فيتحرى لهدية جاره.
[305] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «واللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ!» قِيلَ: مَنْ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «الَّذِي لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ!» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/217)
وفي رواية لمسلم: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» .
«البَوَائِقُ» : الغَوَائِلُ والشُّرُورُ.
في هذا الحديث: وعيد شديد لمن أخاف جاره أو خادعه على أهله أو ماله.
[306] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا نِسَاء المُسْلِمَاتِ، لا تَحْقِرَنَّ جَارةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاة» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فيه: الحثُ على فعل المعروف بين الجيران وإنْ قل.
[307] وعنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في جِدَارِهِ» ، ثُمَّ يقُولُ أَبُو هريرة: مَا لِي أرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضينَ! وَاللهِ لأرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أكْتَافِكُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
رُوِيَ «خَشَبَهُ» بالإضَافَة وَالجمع. وَرُويَ «خَشَبَةً» بالتنوين عَلَى الإفرادِ. وقوله: مَا لي أراكم عَنْهَا مُعْرِضينَ: يَعْني عَنْ هذِهِ السُّنَّة.
في هذا الحديث: النهي عن المشاحنة بين الجيران وندبهم إلى التساهل والتسامح فيما ينفع الجار من وضع خشب وإجراء ماء. ونحو ذلك مما ينفع الجار، ولا يضر بالمالك.
[308] وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَومِ الآخرِ، فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/218)
[309] وعن أَبي شُرَيْح الخُزَاعيِّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ» . رواه مسلم بهذا اللفظ، وروى البخاري بعضه.
هذا الحديث: من قواعد الإسلام، لأن جميع آداب الخير تتفرع منه وآكدها حق الجوار.
[310] وعن عائشة رضي الله عنها قَالَت: قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إنَّ لِي جارَيْنِ، فإلى أيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنكِ بَاباً» . رواه البخاري.
فيه: دليل على تقديم الأقرب من الجيران بابًا على الأبعد منهم.
[311] وعن عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ الله تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيرُ الجِيرَانِ عِنْدَ الله تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
فيه: الحث على الإحسان إلى الجيران، وكف الأذى عنهم والانبساط إليهم.
(1/219)
40- باب بر الوالدين وصلة الأرحام
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء (36) ] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام} [النساء (1) ] .
أي: اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لينجيكم من عذابه، واتقوا الأرحام لا تقطعوها.
وَقالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} الآية [الرعد (21) ] .
هذه الآية عامة في صلة الأرحام، والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف.
وَقالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت (8) ] .
أي: برًّا بهما وعطفًا عليهما.
نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقَّاص لما أسلم، وكان بارًّا بأمه، فقالت أمه: ما هذا الدين! والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنتَ عليه، أو أموت، فمكثت كذلك أيَّامًا، فجاءها سعد فقال: يَا أمَّاه لو أن لك مئة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني، فكلي إن شئتِ، أو اتركي، فلما أيست منه أَكَلَت وشَرِبَت، فأنزل الله هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، فنهى تعالى عن طاعتهما في المعصية وأمر ببرهما، لما قال في الآية الأُخرى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان (15) ] .
وَقالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ إلا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا
(1/220)
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء (23، 24) ] .
يأمر تعالى بعبادته وحده لا شريك له، والإحسان إلى الوالدين، وبرهما، والعطف عليهما خصوصًا عند كبرهما، وضعفهما، فإنهما قد ربَّياه، وعطفا عليه، وهو صغير ضعيف.
وَقالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك} [لقمان (14) ] .
قال ابن عيينة: من صلَّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في إدبار الصلوات فقد شكر لهما.
[312] وعن أَبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا» ، قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: «بِرُّ الوَالِدَيْنِ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سبيلِ الله» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الحديث: دليل على أنّ الصلاة في وقتها أفضل الأعمال، وأن بر الوالدين أفضل من الجهاد.
[313] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً إلا أنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً، فَيَشْتَرِيهُ فَيُعْتِقَهُ» . رواه مسلم.
وفيه: تعظيم حق الوالدين، وأن الولد لو فعل من البر ما فعل لا يكافئه إلا بعتقه.
(1/221)
[314] وعنه أيضاً - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
صلة الرحم واجبة وقطعها معصية كبيرة وهي درجات بعضها أرفع من بعض.
[315] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مُقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعةِ، قَالَ: نَعَمْ، أمَا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ، ثُمَّ قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَؤُوا إنْ شِئْتمْ: ... {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد (22، 23) ] مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية للبخاري: فَقَالَ الله تَعَالَى: «مَنْ وَصَلَكِ، وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ، قَطَعْتُهُ» .
في هذا الحديث: تعظيم شأن الرحم، وفضلِ واصلها، وعظيم إثم قاطعها، والرحم: قرابات الرجل من جهة والديه وإن علوا، وأولاده وإن نزلوا، وما يتصل بالطرفين من الأعمام والأخوال وأولادهم.
[316] وعنه - رضي الله عنه - قَالَ: جاء رجل إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»
(1/222)
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ» ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ» ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ... «أبُوكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: يَا رَسُول الله! مَنْ أَحَقُّ بحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ أدْنَاكَ أدْنَاكَ» .
«وَالصَّحَابَةُ» بمعنى: الصحبةِ. وقوله: «ثُمَّ أباك» هكذا هُوَ منصوب بفعلٍ محذوفٍ، أي: ثُمَّ بُرَّ أبَاكَ. وفي رواية: «ثُمَّ أبوك» ، وهذا واضح.
في هذا الحديث: تأكيد حق الأم، ويشهد له قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان (8) ] .
[317] وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «رغِم أنفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ مَنْ أدْرَكَ أبَويهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أَحَدهُما أَوْ كِليهمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ» . رواه مسلم.
فيه: البشارة لمن برَّ بوالديه بدخول الجنة، خصوصًا عند كبرهما وَضُعْفِهما.
[318] وعنه - رضي الله عنه - أن رجلاً قَالَ: يَا رَسُول الله! إنّ لِي قَرابةً أصِلُهُمْ وَيَقْطَعُوني، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إلَيَّ، وَأحْلَمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكأنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذلِكَ» . رواه مسلم.
«وَتُسِفُّهُمْ» بضم التاء وكسرِ السين المهملة وتشديد الفاءِ و «المَلُّ» بفتح الميم، وتشديد اللام وَهُوَ الرَّمادُ الحَارُّ: أيْ كَأنَّمَا تُطْعِمُهُمُ الرَّمَادَ
(1/223)
الحَارَّ، وَهُوَ تَشبِيهٌ لِمَا يَلْحَقَهُمْ من الإثم بما يلحَقُ آكِلَ الرَّمَادِ الحَارِّ مِنَ الأَلمِ، وَلا شَيءَ عَلَى هَذَا المُحْسِنِ إلَيهمْ، لكِنْ يَنَالُهُمْ إثمٌ عَظيمٌ بتَقْصيرِهم في حَقِّهِ، وَإدْخَالِهِمُ الأَذَى عَلَيهِ، وَاللهُ أعلم.
في الحديث: أنَّ هذه الخصال هي سبب إعانة هذا الواصل وتأييده وتوفيقه، وتسديده، ونصره عليهم.
[319] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، ويُنْسأَ لَهُ في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ومعنى «ينسأ لَهُ في أثرِهِ» ، أي: يؤخر لَهُ في أجلِهِ وعمرِهِ.
فيه: أن صلة الرحم تزيد في الرزق والعمر، بالتوفيق والبركة، وقد قال الله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد (38، 39) ] .
[320] وعنه قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أكْثَرَ الأنْصَارِ بالمَدينَةِ مَالاً مِنْ نَخل، وَكَانَ أحَبُّ أمْوَاله إِلَيْهِ بَيْرَحاء، وَكَانَتْ مسْتَقْبَلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ ... رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّب، فَلَمَّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران (92) ]
قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إنَّ الله تبارك وتَعَالَى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ تعالى، أرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ الله تَعَالَى، فَضَعْهَا يَا رَسُول الله! حَيْثُ أرَاكَ الله. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَخ! ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ، ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ! وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإنِّي أرَى
(1/224)
أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبينَ» ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يَا رَسُول الله! فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ في أقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وسبق بيان ألفاظِهِ في باب الإنْفَاقِ مِمَّا يحب.
في هذا الحديث: أنّ أفضل الصدقة ما كان على الأقارب؛ لأنها صدقةٌ وصِلة.
[321] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: أقبلَ رَجُلٌ إِلَى نَبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الهِجْرَةِ وَالجِهَادِ أَبْتَغي الأجْرَ مِنَ الله تَعَالَى. قَالَ: «فَهَلْ لَكَ مِنْ وَالِدَيْكَ أحَدٌ حَيٌّ؟» . قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاهُمَا. قَالَ: «فَتَبْتَغي الأجْرَ مِنَ الله تَعَالَى؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
«فارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وهذا لَفْظُ مسلِم.
وفي رواية لَهُمَا: جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَأذَنَهُ في الجِهَادِ، فقَالَ: «أحَيٌّ وَالِداكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفيهِمَا فَجَاهِدْ» .
في هذا الحديث تقديم برِّ الوالدين على الهجرة والجهاد.
[322] وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئ، وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» . رواه البخاري.
وَ «قَطَعَتْ» بِفَتح القَاف وَالطَّاء. وَ «رَحِمُهُ» مرفُوعٌ.
الناس ثلاثة: واصل، ومكافئ، وقاطع.
فالواصل: من يبدأ بالفضل.
والمكافئ: من يرد مثله.
والقاطع: من لا يتفضل ولا يكافئ، فالكامل من يصل من قطعه.
(1/225)
[323] وعن عائشة قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي، وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي، قَطَعَهُ اللهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في الحديث: تعظيم شأن الرحم، ووعِد من وصلها بوصل الله، ووعيد من قطعها بقطعه.
[324] وعن أم المؤمنين ميمونة بنتِ الحارث رضي الله عنها: أنَّهَا أعْتَقَتْ وَليدَةً وَلَمْ تَستَأذِنِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا
فِيهِ، قَالَتْ: أشَعَرْتَ يَا رَسُول الله! أنِّي أعتَقْتُ وَليدَتِي؟ قَالَ: «أَوَ فَعَلْتِ؟» قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «أما إنَّكِ لَوْ أعْطَيْتِهَا أخْوَالَكِ كَانَ أعْظَمَ لأجْرِكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: دليل على أن عطية القريب أفضل من العتق إذا كانوا محتاجين.
وفيه: صحة تصرف الزوجة في مالها بغير إذن زوجها.
[325] وعن أسماءَ بنتِ أَبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشركةٌ في عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاسْتَفْتَيْتُ ... رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أفَأصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَقَولُهَا: «رَاغِبَةٌ» أيْ: طَامِعَةٌ فِيمَا عِنْدِي تَسْألُني شَيْئاً؛ قِيلَ: كَانَتْ أُمُّهَا مِن النَّسَبِ، وَقيل: مِن الرَّضَاعَةِ، وَالصحيحُ الأول.
(1/226)
في الحديث: جواز صلة القريب المشرك، ويشهد لذلك قوله تعالى ... {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان (15) ] .
[326] وعن زينب الثقفيةِ امرأةِ عبدِ الله بن مسعود رضي الله عَنْهُ وعنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» ، قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عبد الله بنِ مسعود، فقلتُ لَهُ: إنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ اليَدِ، وَإنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ فَأْتِهِ، فَاسألهُ، فإنْ كَانَ ذلِكَ يْجُزِئُ عَنِّي وَإلا صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ. فَقَالَ
عبدُ اللهِ: بَلِ ائْتِيهِ أنتِ، فانْطَلَقتُ، فَإذا امْرأةٌ مِنَ الأنْصارِ بِبَابِ ... رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَاجَتي حَاجَتُها، وَكَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيهِ المَهَابَةُ، فَخَرجَ عَلَيْنَا بِلاَلٌ، فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبرْهُ أنَّ امْرَأتَيْنِ بالبَابِ تَسألانِكَ: أُتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أزْواجِهمَا ... وَعَلَى أيْتَامٍ في حُجُورِهِما؟ ، وَلا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ، فَدَخلَ بِلاَلٌ عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ هُمَا؟» قَالَ: امْرَأةٌ مِنَ الأنْصَارِ وَزَيْنَبُ. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّ الزَّيَانِبِ» ؟ قَالَ: امْرَأةُ عبدِ الله، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَهُمَا أجْرَانِ: أجْرُ القَرَابَةِ وَأجْرُ الصَّدَقَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: أن الصدقة على القريب إذا كان محتاجًا أفضل من الصدقة على البعيد.
[327] وعن أَبي سفيان صخر بنِ حرب - رضي الله عنه - في حديثِهِ الطويل في قِصَّةِ هِرَقْلَ: أنَّ هرقْلَ قَالَ لأبي سُفْيَانَ: فَمَاذَا يَأمُرُكُمْ بِهِ؟
(1/227)
يَعْنِي النبي - صلى الله عليه وسلم - ... قَالَ: قُلْتُ: يقول: «اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيئاً، واتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأمُرُنَا بِالصَّلاةِ، وَالصّدْقِ، والعَفَافِ، والصِّلَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك، وعن عوائد الجاهلية المخالفة للشرع.
وفيه: الأمر بالصلاة، والصدقة والعفاف، وصلة الأرحام.
[328] وعن أَبي ذرّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أرْضاً يُذْكَرُ فِيهَا القِيرَاطُ» . وفي رواية: «سَتَفْتَحونَ مِصْرَ وَهِيَ أرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا القِيراطُ، فَاسْتَوْصُوا بأهْلِهَا خَيْراً؛ فَإنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِماً» . وفي رواية: «فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحماً» ، أَوْ قَالَ: «ذِمَّةً وصِهْراً» . رواه مسلم.
قَالَ العلماء: «الرَّحِمُ» : الَّتي لَهُمْ كَوْنُ هَاجَرَ أُمِّ إسْمَاعِيلَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ، «وَالصِّهْرُ» : كَوْن مَارية أمِّ إبْراهيمَ ابن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ.
في هذا الحديث: علامة من علامة النبوة، لكون الصحابة فتحوا مصر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه: الوصية بحفظ الذمة وصلة الرحم.
[329] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: لما نزلت هذِهِ الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء (214) ]
(1/228)
دَعَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشاً، فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، وَقالَ: «يا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤيٍّ، أنقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بن كَعْبٍ، أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَاف أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يَا بني عبد المطلب، انقذوا أنفسكم من النار، يَا فَاطِمَةُ، أنْقِذي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ. فَإنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيئاً، غَيْرَ أنَّ لَكُمْ رَحِماً سَأبُلُّهَا بِبِلالِهَا» . رواه مسلم.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بِبِلالِهَا» هُوَ بفتح الباء الثانيةِ وكسرِها، «وَالبِلاَلُ» : الماءُ. ومعنى الحديث: سَأصِلُهَا، شَبّه قَطِيعَتَهَا بالحَرارَةِ تُطْفَأُ بِالماءِ وهذِهِ تُبَرَّدُ بالصِّلَةِ.
في الآية والحديث: دلالة على البداءة بإنذار الأقربين عمومًا وخصوصًا، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإني لا أملك لكم من الله شيئًا» ، أي: لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله بكم.
[330] وعن أَبي عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قَالَ: سمعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - جِهَاراً غَيْرَ سِرٍّ، يَقُولُ: «إنَّ آل بَني فُلاَن لَيْسُوا ... بِأولِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ المُؤْمِنينَ، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أبُلُّهَا بِبلاَلِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، واللفظ للبخاري.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما وليي الله» ، أي: هو ناصري والذي أتولاه في جميع الأمور. كما قال تعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم (4) ] .
(1/229)
ومعنى الحديث: لست أخص قرابتي ولا فصيلتي الأدنين بولاية دون المسلمين.
[331] وعن أَبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً قَالَ: يَا رَسُول الله، أخْبِرْني بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُني مِنَ النَّارِ. فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَعْبُدُ الله، وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وتُؤتِي الزَّكَاةَ، وتَصِلُ الرَّحمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في الحديث: دليل على أنّ من وحّد الله، وقام بأركان الإسلام، ووصل رَحِمَهُ دخل الجنة.
[332] وعن سلمان بن عامر - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أفْطَرَ أحَدُكُمْ فَلْيُفْطرْ عَلَى تَمْرٍ؛ فَإنَّهُ بَرَكةٌ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ تَمْراً، فالمَاءُ؛ فَإنَّهُ طَهُورٌ» ، وَقالَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى المِسكينِ صَدَقةٌ، وعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
أي: في الصدقة على القريب ثوابان جليلان، ثواب الصدقة، وثواب صلة الرحم.
[333] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَتْ تَحْتِي امْرَأةٌ، وَكُنْتُ أحِبُّهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا، فَقَالَ لي: طَلِّقْهَا، فَأبَيْتُ، فَأتَى عُمَرُ - رضي الله عنه - النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «طَلِّقْهَا» . رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
(1/230)
في هذا الحديث: امتثال أمر الأب إذا أمر ولده بطلاق امرأته.
[334] وعن أَبي الدرداءِ - رضي الله عنه - أن رجلاً أتاه، فقَالَ: إنّ لي امرأةً وإنّ أُمِّي تَأمُرُنِي بِطَلاقِهَا؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «الوَالِدُ أوْسَطُ أبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإنْ شِئْتَ، فَأضِعْ ذلِكَ البَابَ، أَو احْفَظْهُ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
فيه: استحباب طاعة الأم إذا أمرته بطلاق امرأته، ولم ترض إلا بذلك وهو من البر، وإن لم يطلقها فليس بعقوق.
[335] وعن البراءِ بن عازب رضي اللهُ عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «الخَالةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ صَحيحٌ) .
فيه: أن الخالة بمنزلة الأم في البر لأنها تقرب منها في الحنوِّ والشفقة ومعرفة ما يصلح الولد.
وفي الباب أحاديث كثيرة في الصحيح مشهورة؛ مِنْهَا حديث أصحاب الغار، وحديث جُرَيْجٍ وقد سبقا، وأحاديث مشهورة في الصحيح حذفتها اختِصَاراً، وَمِنْ أهَمِّهَا حديث عَمْرو بن عَبسَة - رضي الله عنه - الطَّويلُ المُشْتَمِلُ عَلَى جُمَلٍ كَثيرةٍ مِنْ قَواعِدِ الإسْلامِ وآدابِهِ، وَسَأذْكُرُهُ بتَمَامِهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى في باب الرَّجَاءِ، قَالَ فِيهِ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمَكَّةَ - يَعْني: في أوَّلِ النُّبُوَّةِ - فقلتُ لَهُ: مَا أنْتَ؟ قَالَ: «نَبيٌّ» ، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: «أرْسَلنِي اللهُ تَعَالَى» ، فقلت: بأيِّ شَيءٍ أرْسَلَكَ؟ قَالَ: «أرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ وَكَسْرِ الأَوثَانِ، وَأنْ يُوَحَّدَ اللهُ لا يُشْرَكُ بِهِ شَيء ... » وَذَكَرَ تَمَامَ الحَدِيث. والله أعلم.
(1/231)
41- باب تحريم العقوق وقطيعة الرحم
قَالَ الله تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد (22، 23) ] .
يقول تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ} ، أي: فلعلكم إن توليتم، أي: أعرضتم عن الدين، وفارقتم أحكام القرآن أن تفسدوا في الأرض بالمعصية، والبغي، وسفك الدماء، وتقطِّعوا أرحامكم.
قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن، أولئك الذين لعنهم الله، فأصمهم، وأعمى أبصارهم عن الحق، وهذا نهي من الله تعالى عن الإفساد في الأرض عمومًا، وعن قطع الأرحام خصوصًا.
وَقالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد (25) ] .
لما ذكر تعالى السعداء الذين يوفون بعهد الله، ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلون ما أمر الله به أنْ يوصل، ذكر الأشقياء الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهي عامة في الرحم وغيرها من أمور الدين، ويفسدون في الأرض بالمعاصي أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار.
وَقالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء (23، 24) ] .
(1/232)
في هذه الآية الكريمة: الأمر ببرّ الوالدين، والنهي عن عقوقهما، والأدب في ذلك.
[336] وعن أَبي بكرة نُفَيع بن الحارث - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» - ثلاثاً - قُلْنَا: بَلَى، يَا رَسُول الله! قَالَ: «الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ» ، وكان مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، فَقَالَ: «ألا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ» . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الذنوب: فيها صغائر وكبائر. فالكبيرة: ما توعّد صاحبها بغضب أو لعنة أو نار.
قوله: (وكان متكئًا فجلس، فقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور» . سبب الاهتمام به، سهولة وقوع الناس فيه، وتهاونهم به، والحوامل عليه كثيرة من العداوة والحسد وغير ذلك؛ ولأن مفسدته متعدية إلى الغير.
وأما الشرك فإنه ينبو عنه القلب السليم، والعقوق يصرف عنه الطبع.
وقوله: (حتى قلنا: ليته يسكت) ، أي: شفقة عليه.
[337] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْس، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ» . رواه البخاري.
«اليمين الغموس» : التي يحلفها كاذباً عامداً، سميت غموساً؛ لأنها تغمس الحالِفَ في الإثم.
الاقتصار على هذه الأربع لكونها أعظم الكبائر إثمًا، وأشدِّها جُرمًا، ومن ذلك السبع الموبقات.
(1/233)
[338] وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مِنَ الكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُل وَالِدَيهِ» . قالوا: يَا رَسُول الله، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاه، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: «إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ!» ، قِيلَ: يَا رَسُول الله! كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ؟! قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ» .
قوله: (هل يشتم الرجل والديه؟) استفهامُ استبعاد أنْ يصدر ذلك من ذي دين أو عقل، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك يقع بالتسبب في سبِّهما.
[339] وعن أَبي محمد جبيرِ بن مطعم - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» . قَالَ سفيان في روايته: يَعْنِي: قَاطِع رَحِم. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فيه: وعيد شديد لمن قطع رحمه.
وفيه: عظم إثم قاطع الرحم.
[340] وعن أَبي عيسى المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأمَّهَاتِ، وَمَنْعاً وهاتِ، وَوَأْد البَنَاتِ، وكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «مَنْعاً» مَعنَاهُ: مَنْعُ مَا وَجَب عَلَيهِ، وَ «هَاتِ» : طَلَبُ مَا لَيْسَ لَهُ. وَ «وَأْد البَنَاتِ» مَعنَاهُ: دَفنُهُنَّ في الحَيَاةِ، وَ «قيلَ وَقالَ» مَعْنَاهُ: الحَديث بكُلّ مَا يَسمَعهُ، فيَقُولُ: قِيلَ كَذَا، وقَالَ فُلانٌ كَذَا مِمَّا لا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ،
(1/234)
وَلا يَظُنُّهَا، وَكَفَى بالمَرْءِ كذِباً أنْ يُحَدّثَ بكُلِّ مَا سَمِعَ. وَ «إضَاعَةُ المَال» : تَبذِيرُهُ وَصَرفُهُ في غَيْرِ الوُجُوهِ المأذُونِ فِيهَا مِنْ مَقَاصِدِ الآخِرةِ وَالدُّنْيَا، وتَرْكُ حِفظِهِ مَعَ إمكَانِ الحِفظِ. وَ «كَثْرَةُ السُّؤَال» : الإلحَاحُ فيما لا حَاجَة إِلَيْهِ.
اقتصر في الحديث على عقوق الأمّهات، مع تحريم عقوق الآباء أيضًا، لأن الاستخفاف بهن أكثر لضعفهن وعجزهن، وينبه على تقديم برِّهن على برِّ الأب في التلطف ونحو ذلك.
ومنعًا وهات: أي: منع ما أمر بإعطائه وطلب ما لا يستحق.
وفي الباب أحاديث سبقت في الباب قبله كحديث: «وأقْطَعُ مَنْ قَطَعَك» ، وحديث: «مَنْ قَطَعني قَطَعهُ الله» .
قوله: (وفي الباب) ، أي: في تحريم العقوق والقطيعة أحاديث كثيرة تدل على تحريم عقوق الوالدين وقطيعة الرحم.
42- باب فضل بر أصدقاء الأب
والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه
[341] عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنّ أبَرَّ البرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أبيهِ» .
[342] وعن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَجُلاً مِنَ الأعْرَابِ لَقِيَهُ بطَريق مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيهِ عبدُ الله بْنُ عُمَرَ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأسِهِ، قَالَ ابنُ دِينَار: فَقُلْنَا لَهُ: أصْلَحَكَ الله، إنَّهُمُ الأعرَابُ وَهُمْ يَرْضَوْنَ
(1/235)
باليَسير، فَقَالَ عبد الله بن عمر: إن أَبَا هَذَا كَانَ وُدّاً لِعُمَرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - وإنِّي سَمِعتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ أبرَّ البِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أهْلَ وُدِّ أبِيهِ» .
وفي رواية عن ابن دينار، عن ابن عمر: أنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلةِ، وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأسَهُ، فَبيْنَا هُوَ يَوماً عَلَى ذلِكَ الحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أعْرابيٌّ، فَقَالَ: ألَسْتَ فُلاَنَ بْنَ فُلاَن؟ قَالَ: بَلَى. فَأعْطَاهُ الحِمَارَ، فَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا، وَأعْطَاهُ العِمَامَةَ وَقالَ: اشْدُدْ بِهَا رَأسَكَ، فَقَالَ لَهُ بعضُ أصْحَابِهِ: غَفَرَ الله لَكَ أعْطَيْتَ هَذَا الأعْرَابيَّ حِمَاراً كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيهِ، وعِمَامةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأسَكَ؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «إنَّ مِنْ أبَرِّ البِرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أهْلَ وُدِّ أبيهِ بَعْدَ أنْ يُولِّيَ» وَإنَّ أبَاهُ كَانَ صَديقاً لعُمَرَ - رضي الله عنه -.
رَوَى هذِهِ الرواياتِ كُلَّهَا مسلم.
في هذا الحديث: الحث على إكرام أصدقاء أبيه، ويقاس عليه أصدقاء الأم وسائر الأقارب.
[343] وعن أَبي أُسَيد - بضم الهمزة وفتح السين - مالك بن ربيعة الساعدي - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جَاءهُ رَجُلٌ مِنْ
بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ! هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيء أبرُّهُما بِهِ بَعْدَ مَوتِهمَا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، والاسْتغْفَارُ لَهُمَا، وَإنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلا بِهِمَا، وَإكرامُ صَدِيقهمَا» . رواه أَبُو داود.
(1/236)
الحديث دليل على أنَّ الدعاء للوالدين من البر، وقد قال الله تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء (24) ] .
وفيه: الحث على صلة الأرحام وإكرام أصدقاء الوالدين وتنفيذ وصيتهما.
[344] وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَة رضي الله عنها، وَمَا رَأيْتُهَا قَطُّ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يقَطِّعُهَا أعْضَاء، ثُمَّ يَبْعثُهَا في صَدَائِقِ خَديجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأنْ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا امرأة إلا خَديجَةَ ‍! . فَيَقُولُ: «إنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لي مِنْهَا وَلَدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: وإنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ، فَيُهْدِي في خَلاَئِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ.
وفي رواية: كَانَ إِذَا ذبح الشاة، يقولُ: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أصْدِقَاءِ خَديجَةَ» .
وفي رواية: قَالَت: اسْتَأذَنتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَعرَفَ اسْتِئذَانَ خَديجَةَ، فَارتَاحَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ» .
قولُهَا: «فَارتَاحَ» هُوَ بالحاء، وفي الجمعِ بَيْنَ الصحيحين للحُميدِي: «فارتاع» بالعينِ ومعناه: اهتم بهِ.
في هذا الحديث: دليل على حُسن عهد الصاحب، وحفظ وده، ورعاية حرمته وإكرام صديقه في حياته، وبعد موته.
(1/237)
[345] وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: خرجت مَعَ جرير بن عبد الله البَجَليّ - رضي الله عنه - في سَفَرٍ، فَكَانَ يَخْدُمُني، فَقُلْتُ لَهُ: لا تَفْعَل، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأيْتُ الأنْصَارَ تَصْنَعُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً آلَيْتُ أنْ لا أصْحَبَ أحَداً مِنْهُمْ إلا خَدَمْتُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وكان جرير أسنَّ من أنس، وجرير سيد بجيلة، فكان يخدم أنسًا إكرامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإحسانًا للمنتسب إلى خدمته، ففيه: دليل على إكرام المحسن، وإن كان أصغر منه.
وفيه: تواضع جرير وفضيلته رضي الله عنه.
43- باب إكرام أهل بيت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -
وبيان فضلهم
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب (33) ] .
هذه الآية نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه السياق.
والرجس: الذنب المدنس للعرض وهو الإثم.
وأما ذريته فيدخلون من باب أولى، كما في حديث واثلة بن
الأسقع: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه علي، وحسن، وحسين رضي الله عنهم آخذ كل واحد منهما بيده، حتى دخل فأدنى عليًّا وفاطمة رضي الله عنهما وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنًا وحسينًا كل واحد منهما على فخذه، ثم لفَّ عليهم ثوبه، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق ... » . رواه أحمد.
(1/238)
وَقالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} ... [الحج (32) ] .
سبب نزول هذه الآية في الهدايا وفرائض الحج، وهي عامة في جميع شعائر الدين.
[346] وعن يزيد بن حَيَّانَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أنَا وحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَة، وَعَمْرُو بن مُسْلِم إِلَى زَيْد بْنِ أرقَمَ - رضي الله عنهم - فَلَمَّا جَلسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْن: لَقَدْ لقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْراً كَثِيراً، رَأيْتَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمعتَ حديثَهُ، وغَزوْتَ مَعَهُ، وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْراً كَثيراً، حَدِّثْنَا يَا
زَيْدُ مَا سَمِعْتَ مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَا ابْنَ أخِي، وَاللهِ لقد كَبِرَتْ سِنِّي، وَقَدُمَ عَهدِي، وَنَسيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أعِي مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فما حَدَّثْتُكُمْ، فَاقْبَلُوا، ومَا لا فَلا تُكَلِّفُونيهِ. ثُمَّ قَالَ: قام رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوماً فينا خَطِيباً بمَاء يُدْعَى خُمَّاً بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، فَحَمِدَ الله، وَأثْنَى عَلَيهِ، وَوعظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أمَّا بَعدُ، ألا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإنَّمَا أنَا بَشَرٌ يُوشِكَ أنْ يَأتِي رسولُ ربِّي فَأُجِيبَ، وَأنَا تارك فيكم ثَقَلَيْنِ: أوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ، فِيهِ الهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكتابِ الله، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ الله، وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأهْلُ بَيْتِي أُذكِّرُكُمُ الله في أهلِ بَيْتي، أذكرُكُمُ الله في أهل بيتي» فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أهْلُ بَيتهِ يَا زَيْدُ، أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أهْلِ بَيتهِ، وَلكِنْ أهْلُ بَيتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعدَهُ، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عقيل وَآلُ جَعفَرَ وآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلُّ هؤلاء حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. رواه مسلم.
(1/239)
وفي رواية: «ألا وَإنّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَليْنِ: أحَدُهُما كِتَابُ الله وَهُوَ حَبْلُ الله، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلالَة» .
في هذا الحديث: الحث على التمسك بالقرآن والتحريض على العمل به والاعتصام به.
وفيه: تأكيد الوصاية بأهل البيت، والعناية بشأنهم وإكرامهم.
[347] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن أَبي بكر الصديق - رضي الله عنه - مَوقُوفاً عَلَيهِ - أنَّهُ قَالَ: ارْقَبُوا مُحَمداً - صلى الله عليه وسلم - في أهْلِ بَيْتِهِ. رواه البخاري.
معنى «ارقبوه» : راعوه واحترموه وأكرموه، والله أعلم.
في أثر أبي بكر رضي الله عنه دليل على معرفة الصحابة رضي الله عنهم بحق أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوقيرهم واحترامهم، فمن كان من أهل البيت مستقيمًا على الدين متبعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان له حقّان: حق الإسلام وحق القرابة.
44- باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل
وتقديمهم عَلَى غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مَزِيَّتِهِم
التوقير: التبجيل.
قَالَ الله تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر (9) ] .
أي: لا يستوي الموحد والمشرك، والعالم والجاهل، ولا القانت والعاصي، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص (28) ] .
(1/240)
[348] وعن أَبي مسعودٍ عقبةَ بن عمرو البدري الأنصاري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَؤُمُّ القَوْمَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله، فَإنْ كَانُوا في القِراءةِ سَوَاءً، فأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً،
فَإنْ كَانُوا في الهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأقْدَمُهُمْ سِنّاً، وَلا يُؤمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلا يَقْعُدْ في بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلا بِإذْنهِ» . رواه مسلم.
وفي رواية لَهُ: «فَأقْدَمُهُمْ سِلْماً» بَدَلَ «سِنّاً» : أيْ إسْلاماً. وفي رواية: «يَؤُمُّ القَومَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، وَأقْدَمُهُمْ قِراءةً، فَإنْ كَانَتْ قِرَاءتُهُمْ سَوَاءً فَيَؤُمُّهُمْ أقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإنْ كَانُوا في الهِجْرَةِ سَواء، فَليَؤُمُّهُمْ أكْبَرُهُمْ سِنّاً» .
والمراد «بِسلطانهِ» : محل ولايتهِ، أَو الموضعِ الَّذِي يختص بِهِ «وتَكرِمتُهُ» بفتح التاءِ وكسر الراءِ: وهي مَا ينفرد بِهِ من فِراشٍ وسَريرٍ ونحوهِما.
قال القرطبي: تأول أصحاب الحديث بأن الأقرأ في الصدر الأول هو الأفقه، لأنهم كانوا يتفقهون مع القراءة، فلا يوجد قارئ إلا وهو فقيه، وكان مِنْ عُرْفهم تسمية الفقهاء بالقراء. وقد قَدَّمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصدِّيقَ على أُبَيّ مع قوله: «أقرؤكم أُبَيّ» .
وفي الحديث: فضل الهجرة.
(1/241)
[349] وعنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا في الصَّلاةِ، ويَقُولُ: «اسْتَوُوا وَلا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِني مِنْكُمْ أُولُوا الأحْلاَمِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . رواه مسلم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لِيَلِني» هُوَ بتخفيف النون وليس قبلها ياءٌ، وَرُوِيَ بتشديد النُّون مَعَ يَاءٍ قَبْلَهَا. «وَالنُّهَى» : العُقُولُ. (وَأُولُوا الأحْلام) : هُم البَالِغُونَ، وقَيلَ: أهْلُ الحِلْمِ وَالفَضْلِ.
في الحديث: تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام عن السهو والغلط.
[350] وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لِيَلِني مِنْكُمْ أُولُوا الأحْلام وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ثَلاثاً «وَإيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأسْوَاق» . رواه مسلم.
هيشات الأسواق: المنازعة، والخصومات واللغط، وارتفاع ... الأصوات.
[351] وعن أَبي يَحيَى، وقيل: أَبي محمد سهلِ بن أَبي حَثْمة - بفتح الحاءِ المهملة وإسكان الثاءِ المثلثةِ - الأنصاري - رضي الله عنه - قَالَ: انطَلَقَ عَبدُ اللهِ بنُ سهْلٍ وَمُحَيِّصَة بن مَسْعُود إِلَى خَيْبَرَ وَهِيَ يَومَئذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عبدِ اللهِ بنِ سهل وَهُوَ يَتشَحَّطُ في دَمِهِ قَتِيلاً، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ فَانْطَلَقَ عَبدُ الرحمن بنُ سهل وَمُحَيِّصَةُ وحوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَهَبَ عَبدُ الرحمن يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» وَهُوَ أحْدَثُ القَوم، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ: «أتَحْلِفُونَ وتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ؟ ... » وذكر تمام الحديث. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/242)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كَبِّرْ كَبِّرْ» معناه: يتكلم الأكبر.
في الحديث: استحباب تقديم أهل الفضل والسنِّ، ولو كان الحق للصغير.
[352] وعن جابر - رضي الله عنه - أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُد يَعْنِي في القَبْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: «أيُّهُما أكْثَرُ أخذاً للقُرآنِ؟» فَإذَا أُشيرَ لَهُ إِلَى أحَدِهِمَا قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ. رواه البخاري.
في الحديث: تقديم الأكثر حفظًا للقرآن على ما دونه في القبر للحاجة، وكذلك غيره، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة (11) ] .
[353] وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أرَانِي فِي المَنَامِ أتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءنِي رَجُلانِ، أحَدُهُما أكبر مِنَ الآخرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتهُ إِلَى الأكْبَرِ مِنْهُمَا» . رواه مسلم مسنداً، ورواه البخاري تعليقاً.
في الحديث: تقديم ذي السن في السواك، ويلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام، وهذا ما لم يترتب القوم، فإن ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن.
وفيه: جواز استعمال سواك الغير بإذنه.
[354] وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِنْ إجْلالِ اللهِ تَعَالَى: إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيْرِ الغَالِي فِيهِ،
وَالجَافِي عَنْهُ، وَإكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِط» . حديث حسن رواه أَبُو داود.
فيه: إكرام هؤلاء الثلاثة مما يرضاه الله تعالى ويثيب عليه.
(1/243)
[355] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - قَالَ: قَالَ ... رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرنَا، وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبيرِنَا» . حديث صحيح رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ الترمذي: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
وفي رواية أبي داود: «حَقَّ كَبيرِنَا» .
فيه: الوعيد لمن لا يرحم الصغير، ولا يُجلّ الكبير، وذوي القدر.
[356] وعن ميمون بن أَبي شَبيب رحمه الله: أنَّ عائشة رَضي الله عنها مَرَّ بِهَا سَائِلٌ، فَأعْطَتْهُ كِسْرَةً، وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ، فَأقْعَدَتهُ، فَأكَلَ، فقِيلَ لَهَا في ذلِكَ؟ فقَالتْ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» . رواه أبو داود. لكن قال: ميمون لم يدرك عائشة. وقد ... ذكره مسلم في أول صحيحه تعليقاً فقال: وذكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم، وَذَكَرَهُ الحَاكِمُ أَبُو عبد الله في كتابه «مَعرِفَة عُلُومِ الحَديث» . وَقالَ: «هُوَ حديث صحيح» .
فيه: الحضّ على مُرَاعَاة مقادير الناس، ومراتبهم، ومناصبهم وتفضيل بعضهم على بعض، فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ويعطي كل ذي حق حقه.
وهذا الحديث: مما أدَّب به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من التعظيم والإكرام لذوي القدر.
(1/244)
[357] وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بنُ حِصْن، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمرُ - رضي الله عنه - وَكَانَ القُرَّاءُ أصْحَاب مَجْلِس عُمَرَ وَمُشاوَرَتِهِ، كُهُولاً كاَنُوا أَوْ شُبَّاناً، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أخيهِ: يَا ابْنَ أخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ، فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيهِ، فاسْتَأذَن له، فَإذِنَ لَهُ عُمَرُ - رضي الله عنه - فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: هِي يَا ابنَ الخَطَّابِ، فَواللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينَا بالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ - رضي الله عنه - حَتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أميرَ المُؤْمِنينَ، إنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ. واللهِ مَا جَاوَزَهاَ عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عليه، وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. رواه البخاري.
في هذا الحديث: تقديم أولي الفضل على من عداهم، وإن كانوا دونهم في السن والنسب.
وفيه: أنه ينبغي لولي الأمر مجالسة القراء، والفقهاء، ليذكروه إذا ... نسي، ويعينوه إذا ذكر.
وفيه: الحلم عن الجهال والصبر على أذاهم.
قال جعفر الصادق: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
[358] وعن أَبي سعيد سَمُرة بنِ جُندب - رضي الله عنه - قَالَ: لقد كنت عَلَى عَهْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - غُلاماً، فَكُنْتُ أحْفَظُ عَنْهُ، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ القَوْلِ إلا أنَّ ها هُنَا رِجَالاً هُمْ أسَنُّ مِنِّي. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/245)
في هذا الحديث: الأدب مع الكبار من أهل العلم.
[359] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أكْرَمَ شَابٌّ شَيْخاً لِسِنِّهِ إلا قَيَّضَ الله لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّه» . رواه الترمذي، وَقالَ: ... «حديث غريب» .
فيه: أن الجزاء من جنس العمل.
وفيه: إيماء إلى الوعد بطول عمر المُكرِم حتى يبلغ ذلك السن. والله أعلم.
45- باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم
وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة
قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} إِلَى قوله تَعَالَى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} ؟ [الكهف (60، 66) ] .
في هذه الآيات استحباب زيارة أهل الخير في أماكنهم، ومصاحبتهم ومجالستهم، والتواضع معهم، والرحلة في طلب العلم، واستزادة العالم من العلم، وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة، واستحباب الرفيق في السفر، وأنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الخادم.
وَقالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف (28) ] .
هذا أمر من الله تعالى لنبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يحبس نفسه مع الذين يعبدون الله في هذه الأوقات، وأن لا يجاوزهم ناظرًا إلى غيرهم من ذوي الهيئات، فإن مصاحبتهم سبب إلى دخول الجنات.
(1/246)
[360] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ أَبُو بكر لِعُمَرَ رضي الله عنهما بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أيْمَنَ رضي الله عنها نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا، بَكَتْ، فَقَالا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أمَا تَعْلَمِينَ أنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إني لا أبْكِي إني لا أَعْلَم أنَّ مَا عِنْدَ الله تَعَالَى خَيْرٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَكِنْ أبكي أنَّ الوَحْيَ قدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّماءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى البُكَاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا. رواه مسلم.
أم أيمن: مولاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنكحها زيد بن حارثة واسمها بركة، وهي أم أسامة بن زيد وكان - صلى الله عليه وسلم - يكرمها، وكان عندها كالولد.
وفي هذا الحديث: زيارة الصالح لمن هو دونه، وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره.
وفيه: البكاء حزنًا على فراق الصالحين.
[361] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أنَّ رَجُلاً زَارَ أَخَاً لَهُ في قَريَة أُخْرَى، فَأرْصَدَ الله تَعَالَى عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً، فَلَمَّا أتَى عَلَيهِ، قَالَ: أيْنَ تُريدُ؟ قَالَ: أُريدُ أخاً لي في هذِهِ القَريَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيهِ مِنْ نِعْمَة تَرُبُّهَا عَلَيهِ؟ قَالَ: لا، غَيْرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في الله تَعَالَى، قَالَ: فإنِّي رَسُول الله إلَيْكَ بَأنَّ الله قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أحْبَبْتَهُ فِيهِ» . رواه مسلم.
يقال: «أرْصَدَهُ» لِكَذَا: إِذَا وَكَّلَهُ بِحِفْظِهِ، وَ «المَدْرَجَةُ» بِفْتْحِ الميمِ والرَّاءِ: الطَّرِيقُ، ومعنى (تَرُبُّهَا) : تَقُومُ بِهَا، وَتَسْعَى في صَلاحِهَا.
في هذا الحديث: دليل على عظم فضل الحب في الله والتزاور فيه.
(1/247)
قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» .
[362] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً أَوْ زَارَ أخاً لَهُ في الله، نَادَاهُ مُنَادٍ: بِأنْ طِبْتَ، وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأتَ مِنَ الجَنَّةِ مَنْزِلا» . رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن» ، وفي بعض النسخ: ... «غريب» .
في هذا الحديث: وعد الله تعالى للزائر فيه بأن يطهره من ذنوبه، ويعظم أجره ويدخله الجنة.
[363] وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا مَثلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وَإمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحاً طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً مُنْتِنَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(يُحْذِيكَ) : يُعْطِيكَ.
في هذا الحديث: الحث على مجالسة أهل الخير، والتحذير من مجالسة أهل الشر.
وفيه: الحكم بطهارة المسك.
(1/248)
[364] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذاتِ الدِّينِ تَربَتْ يَدَاك» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ومعناه: أنَّ النَّاسَ يَقْصدونَ في العَادَة مِنَ المَرْأةِ هذِهِ الخِصَالَ الأرْبَعَ، فَاحْرَصْ أنتَ عَلَى ذَاتِ الدِّينِ، وَاظْفَرْ بِهَا، وَاحْرِصْ عَلَى صُحْبَتِها.
الحسب: طيب الأصل. وكل واحد من هذه الأربع مما يقصده المتزوج.
وفي الحديث: الحث على صاحبة الدين، لأن الحسن البالغ يخاف بسببه من فساد المرأة، أو إفسادها، والمال ربما أطغاها. وأما الدين فهو الحبل الذي لا ينقطع.
[365] وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لِجبريل: «مَا يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورنَا أكثَر مِمَّا تَزُورَنَا؟» فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم (64) ] رواه البخاري.
فيه: طلب الصديق من صديقه كثرة زيارته، إذا لم يكن مانع من شغل أو غيره.
[366] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تُصَاحِبْ إلا مُؤْمِناً، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إلا تَقِيٌّ» . رواه أَبُو داود والترمذي بإسناد لا بأس بِهِ.
فيه: النهي عن موالاة الكفار، ومودتهم، ومصاحبتهم.
وفيه: الأمر بملازمة الأتقياء، ودوام مخالطتهم، وترك مخالطة الفجار، ومؤاكلتهم، وهذا في طعام الدعوة، لا إطعام الحاجة.
(1/249)
[367] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَليَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» . رواه أَبُو داود والترمذي بإسناد صحيح، وَقالَ الترمذي: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
الخليل: الصديق. وأقل درجات الصداقة، النظر بعين المساواة، والكمال. رؤية الفضل للصديق. وروي: (لا خير في محبة من لا يرى مَا لَكَ مثل ما يرى له) .
[368] وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الرَّجُلُ يُحبُّ القَومَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» .
في هذا الحديث: الحث على محبة الصالحين، لأن من أحبّهم دخل معهم الجنة، والمعية تحصل بمجرد الاجتماع وإنْ تفاوتت الدرجات.
[369] وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّ أعرابياً قَالَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أعْدَدْتَ لَهَا؟» قَالَ: حُبَّ الله ورسولهِ، قَالَ: ... «أنْتَ مَعَ مَنْ أحْبَبْتَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية لهما: مَا أعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثيرِ صَوْمٍ، وَلا صَلاَةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ.
(1/250)
الساعة: القيامة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أعددت لها» . من أسلوب الحكيم؛ لأنه سأل عن الوقت فقيل له: ما لَكَ ولها، إنما يهمك التزود لها والعمل بما ينفعك فيها. فطرح الرجل ذكر أعماله، ونظر إلى ما في قلبه من محبة الله ورسوله فقدمه بين يديه.
[370] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: جاء رجلٌ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَيْفَ تَقُولُ في رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «ولم يلحق بهم» . ولابن حبان: «ولا يستطيع أن يعمل بعملهم» .
[371] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «النَّاسُ مَعَادِنٌ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقهُوا، وَالأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، ومَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» . رواه مسلم.
وروى البخاري قوله: «الأَرْوَاحُ ... » إلخ مِنْ رواية عائشة رضي الله عنها.
قوله: «معادن» ، أي: أصول. فكل معدن يخرج منه ما في أصله. وكل إنسان يظهر منه ما فيه من خسة، أو شرف، فإذا انضم الدين إلى الشرف الأصلي فقد حاز الشرف.
قوله: «والأرواح جنود مجندة» ، أي: جموع مجتمعة، وأنواع مختلفة، فما تشاكل منها في الخير أو الشر حنّ إلى شكله.
وروي: «أن الأرواح خلقت قبل الأجسام، فكانت تلتقي وتتشام فلما
(1/251)
حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فتميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار.
[372] وعن أُسَيْر بن عمرو، ويقال: ابن جابر وَهُوَ - بضم الهمزة وفتح السين المهملة - قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - إِذَا أتَى عَلَيهِ أمْدَادُ أهْلِ اليَمَنِ سَألَهُمْ: أفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أتَى عَلَى أُوَيْسٍ - رضي الله عنه - فَقَالَ
لَهُ: أنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِر؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ، فَبَرَأْتَ مِنْهُ إلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَكَ وَالِدةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يَأتِي عَلَيْكُمْ أُويْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أمْدَادِ أهْلِ اليَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَبَرَأَ مِنْهُ إلا موْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالدةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ، فإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَل» فَاسْتَغْفِرْ لي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أيْنَ تُريدُ؟ قَالَ: الكُوفَةَ، قَالَ: ألا أكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أكُونُ في غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أشْرَافِهِمْ، فَوافَقَ عُمَرَ، فَسَألَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، فَقَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ البَيْتِ قَليلَ المَتَاع، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «يَأتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أمْدَادٍ مِنْ أهْلِ اليَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إلا مَوضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، فَإنِ اسْتَطْعتَ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ، فَافْعَلْ» فَأتَى أُوَيْساً، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: أنْتَ أحْدَثُ عَهْداً بسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لي. قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: أنْتَ أحْدَثُ عَهْداً بسَفَرٍ
(1/252)
صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لي. قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. رواه مسلم.
وفي رواية لمسلم أيضاً عن أُسَيْر بن جابر - رضي الله عنه - أنَّ أهْلَ الكُوفَةِ وَفَدُوا عَلَى عُمَرَ - رضي الله عنه - وَفِيهمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ ها هُنَا أَحَدٌ مِنَ القَرَنِيِّينَ؟ فَجَاءَ ذلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عمرُ: إنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -
قَدْ قَالَ: «إنَّ رَجُلاً يَأتِيكُمْ مِنَ اليَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، لا يَدَعُ باليَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا الله تَعَالَى، فَأذْهَبَهُ إلا مَوضِعَ الدِّينَارِ أَو الدِّرْهَمِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ» .
وفي رواية لَهُ: عن عمر - رضي الله عنه - قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَمُرُوهُ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ» .
قوله: «غَبْرَاءِ النَّاسِ» بفتح الغين المعجمة، وإسكان الباءِ وبالمد: وهم فُقَرَاؤُهُمْ وَصَعَالِيكُهُمْ وَمَنْ لا يُعْرَفُ عَيْنُهُ مِنْ أخلاطِهِمْ «وَالأَمْدَادُ» جَمْعُ مَدَدٍ: وَهُمُ الأَعْوَانُ وَالنَّاصِرُونَ الَّذِينَ كَانُوا يُمدُّونَ المُسْلِمِينَ في الجهَاد.
في هذا الحديث: طلب الدعاء من الصالحين وإنْ كان الطالبُ أفضل.
وفيه: معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من الإخبار بالأمر قبل وقوعه. وذكر أويسًا باسمه، وصفته، وعلامته، واجتماعه بعمر، وفيما فعل عمر رضي الله عنه تبليغ الشريعة ونشر السنة، والإقرار بالفضل لأهله، والثناء على من لا يخشى عليه عجب بذلك.
قال القرطبي: كان أويس من أولياء الله المخلصين المختفين الذين لا يؤبه لهم، ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عنه، ووصفه ونعته بنعته، وعلامته، لَمَا عرفه
(1/253)
أحد وكان موجودًا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به وصدقه ولم يَلْقه، ولا كاتبه، فلم يُعَد من الصحابة.
[373] وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: اسْتَأذَنْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في العُمْرَةِ، فَأذِنَ لِي، وَقالَ: «لا تَنْسَنا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ» فَقَالَ كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي أنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا
وفي رواية: وَقالَ: «أشْرِكْنَا يَا أُخَيَّ في دُعَائِكَ» .
حديث صحيح رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
فيه: دليل على استحباب طلب المقيم من المسافر، ووصيته له بالدعاء في مواطن الخير، ولو كان المقيم أفضل من المسافر.
[374] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يزور قُبَاءَ رَاكِباً وَمَاشِياً، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأتي مَسْجِد قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ رَاكباً، وَمَاشِياً وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
مسافة ما بين مسجد قباء ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرسخ، وهو ثلاث أميال.
وفي الحديث: استحباب زيارة مسجد قباء اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -.
46- باب فضل الحب في الله والحث عَلَيهِ
وإعلام الرجل من يحبه، أنه يحبه، وماذا يقول لَهُ إِذَا أعلمه
قَالَ الله تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح (29) ] إِلَى آخر السورة.
(1/254)
أي: غلاظ على من خالف الدين ويتراحمون فيما بينهم. كما قال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة (54) ] .
وَقالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر (9) ] .
المراد بالدار: المدينة. والآية نزلت في الأنصار لأنهم لزموا المدينة، والإيمان وتمكنوا فيهما قبل.
[375] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإيمانِ: أنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سَوَاهُمَا، وَأنْ يُحِبّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ أنْ أنْقَذَهُ الله مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وإيثار ذلك على أغراض الدنيا.
[376] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ في عِبَادَةِ الله - عز وجل -، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إنِّي أخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «سبعة يظلّهم الله [في ظِِلّه] » ، أي: ظل عرشه.
(1/255)
وفي الحديث: الحثُ على هذه الخصال والتخلُّق بها.
وقد نظمها بعضهم فقال:
أناسٌ روينا في الصحيحين سبعة ... ?? ... يظلهم الرحمن في برد ظله ... ???
محبٌّ، عفيف، ناشئ، متصدق ... ?? ... وباكٍ، مُصّلٍّ، والإِمام بِعَدْلِه
??
وقد أورد بعضهم الخصال التي توجب إظلال الله لأصحابها، فبلغها تسعة وثمانين، منها الجهاد، وإنظار المعسر، والصبر، وحسن الخلق، وكفالة اليتيم، والصدق، والنصح، وترك الزنا، والحلم، وحفظ القرآن، وعيادة المرضى، وإشباع جائع، وصلة الرحم، ومحيي سنَّة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبناء مسجد، ومعلم دين.
[377] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله تَعَالَى يقول يَوْمَ القِيَامَةِ: أيْنَ المُتَحَابُّونَ بِجَلالِي؟ اليَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلِّي» . رواه مسلم.
سؤال الله تعالى عن المتحابين مع علمه بمكانهم، لينادي بفضلهم في ذلك الموقف.
[378] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بينكم» . رواه مسلم.
فيه: الحث على إفشاء السلام، وبذله لكل مسلم عرفته أو لم تعرفه، وفي إفشائه أُلفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم مع ما فيه من التواضع.
[379] وعنه عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أنَّ رَجُلاً زَارَ أخاً لَهُ في قَرْيَةٍ أخْرَى، فَأرصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً ... » وذكر الحديث إِلَى قوله: «إنَّ الله قَدْ أحبَّكَ كَمَا أحْبَبْتَهُ فِيهِ» . رواه مسلم، وقد سبق بالباب قبله.
(1/256)
فيه: فضل الحب في الله لما يؤول به إلى محبة الله للعبد، ومن أحبه الله فقد فاز فوزًا عظيمًا.
وفي الدعاء المأثور: (اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك والعمل الذي يقربني إلى حبك) .
[380] وعن البرَاءِ بن عازب رضي الله عنهما، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ في الأنصار: «لا يُحِبُّهُمْ إلا مُؤمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إلا مُنَافِقٌ، مَنْ أحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ الله، وَمَنْ أبْغَضَهُمْ أبْغَضَهُ الله» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
يُسمى الأوس والخزرج الأنصار لنصرهم الإسلام، وإيواء أهله، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة (100) ] .
[381] وعن معاذ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «قَالَ الله - عز وجل -: المُتَحَابُّونَ في جَلالِي، لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
فيه: دليل على أن لهؤلاء العباد منازل شريفة عظيمة في الآخرة، ولا يلزم من ذلك أنْ يكونوا أفضل من الأنبياء، وإنما أُريد بذلك بيان فضلهم وشرفهم عند الله تعالى.
(1/257)
[382] وعن أَبي إدريس الخولاني رحمه الله، قَالَ: دخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَإذَا فَتَىً بَرَّاق الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا في شَيْءٍ، أَسْنَدُوهُ إِلَيْه، وَصَدَرُوا عَنْ رَأيِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَل - رضي الله عنه -. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ، هَجَّرْتُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بالتَّهْجِيرِ، ووَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فانْتَظَرتُهُ حَتَّى قَضَى صَلاتَهُ، ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ، ثُمَّ قُلْتُ: وَاللهِ إنّي لأَحِبُّكَ لِله، فَقَالَ: آلله؟ فَقُلْتُ: اللهِ، فَقَالَ: آللهِ؟ فَقُلْتُ: اللهِ، فَأخَذَنِي بِحَبْوَةِ رِدَائِي، فجبذني إِلَيْهِ، فَقَالَ: أبْشِرْ! فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «قَالَ الله تَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتي لِلْمُتَحابين فيَّ، وَالمُتَجَالِسينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَالمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» . حديث صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح.
قوله: «هَجَّرْتُ» أيْ بَكَّرْتُ، وَهُوَ بتشديد الجيم قوله: «آلله فَقُلْت: الله» الأول بهمزة ممدودة للاستفهام، والثاني بلا مد.
فيه: تنبيه على أنَّ الأدب لمن جاء إلى مشغول بطاعة الله تعالى إن لا يلهيه عما هو فيه.
وفيه: أن الأدب قَصْدُ الإنسان من قِبَلِ وجهه.
وفيه: فضل التحابّ والتجالس والتزاور في الله.
[383] وعن أَبي كَرِيمَةَ المقداد بن معد يكرب - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أخَاهُ، فَليُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» . رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ: «حديث حسن صحيح غريب» .
فيه: استحباب إخبار المحبوب في الله بحبه، لتزداد المحبة والأُلفة.
(1/258)
[384] وعن معاذ - رضي الله عنه - أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيدهِ، وَقالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللهِ، إنِّي لأُحِبُّكَ، ثُمَّ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . حديث ... صحيح، رواه أَبُو داود والنسائي بإسناد صحيح.
فيه: فضل معاذ. قال بعضهم: لما صحت محبة معاذ للنبي - صلى الله عليه وسلم - جازاه بأعلا منها كما هو عادة الكرام.
[385] وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلاً كَانَ عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَرَّ به رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أنِّي لأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أأعْلَمْتَهُ؟» قَالَ: لا. قَالَ: «أعْلِمْهُ» فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّكَ في الله، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أحْبَبْتَنِي لَهُ. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
فيه: دليل على استحباب إظهار المحبة في الله، والدعاء لفاعل الخير مثل عمله.
47- باب علامات حب الله تَعَالَى للعبد
والحث عَلَى التخلق بِهَا والسعي في تحصيلها
قَالَ الله تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران (31) ] .
في هذه الآية: وعدٌ من الله عزَّ وجلّ بالمحبة، والرحمة، وغفران الذنوب، لمن اتبع محمدًا - صلى الله عليه وسلم -.
قال الحسن البصري: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية.
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
(1/259)
اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة (54) ] .
هذا من الكائنات التي أخبر الله بها قبل وقوعها، وقد ارتد العرب في آخر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنو مدلج، ورئيسهم العنسي، وبنو حنيفة ورئيسهم مسيلمة، وبنو أسد ورئيسهم طليحة.
وفي عهد الصديق، فزارة وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض تميم، قوم سجاح زوجة مسيلمة، وكِنْدة، وبنو بكر بن وائل، وكفى الله أمرهم على يد الصديق رضي الله عنه.
وفي إمرة عمر، غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر وسار إلى الشام.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، قيل: هم أهل اليمن؛ لما روي أنه عليه السلام أشار إلى أبي موسى، وقال: «هم قوم هذا» .
[386] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى ليَ وَلِيّاً، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا، وَرجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإنْ سَألَنِي أعْطَيْتُهُ، وَلَئِن اسْتَعَاذَنِي لأعِيذَنَّهُ» . رواه البخاري.
معنى «آذنته» : أعلمته بأني محارِب لَهُ. وقوله: «استعاذني» رُوِيَ بالباءِ ورُوِيَ بالنون.
الولي: هو من تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
(1/260)
وفي الحديث: وعيد شديد لمن عادى وليًّا من أولياء الله.
وفيه: أنّ أحب الأعمال إلى الله أداء فرائضه، وأنَّ كثرة النوافل توجب محبة الله للعبد، وقربه، فيرتقي إلى درجة الإحسان، فيمتلأ قلبه بمعرفة الله تعالى، وعظمته، وخوفه، ورجائه، فإن نطق: نطق بالله، وإنْ سمع: سمع به، وإنْ نظر نظر به، وإنْ بطش: بطش به. قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل (128) ] .
[387] وعنه عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ تَعَالَى العَبْدَ، نَادَى جِبْريلَ: إنَّ الله تَعَالَى يُحِبُّ فُلاناً، فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبريلُ، فَيُنَادِي في أَهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاناً، فَأحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأرْضِ» . متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله تعالى إذا أحب عبداً دعا جبريلَ، فقال: إنّي أُحِبُّ فلاناً فأحببهُ، فيحبُّهُ جبريلُ، ثمَّ ينادي في السماءِ، فيقول: إنَّ اللهَ يحبُّ فلاناً فأحبوهُ، فيحبُّهُ أهلُ السماءِ، ثمَّ يوضعُ لهُ القبولُ في الأرضِ، وَإِذَا أبْغَضَ عَبْداً دَعَا جِبْريلَ، فَيَقُولُ: إنّي أُبْغِضُ فُلاناً فَأبْغِضْهُ. فَيُبغِضُهُ جِبريلُ ثُمَّ يُنَادِي في أَهْلِ السَّماءِ: إنَّ الله يُبْغِضُ فُلاناً فَأبْغِضُوهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ البَغْضَاءُ في الأَرْضِ» .
المراد بالقبول، الحب للعبد في قلوب أهل الدين والخير، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم (96) ] .
والبغضاء: شدة البغض.
(1/261)
[388] وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً عَلَى سَريَّة فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ في صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ {قُل هُوَ الله أَحَدٌ} ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذلِكَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذلِكَ» ؟ فَسَألُوهُ فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمنِ فَأَنَا أُحِبُّ أنْ أقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أخْبِرُوهُ أنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
فيه: دليل على أنَّ من أحب هذه السورة لأجل أنها صفة الله، أحبه الله.
وعلى جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس والاستكثار منه، أن الجزاء يترتب بحسب النية والقصد، وجواز الجمع بين سورتين غير الفاتحة في ركعة واحدة.
48- باب التحذير من إيذاء الصالحين
والضعفة والمساكين
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب (58) ] .
في هذه الآية: التحذير من إيذاء المؤمنين بغير جناية استحقوا بها الإيذاء.
وفي الحديث: قيل: يَا رسول الله! ما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره» . قال: أرأيت إنْ كان فيه ما أقول. قال: «إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» .
وَقالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى (9، 10) ] .
أي: لا تقهر اليتيم على مالِه فتذهب بحقه لضعفه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير
(1/262)
بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشرُّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه» .
وقوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} ، أي: لا تنهره ولا تزجره إذا سألك.
قال قتادة: رُدَّ السائلَ برحمة ولين.
وقال إبراهيم بن أدهم: نِعْم القوم السُّؤال، يحملون زادنا في الآخرة.
وقال ابن إسحاق: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} ، أي: فلا تكن جبَّارًا ولا متكبِّرًا، ولا فحَّاشًا، ولا فظَّا على الضعفاء من عباد الله.
وأما الأحاديث، فكثيرة مِنْهَا:
حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه - في الباب قبل هَذَا: «مَنْ عَادَى لِي وَليّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ» .
ومنها حديث سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه - السابق في باب ملاطفة اليتيم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَئِنْ كُنْتَ أغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أغْضَبْتَ رَبَّكَ» .
أي: وكلا الحديثين يدلان على تحريم إيذاء الصالحين، والضعفة، والمساكين بخصوصهم، ومثلهم سائر المؤمنين لحرمة الإيمان وشرفه.
[389] وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ، فَهُوَ في ذِمَّةِ الله، فَلا يَطْلُبَنَّكُمُ الله
(1/263)
مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإنَّهُ مَنْ يَطْلُبُهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبُّهُ عَلَى وَجْهِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ» . رواه مسلم.
قوله: «من صلَّى الصبح» ، أي: في جماعة. كما في رواية أُخرى لمسلم. وكأنها إنما خصت بذلك لأنها أول النهار الذي هو وقت انتشار الناس في حوائجهم.
وفي الحديث: غاية التحذير عن التعريض لمن صلَّى الصبح المستلزم لصلاة بقية الخمس.
49- باب إجراء أحكام الناس عَلَى الظاهر
وسرائرهم إِلَى الله تَعَالَى
قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم} [التوبة (5) ] .
قال السيوطي: لم يكتف في تخلية السبيل بالتوبة من الشرك حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. واستدل به الشافعي على قتل تارك الصلاة، وقتال مانع الزكاة.
[390] وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلهَ إلا الله، وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُول الله، وَيُقيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهُمْ وَأمْوَالَهُمْ إلا بحَقِّ الإسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله تَعَالَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال الخطابي وغيره: المرادُ بهذا أهل الأوثان، ومشركوا العرب ومن
(1/264)
لا يؤمن دون أهل الكتاب، ومَنْ يُقر بالتوحيد، فلا يكتفي بعصمته بقوله: (لا إله إلا الله) . إذا كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده.
[391] وعن أَبي عبدِ الله طارِق بن أشَيْم - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «مَنْ قالَ لا إلهَ إلا الله، وَكَفَرَ بما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله تَعَالَى» . رواه مسلم.
قوله: «من قال لا إله إلا الله» ، أي: مع قرينتها وهي: محمد رسول الله، «وكفر بما يعبد من دون الله» ، أي: أيَّ معبود كان، «حرم ماله ودمه» ، على المسلمين «وحسابه» في صدقه وكذبه على الله تعالى.
[392] وعن أَبي معبد المقداد بن الأسْود - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرَأيْتَ إنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الكُفَّارِ، فَاقْتتَلْنَا، فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَها، ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أسْلَمْتُ لِلهِ، أأقْتُلُهُ يَا رَسُول الله بَعْدَ أنْ قَالَهَا؟ فَقَالَ: «لا تَقْتُلهُ» فَقُلْتُ: يَا رَسُول الله، قَطَعَ إحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ ذلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا؟! فَقَالَ: «لا تَقتُلْهُ، فإنْ قَتَلْتَهُ فَإنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أنْ تَقْتُلَهُ، وَإنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ التي ... قَالَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ومعنى «أنه بمنزلتك» أي: معصوم الدم محكوم بإسلامه. ومعنى ... «أنك بمنزلته» أي: مباح الدمِ بالقصاص لورثتهِ لا أنه بمنزلته في الكفر، والله أعلم.
في الحديث: دليل على أنّ كل من صدر عنه ما يدل على الدخول في الإسلام من قول أو فعل حكم بإسلامه، حتى يتبيَّن منه ما يخالفه، وقد حكم - صلى الله عليه وسلم - بإسلام بني خزيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد بقولهم: صبأنا
صبأنا، ولم يحسنوا
(1/265)
أن يقولوا: أسلمنا. فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» . ثم واداهم.
قوله: «لا تقتل فإن قتلته فإنه بمنزلتك» قبل أنْ تقتله وإنّك بمنزلته قبل أنْ يقول كلمته التي قال.
زاد البخاري في هذا الحديث أنه عليه السلام قال للمقداد: «إذا كان المؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة» .
قوله: «ومعنى أنك بمنزلته» ، أي: مباح القصاص لورثته.
الظاهر أنه لا يلزمه قصاص، ولكن تلزمه دية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المقداد ولا أسامة، وودي الذين قتلهم خالد بن الوليد. والله أعلم.
[393] وعن أُسَامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بعثنا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَصَبَّحْنَا القَوْمَ عَلَى مِيَاهِهِمْ، وَلَحقْتُ أنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشَيْنَاهُ، قَالَ: لا إلهَ إلا الله، فَكفَّ عَنْهُ الأَنْصَاري، وطَعَنْتُهُ برُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ، بَلَغَ ذلِكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَة، أقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إلهَ إلا اللهُ؟!» قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا كَانَ متعوِّذاً، فَقَالَ: «أقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إلهَ إلا اللهُ؟!» فما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمنْيَّتُ أنِّي لَمْ أكُنْ أسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ اليَوْمِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقالَ: لا إلهَ إلا اللهُ وقَتَلْتَهُ» ؟! قُلْتُ: يَا رَسُول الله، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفاً مِن السِّلاحِ، قَالَ: «أَفَلا شَقَقْتَ
(1/266)
عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أمْ لا؟!» فمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أنِّي أسْلَمْتُ يَوْمَئذٍ.
(الحُرَقَةُ) بضم الحاءِ المهملة وفتح الراءِ: بَطْنٌ مِنْ جُهَيْنَةَ: القَبِيلةُ المَعْرُوفَةُ. وقوله: «مُتَعَوِّذاً» : أيْ مُعْتَصِماً بِهَا مِنَ القَتْلِ لا معْتَقِداً لَهَا.
في هذا الحديث: دليل على جريان الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة الخفية.
[394] وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثاً مِنَ المُسْلِمينَ إِلَى قَومٍ مِنَ المُشرِكينَ، وَأنَّهُمْ التَقَوْا، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ المُشْركينَ إِذَا شَاءَ أنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُل مِنَ المُسْلِمينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَأنَّ رَجُلاً مِنَ المُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ. وَكُنَّا نتحَدَّثُ أنَّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيهِ السَّيفَ، قَالَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فَقَتَلهُ، فَجَاءَ البَشيرُ إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَألَهُ وَأخبَرَهُ، حَتَّى أخْبَرَهُ خَبَرَ الرَّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ، فَدَعَاهُ فَسَألَهُ، فَقَالَ: «لِمَ قَتَلْتَهُ؟» فَقَالَ: يَا رَسُول اللهِ، أوْجَعَ في المُسلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلاناً وفلاناً، وسمى لَهُ نَفراً، وَإنِّي حَمَلْتُ عَلَيهِ، فَلَمَّا رَأى السَّيفَ، قَالَ: لا إلهَ إلا اللهُ. قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَكَيفَ تَصْنَعُ بلا إلهَ إلا اللهُ، إِذَا جَاءتْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟» قَالَ: يَا رَسُول الله، اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: «وكَيفَ تَصْنَعُ بِلا إلهَ إلا الله إِذَا جَاءتْ يَوْمَ
القِيَامَةِ؟» فَجَعَلَ لا يَزِيدُ عَلَى أنْ يَقُولَ: «كَيفَ تَصْنَعُ بِلا إلهَ إلا الله إِذَا جَاءتْ يَوْمَ القِيَامَةِ» . رواه مسلم.
قوله: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله» ، أي: من يشفع لك، ومن يحاج عنك ويجادل إذا جيء بكلمة التوحيد.
وقيل: كيف قتلت من قالها وقد حصل له ذمة الإسلام وحرمته.
(1/267)
[395] وعن عبد الله بن عتبة بن مسعود قَالَ: سَمِعْتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقولُ: إنَّ نَاساً كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ في عَهْدِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَإنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وإِنَّمَا نَأخُذُكُمُ الآن بما ظَهَرَ لَنَا مِنْ أعمَالِكُمْ، فَمَنْ أظْهَرَ لَنَا خَيْراً أمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْء، اللهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أظْهَرَ لَنَا سُوءاً لَمْ نَأمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإنْ قَالَ: إنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. رواه البخاري.
قال المهلّب: هذا إخبار من عمر عما كان الناس عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعما صار بعده، ويؤخذ منه أن العدل من لم توجد منه ريبة.
50- باب الخوف
قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة (40) ] .
الرهبة: الخوف، أي: خافون خوفًا معه تحرز فيما تأتون وتذرون.
وَقالَ تَعَالَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج (12) ] .
أي: أن بطشه وانتقامه من أعدائه لشديد عظيم قوي.
وَقالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود (102: 106) ] .
قوله: {وَكَذَلِكَ} ، أي: ومثل ذلك الأخذ للأمم الماضين {أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} .
وَقالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران (28) ] .
(1/268)
أي: يخوفكم عقابه. وفي ذلك غاية التحذير.
قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذَّرهم بنفسه.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ * مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس (34: 37) ] .
أي: يشغله عن شأن غيره.
وَقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج (1، 2) ] .
فيرهقهم هوله بحيث تطير قلوبهم، ويذهب تمييزهم.
وَقالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن (46) ] .
أي: من خاف مقام ربه بين يديه للحساب، فامتثل أوامره، وترك نواهيه، فله جنتان، أي: لكل إنسان جنتان.
وفي الحديث المتفق عليه: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عزَّ وجلّ إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» .
وعن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، وفي قوله {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن (62) ] ، جنتان من ذهب للمقربين، وجنات من ورق لأصحاب اليمين.
(1/269)
وَقالَ تَعَالَى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور (25: 28) ] .
يقول تعالى: وأقبل أهل الجنة يتحادثون وهم على طعامهم وشرابهم، ويتساءلون عن أحوالهم في الدنيا، قالوا {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} ، خائفين من العذاب {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} ، أي: عذاب النار، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} نخلص
له العبادة، {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} ، أي: اللطيف بعباده الصادق في وعده، {الرَّحِيمُ} بالمؤمنين.
وَالآيات في الباب كثيرة جداً معلومات والغرض الإشارة إِلَى بعضها وقد حصل:
وأما الأحاديث فكثيرة جداً فنذكر مِنْهَا طرفاً وبالله التوفيق:
[396] عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: حدثنا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصادق المصدوق: «إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أربَعِينَ يَوماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. فَوَالَّذِي لا إلهَ غَيْرُهُ إنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ فَيدْخُلُهَا، وَإنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذراعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
في هذا الحديث: إثبات القدر، وأن جميع ما في الكون من نفع أو ضر بقضاء وقدر.
(1/270)
وفيه: إيماء إلى عدم الاغترار بصور الأعمال، لأن الأعمال بالخواتيم، نسأل الله حسن الخاتمة.
[397] وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤتَى بِجَهَنَّمَ يَومَئذٍ لَهَا سَبْعُونَ ألفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» . رواه مسلم.
قوله: «يومئذٍ» ، أي: يوم يقوم الناس للحساب، ويشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر (21: 24) ] .
[398] وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ لَرَجُلٌ يوضعُ في أخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ. مَا يَرَى أنَّ أَحَداً أشَدُّ مِنْهُ عَذَاباً، وَأنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَاباً» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «أهل النار» ، أي: الكفار، لأنهم أهلها الخالدون فيها أبدًا، وأما العصاة فإن الله يعذب فيها من يشاء منهم، ثم يدخله الجنة.
[399] وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مِنْهُمْ مَنْ تَأخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيهِ، وَمنْهُمْ مَنْ تَأخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيهِ، وَمنْهُمْ مَنْ تَأخُذُهُ إِلَى حُجزَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأخُذُهُ إِلَى تَرْقُوَتِهِ» . رواه مسلم.
«الحُجْزَةُ» : مَعْقِدُ الإزار تَحْتَ السُّرَّةِ، وَ «التَّرْقُوَةُ» بفتح التاءِ وضم القاف: هي العَظمُ الَّذِي عِنْدَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ، وَللإنْسَانِ تَرْقُوتَانِ في جَانبَي النَّحْرِ.
(1/271)
قوله: «منهم» ، أي: من أهل النار.
وفيه: أنّ عذاب بعضهم أشد من بعض، قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف (19) ] .
[400] وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَقُومُ النَّاس لِرَبِّ العَالَمينَ حَتَّى يَغِيبَ أحَدُهُمْ في رَشْحِهِ إِلَى أنْصَافِ أُذُنَيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَ «الرَّشْحُ» : العَرَقُ.
قيل: سبب هذا العرق تراكم الأحوال وتزاحم حرّ الشمس والنار، كما جاء أنّ جهنم تدير أهل المحشر فلا يكون لأهل الجنة طريق إلا الصراط فيكون الناس في ذلك العرق على قدر أعمالهم.
[401] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: خطبنا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة مَا سَمِعْتُ مِثلها قطّ، فَقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ، لَضحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيتُمْ كَثِيراً» فَغَطَّى أصْحَابُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَجُوهَهُمْ، وَلَهُمْ خَنَينٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية: بَلَغَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ فَخَطَبَ فَقَالَ: ... «عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أرَ كَاليَومِ في الخَيرِ وَالشَّرِّ وَلَوْ تَعْلَمونَ مَا أعلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً» فَمَا أتَى عَلَى أصْحَابِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ، غَطَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ.
«الخَنِينُ» بالخاءِ المعجمة: هُوَ البُكَاءُ مَعَ غُنَّة وانتِشَاقِ الصَّوْتِ مِنَ الأنْفِ.
في هذا الحديث: الحثُّ على البكاء، والتحذير من إكثار الضحك، واستحباب تغطية الوجه عند البكاء.
(1/272)
[402] وعن المقداد - رضي الله عنه - قَالَ: سمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ» . - قَالَ سُلَيْم بنُ عامِر الراوي عن المقداد: فَوَاللهِ مَا أدْرِي مَا يعني بالمِيلِ، أمَسَافَةَ الأرضِ أَمِ المِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ العَيْنُ؟ -: «فَيكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ في العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، ومنهم من يكون إِلَى ركبتيه، ومنهم مَنْ يَكُونُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَقُ إلْجَاماً» . وَأَشَارَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدهِ إِلَى فِيهِ. رواه مسلم.
الميل عند العرب: مقدار مدّ البصر من الأرض، وعند أهل الهيئة: ثلاثة آلاف ذراع، وعند المحدثين: أربعة آلاف ذراع. ولكن أهل الهيئة يقولون: الذراع اثنتان وثلاثون أصبعًا. والمحدثون يقولون: أربع وعشرون أصبعًا، واتفقوا على أن مقدار الميل ست وتسعون ألف أصبع فالمتحصل أربعة آلاف ذراع.
[403] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأرضِ سَبْعِينَ ذِراعاً، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ومعنى «يَذْهَبُ في الأرضِ» : ينزل ويغوص.
قيل: سبب العرق في المحشر شدة كرب يوم القيامة وأهوالها.
[404] وعنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ سمع وجبة، فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قُلْنَا: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: «هذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ في النَّارِ مُنْذُ سَبْعينَ خَريفاً، فَهُوَ يَهْوِي في النَّارِ الآنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِها فَسَمِعْتُمْ وَجْبَتَهَا» . رواه مسلم.
(1/273)
الوجبة: السقطة مع الهدة، يقال: وجب الحائط ونحوه، أي سقط.
قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج (36) ] .
وفي الحديث: أن الإنسان إذا سئل عما لا علم له به أن يكل العلم فيه إلى الله سبحانه وتعالى.
وفيه: أن قعر النار تحت الأرض السابعة.
[405] وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: «ليس بينه وبينه ترجمان» ، المراد أن الله يكلمه بلا واسطة.
وفي الحديث: الحث على الصدقة، والاستكثار من الأعمال الصالحة.
[406] وعن أَبي ذر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، وأَسمعُ ما لا تَسمعُون، أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوضِعُ أرْبَع أصَابعَ إلا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً للهِ تَعَالَى. والله لَوْ
تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بالنِّساءِ عَلَى الفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأرُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
وَ «أطَّت» بفتح الهمزة وتشديد الطاءِ و «تئط» بفتح التاءِ وبعدها همزة مكسورة، وَالأطيط: صوتُ الرَّحْلِ وَالقَتَبِ وَشِبْهِهِمَا، ومعناه: أنَّ
(1/274)
كَثرَةَ مَنْ في السَّماءِ مِنَ المَلائِكَةِ العَابِدِينَ قَدْ أثْقَلَتْهَا حَتَّى أطّتْ. وَ «الصُّعُدات» بضم الصاد والعين: الطُّرُقات: ومعنى: «تَجأَرُون» : تَستَغيثُونَ.
قوله: «لو تعلمون ما أعلم» ، أي: من عظمة جلال الله تعالى، وشدة انتقامه، «لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا» ، أي: خوفًا من سطوة الجبار سبحانه وتعالى.
وفيه: إيماء إلى أن المطلوب من العبد أنْ لا ينتهي به الخوف إلى اليأس والقنوط، بل يكون عنده بعض الرجاء فيعمل معه البر، ويكون عنده من الخوف ما ينزجر به عن الْمُخَالَفَة.
[407] وعن أَبي برزة - براء ثُمَّ زاي - نَضْلَة بن عبيد الأسلمي - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أفنَاهُ؟ وَعَنْ عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فيه؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفيمَ أنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسمِهِ فِيمَ أبلاهُ؟» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
قوله: «لا تزول قدما عبد» ، أي: من موقفه للحساب حتى يسأل عن عمره فيما أفناه أفي طاعة أم معصية، وعن عمله فيم عمله لوجه الله تعالى خالصًا أو رياء وسمعة.
وعن ماله من أين اكتسبه، أَمِنْ حلال أو حرام؟ وفيما أنفقه أفي البر والمعروف أو الإسراف والتبذير؟ وعن جسمه فيما أبلاه أفي طاعة الله أو معاصيه؟ .
[408] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قرأ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(1/275)
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة (4) ] ثُمَّ قَالَ: «أتَدْرونَ مَا أخْبَارهَا» ؟ قالوا: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: «فإنَّ أخْبَارَهَا أنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلّ عَبْدٍ أَوْ أمَةٍ بما عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ: عَملْتَ كَذَا وكَذَا في يَومِ كَذَا وكَذَا فَهذِهِ أخْبَارُهَا» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
في هذا الحديث: دليل على أن الأرض تنطق بما عمل عليها، ونظيره، قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت (19: 21) ] .
[409] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ أنْعَمُ! وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ، وَاسْتَمَعَ الإذْنَ مَتَى يُؤمَرُ بالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ» فَكَأنَّ ذلِكَ ثَقُلَ عَلَى أصْحَابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُمْ: «
قُولُوا: حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
«القَرْنُ» : هُوَ الصُّورُ الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {وَنُفِخَ في الصُّورِ} كذا فسَّره رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: «كيف أنعمُ» ، أي: كيف أطيب عيشًا، وقد قرب أمر الساعة.
وفيه: حث لأصحابه على الوصية لمن بعدهم بالتهيؤ لها.
(1/276)
[410] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ خَافَ أدْلَجَ، وَمَنْ أدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ. ألا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، ألا إنَّ سِلْعَةَ الله الجَنَّةُ» . رواه الترمذي، وَقالَ: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
وَ «أدْلَجَ» : بإسكان الدال ومعناه سار من أول الليلِ. والمراد التشمير في الطاعة، والله أعلم.
قوله: «أدلج» ، أي: هرب في أول الليل، ومن أدلج بلغ المنزل الذي يأمن فيه البيات. قال العاقولي: هذا مثل طالب الآخرة، وكون الشيطان على طريقه، فإنْ تبتّل بالطاعة، وصبر أيامه القلائل أمن من الشيطان.
[411] وعن عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً» قُلْتُ: يَا رَسُول الله الرِّجَالُ وَالنِّساءُ جَمِيعاً يَنْظُرُ بَعضُهُمْ إِلَى بَعْض؟! قَالَ: «يَا عائِشَةُ، الأمرُ أشَدُّ مِنْ أنْ يُهِمَّهُمْ ذلِكَ» .
وفي رواية: «الأَمْرُ أهمُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعضُهُمْ إِلَى بَعض» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«غُرلاً» بِضَمِّ الغَينِ المعجمة، أيْ: غَيرَ مَختُونينَ.
في هذا الحديث: عظم هول يوم القيامة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج (1، 2) ] .
51- باب الرجاء
قَالَ الله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
(1/277)
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر (53) ] .
الرجاء: تعليق القلب بمحبوب في المستقبل، والفرق بينه وبين التمنِّي، أنَّ التمنِّي يصاحبه الكسل، والرجاء يبعث على صالح العمل.
ويطلقُ الرجاء على الخوف، ومنه قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح (13) ] ، أي لا تخافون له عظمة حتى تتركوا عصيانه.
وقال ابن عباس: لا تُعَظِّمون الله حقَّ عظمته، أي: لا تخافون من بأسه ونقمته.
وقال الحسن: لا تعرفون له حقًّا، ولا تشكرون له نعمة.
ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر (53) ] ، ولا يبالي [إنه هو الغفور رحيم] .
قال ابن كثير: نزلت هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة.
وروي عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين، كانوا قد أسلموا، ثم فُتِنوا وعُذِّبوا فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفًا، ولا عدلاً أبدًا، قومٌ أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عُذِّبوا فيه، فأنزل الله هذه الآيات.
وما روي من خصوص نزولها في جماعة لا ينفي عمومها، لأنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(1/278)
ورُوي عن ابن عمر قال: كنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقول: ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة، حتى نزلت {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد (33) ] ، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئًا من الكبائر، قلنا: قد هلك، فنزلت هذه الآية، فكففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحدًا أصاب منها شيئًا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئًا رجونا له؟
وقال تعالى: {وهل يجازى إلا الكفور} .
وفي القراءة الأخرى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} .
أي: عاقبناهم بكفرهم، وهل نجازي إلا الكفور؟
وقال مجاهد: ولا يعاقب إلا الكفور.
وقال طاوس: لا يناقش إلا الكفور
وقال مقاتل: وهل يكافؤ بعمله السِّيئ إلا الكفور لله في نعمه.
وقال بعض العلماء: جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعسُّر في اللذة، لا يصادف لذو حلالاً إلا جاءه ما ينغصه إياها.
وقال تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه (48) ] .
أي العذاب اللازم على من كذَّب بآيات الله، وأعرض عنها.
وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف (156) ] .
أي: وسعت في الدنيا البرَّ والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة.
قال ابن عباس: لما نزلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} قال إبليس: أنا من ذلك الشيء. فقال الله سبحانه وتعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
(1/279)
الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف (156) ] ، فتمناها اليهود والنصارى فجعلها الله لهذه الأمة، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف (157) ] الآية.
[412] وعن عبادة بن الصامتِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَهِدَ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأنَّ مُحَمداً عَبْدهُ ورَسُولُهُ، وَأنَّ عِيسى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ، وَأنَّ
الجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: «مَنْ شَهِدَ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ النَّارَ» .
في هذا الحديث: بشارة لأهل التوحيد بدخول الجنة، وعدم الخلود في النار، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء (48) ] .
[413] وعن أَبي ذر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله - عز وجل -: مَنْ جَاء بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا أَوْ أزْيَد، وَمَنْ جَاءَ بالسَيِّئَةِ فَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أغْفِرُ. وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْراً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً، وَمَنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيني بِقُرَابِ الأرْض خَطِيئةً لا يُشْرِكُ بِي شَيئاً، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغفِرَةً» . رواه مسلم.
معنى الحديث: «مَنْ تَقَرَّبَ» إلَيَّ بطَاعَتِي «تَقَرَّبْتُ» إِلَيْهِ بِرَحْمَتِي وَإنْ زَادَ زِدْتُ «فَإنْ أتَاني يَمْشِي» وَأسرَعَ في طَاعَتي «أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» أيْ: صَبَبْتُ عَلَيهِ الرَّحْمَةَ وَسَبَقْتُهُ بِهَا وَلَمْ أحْوِجْهُ إِلَى المَشْيِ الكَثِيرِ في
(1/280)
الوُصُولِ إِلَى المَقْصُودِ «وقُرَابُ الأَرضِ» بضم القافِ، ويقال: بكسرها والضم أصح وأشهر ومعناه: مَا يُقَارِبُ مِلأَهَا، والله أعلم.
هذا من الأحاديث القدسية.
وفيه: أن الجزاء على قدر العمل السيِّئ، وأن العمل الصالح يضاعف لفاعله.
قال القرطبي: هذه الجمل أمثال ضربت لمن عمل من الطاعات، وقصد به التقرب إلى الله تعالى، تدل على أنه تعالى لا يضيع أجر محسن، وإن قلَّ عمله، بل يقبله ويثبته مضاعفًا.
[414] وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: جاء أعرابي إِلَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:
يَا رَسُول الله، مَا الموجِبَتَانِ؟ قَالَ: «مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شَيئاً دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً دَخَلَ النَّار» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: بشارة للموحدين بدخول الجنة، ابتداء مع الفائزين أو بعد تمحيصهم بالنار.
[415] وعن أنس - رضي الله عنه - أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه عَلَى الرَّحْل، قَالَ: ... «يَا مُعَاذُ» قَالَ: لَبِّيْكَ يَا رَسُول الله وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: «يَا مُعَاذُ» قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُول الله وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: «يَا مُعَاذُ» قَالَ: لَبِّيْكَ يَا رَسُول الله وسَعْدَيْكَ، ثَلاثاً، قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أن لا إلهَ إلا الله، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صِدْقاً مِنْ قَلْبِهِ إلا حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّار» قَالَ: يَا رَسُول الله، أفَلا أخْبِرُ بِهَا النَّاس فَيَسْتَبْشِروا؟ قَالَ: «إِذاً يَتَّكِلُوا» فأخبر بِهَا مُعاذٌ عِنْدَ موتِه تَأثُّماً. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/281)
وقوله: «تأثُّماً» أي خوفاً مِنْ الإثم في كَتْم هَذَا العلم.
قوله: «صدقًا من قلبه» ، هذا: القيد لإخراج شهادة اللسان إذا لم يطابقها الجنان، كالمنافقين.
قوله: (ألا أُخبر بها الناس فيستبشروا، قال: «إذًا يتكلوا» .) ، ... أي: يتركوا العمل، ويتكلوا على ذلك، فيأثموا بترك الواجب، ويفوتهم أعالي المنازل بترك المستحب، فأشار إلى معاذ بالترك، لأنه رأى المصلحة في ذلك أتم من الإعلام.
وفيه: أن العالم يراعي المصلحة في كتمان العلم ونشره.
[416] وعن أَبي هريرة - - أَوْ أَبي سعيد الخدري رضي الله عنهما - شك الراوي - ولا يَضُرُّ الشَّكُّ في عَين الصَّحَابيّ؛ لأنَّهُمْ كُلُّهُمْ عُدُولٌ - قَالَ: لَمَّا كَانَ غَزوَةُ تَبُوكَ، أصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فقالوا: يَا رَسُول الله، لَوْ أذِنْتَ لَنَا فَنَحرْنَا نَواضِحَنَا فَأكَلْنَا وَادَّهَنَّا؟ فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلُوا» فَجاء عُمَرُ - رضي الله عنه - فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِن ادعُهُمْ بفَضلِ أزْوَادِهِمْ، ثُمَّ ادعُ الله لَهُمْ عَلَيْهَا بِالبَرَكَةِ، لَعَلَّ الله أنْ يَجْعَلَ لهم في ذلِكَ البَرَكَةَ. فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَمْ» فَدَعَا بِنَطْع فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفضلِ أزْوَادِهِمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجيءُ بكَفّ ذُرَة وَيَجيءُ الآخر بِكَفّ تمر وَيجيءُ الآخرُ بِكِسرَة حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النّطعِ مِنْ ذلِكَ شَيء يَسيرٌ، فَدَعَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه بِالبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا في أوعِيَتِكُمْ» فَأَخَذُوا في أوْعِيَتهم حَتَّى مَا تَرَكُوا في العَسْكَرِ وِعَاء إلا مَلأوهُ وَأَكَلُوا حَتَّى شَبعُوا وَفَضَلَ فَضْلَةٌ فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ
وَأنّي رَسُولُ الله، لا يَلْقَى الله بِهِما عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الجَنَّةِ» . رواه مسلم.
(1/282)
في هذا الحديث: حسن الأدب في خطاب الكبار، وأنه لا ينبغي للإمام أن يأذن للعسكر في تضييع دوابهم، إلا إذا رأى مصلحة أو خاف مفسدة ظاهرة.
وفيه: تقديم الأهم فالأهم، وارتكاب أخف الضررين دفعًا لأشدهما.
وفيه: أن المؤمن لا بدَّ له من دخول الجنة إمَّا ابتداء مع الناجين أو بعد إخراجه من النار.
[417] وعن عِتْبَانَ بن مالك - رضي الله عنه - وَهُوَ مِمَّن شَهِدَ بَدراً، قَالَ: كنت أُصَلِّي لِقَوْمِي بَني سَالِم، وَكَانَ يَحُولُ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ وَادٍ إِذَا جَاءتِ الأَمْطَار، فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مسْجِدِهم، فَجِئتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت لَهُ: إنّي أنْكَرْتُ بَصَرِي وَإنَّ الوَادِي الَّذِي بَيْنِي وبَيْنَ قَومِي يَسيلُ إِذَا جَاءتِ الأمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ فَوَدِدْتُ أنَّكَ تَأتِي فَتُصَلِّي في بَيْتِي مَكَاناً أتَّخِذُهُ مُصَلّى، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَأفْعَلُ» .
فَغَدَا عليّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بكر - رضي الله عنه - بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، وَاسْتَأذَنَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَأذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: «أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟» فَأشَرْتُ لَهُ إِلَى المَكَانِ الَّذِي أُحبُّ أنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ فَصَلَّى رَكعَتَينِ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ فَحَبَسْتُهُ عَلَى خَزيرَةٍ تُصْنَعُ لَهُ، فَسَمِعَ أهلُ الدَّارِ أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في
بَيْتِي فَثَابَ رِجالٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ في البَيْتِ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا فَعَلَ مَالِكٌ لا أرَاهُ! فَقَالَ رَجُلٌ: ذلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ الله ورسولَهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقُلْ ذلِكَ، ألا تَرَاهُ قَالَ: لا إلهَ إلا الله يَبْتَغي بذَلِكَ وَجهَ الله تَعَالَى» فَقَالَ: اللهُ ورسُولُهُ أعْلَمُ أمَّا نَحْنُ فَوَاللهِ مَا نَرَى وُدَّهُ وَلا حَدِيثَهُ إلا إِلَى المُنَافِقينَ! فَقَالَ
(1/283)
رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنَّ الله قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لا إلهَ إلا الله يَبْتَغِي بذَلِكَ وَجْهَ الله» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَ «عِتْبَان» : بكسر العين المهملة وإسكان التاءِ المثناةِ فَوق وبعدها باءٌ موحدة. وَ «الخَزِيرَةُ» بالخاءِ المعجمةِ والزاي: هِيَ دَقيقٌ يُطْبَخُ بِشَحم. وقوله: «ثَابَ رِجَالٌ» بِالثاءِ المثلثةِ: أيْ جَاؤُوا وَاجْتَمَعُوا.
قال الحافظ في (فتح الباري) : وفي هذا الحديث من الفوائد: إمامة الأعمى، وإخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهته، ولا يكون من الشكوى، والتخلف عن الجماعة في المطر والظلمة، ونحو ذلك، واتخاذ موضع معين للصلاة.
وأما النهي عن إيطان موضع من المسجد، ففيه حديث رواه أبو داود، وهو محمول على ما إذا استلزم رياء، ونحوه.
وفيه: إجابة الفاضل دعوة المفضول، واستصحاب الزائر بعض أصحابه إذا علم أنّ المستدعي لا يكره ذلك، وأن اتخاذ مكان في البيت للصلاة لا يستلزم وقفيته، ولو أطلق عليه اسم المسجد.
وفيه: أن لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد، وأنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد، وترجم عليه البخاري: «صلاة النوافل جماعة» ، انتهى ملخصًا من شرح باب المساجد في البيوت.
[418] وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ: قدِم رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأةٌ مِنَ السَّبْيِ تَسْعَى، إِذْ وَجَدَتْ صَبياً في السَّبْيِ أخَذَتْهُ فَألْزَقَتهُ بِبَطْنِهَا فَأَرضَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتَرَوْنَ هذِهِ المَرْأةَ طَارِحَةً وَلَدَها في النَّارِ؟» قُلْنَا: لا وَاللهِ. فَقَالَ: «للهُ أرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هذِهِ بِوَلَدِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(1/284)
هذا الحديث ذكره البخاري في باب رحمة الولد، وتقبيله، ومعانقته، بلفظ: قدم على النبي س سبي، فإذا امرأة من السبي تحلب سديها، تسقي إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته.
قوله: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها» . قال ابن أبي جمرة: لفظ العباد عام، ومعناه خاص بالمؤمنين، وهو كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف (15) ] .
وفيه: إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده.
[419] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَمَّا خَلَقَ الله الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ ... غَضَبي» .
وفي رواية: «غَلَبَتْ غَضَبي» وفي رواية: «سَبَقَتْ غَضَبي» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال الطيبي: في سبق الرحمة إشارة أنّ قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم بغير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا بالاستحقاق. فالرحمة تشمل الشخص جنينًا ورضيعًا وفطيمًا، وناشئًا، قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق ذلك.
[420] وعنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ، فَأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأنْزَلَ في الأرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فَمِنْ ذلِكَ الجُزءِ يَتَرَاحَمُ الخَلائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابّةُ حَافِرهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَهُ» .
(1/285)
وفي رواية: «إنّ للهِ مئَةَ رَحمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجنِّ وَالإنس وَالبهائِمِ وَالهَوامّ، فبها يَتَعاطَفُونَ، وبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تِسْعاً وَتِسْعينَ رَحْمَةً يرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَة» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ورواه مسلم أيضاً مِنْ رواية سَلْمَانَ الفارِسيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ
رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ للهِ تَعَالَى مِئَة رَحْمَةٍ فَمِنْهَا رَحْمَةٌ يَتَرَاحمُ بِهَا الخَلْقُ بَيْنَهُمْ، وَتِسْعٌ وَتِسعُونَ لِيَومِ القِيَامَةِ» .
وفي رواية: «إنَّ الله خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ مَئَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّماءِ إِلَى الأرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا في الأرضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطفُ الوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْض، فَإذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أكملَهَا بِهذِهِ الرَّحمَةِ» .
الرحمة رحمتان: رحمة من صفات الذات، ورحمة من صفات الفعل.
قال القرطبي: مقتضي هذا الحديث، أن الله علم أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مئة نوع، فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم، وحصلت به مرافقتهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي، فبلغت مئة.
وقال ابن أبي جمرة: في الحديث إدخال السرور على المؤمنين، لأن العادة أنّ النفس يكمل فرحها بما وهب لها، إذا كان معلومًا مما يكون موعودًا.
وفيه: الحث على الإيمان، واتساع الرجاء في رَحَمَات الله تعالى المدخرة.
[421] وعنه عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكِي عن ربهِ تبارك وتعالى، قَالَ:
(1/286)
«أذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ الله تَبَاركَ وَتَعَالَى: أذنَبَ عبدي ذَنباً، فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأذْنَبَ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أذنَبَ عبدِي ذَنباً، فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبّاً، يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأذْنَبَ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أذنَبَ عبدِي ذَنباً،
فَعَلِمَ أنَّ لَهُ رَبّاً، يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وقوله تَعَالَى: «فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ» أيْ: مَا دَامَ يَفْعَلُ هكذا، يُذْنِبُ وَيَتُوبُ أغفِرُ لَهُ، فَإنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا.
هذا الحديث: أخرجه البخاري في باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح (15) ] ، من كتاب التوحيد.
قال القرطبي: يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله، وسعة رحمته وحلمه، وكرمه.
[422] وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا، لَذَهَبَ الله بِكُمْ، وَلجَاءَ بِقَومٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ الله تَعَالَى، فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . رواه مسلم.
[423] وعن أَبي أيوب خالد بن زيد - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «لَوْلا أنَّكُمْ تُذْنِبُونَ، لَخَلَقَ الله خَلْقاً يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرونَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . رواه مسلم.
(1/287)
قال ابن مالك: ليس هذا تحريضًا للناس على الذنوب، بل كان صدوره لتسلية الصحابة، وإزالة شدة الخوف عن صدورهم، لأن الخوف كان غالبًا عليهم حتى فرّ بعضهم إلى رؤوس الجبال للعبادة، وبعضهم اعتزل النساء.
وفي الحديث: تنبيه على رجاء مغفرة الله تعالى، وتحقق أنّ ما سبق في علمه تعالى كائن، لأنه سبق في علمه أنه يغفر للعاصي، فلو قدر عدم عاصٍ لخلق الله من يعصيه فيغفر له.
[424] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا قُعُوداً مَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رضي الله عنهما، في نَفَرٍ فَقَامَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَيْنِ أظْهُرِنَا، فَأبْطَأَ عَلَيْنَا فَخَشِينَا أنْ يُقتطَعَ دُونَنَا، فَفَزِعْنَا فَقُمْنَا فَكُنْتُ أوَّلَ مَنْ فَزِعَ فَخَرَجْتُ أبْتَغِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى أتَيْتُ حَائِطاً للأنْصَارِ ... وَذَكَرَ الحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى قوله: فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذهَبْ فَمَن لَقِيتَ وَرَاءَ هَذَا الحَائِطِ يَشْهَدُ أنْ لا إله إلا الله، مُسْتَيقِناً بِهَا قَلبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: البشارة بدخول الجنة للموحدين، إما ابتداء مع الفائزين، أو بعد دخول النار لمن يغفر له من العاصين.
[425] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تَلا قَولَ الله - عز وجل - في إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم (36) ] الآية، وقَالَ عِيسَى - صلى الله عليه وسلم -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة (118) ] فَرَفَعَ يَدَيهِ وَقالَ: «اللَّهُمَّ أُمّتي
(1/288)
أُمّتي» وبَكَى، فَقَالَ الله - عز وجل -: «يَا جِبْريلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ - وَرَبُّكَ أعْلَمُ - فَسَلْهُ مَا يُبْكِيهِ؟» فَأتَاهُ جبريلُ فسأله، فَأخْبَرَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بِمَا قَالَ - وَهُوَ أعْلَمُ - فَقَالَ اللهُ
تَعَالَى: «يَا جِبريلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمّدٍ، فَقُلْ: إنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمّتِكَ وَلا نَسُوءكَ» . رواه مسلم.
قوله: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم (36) ] .
قال البيضاوي: فيه دليل على أنّ كل ذنب، فللَّه أن يغفره حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره.
وفي الحديث: كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته، واعتنائه بمصالحهم، واهتمامه بأمرهم.
وفيه: البشارة العظيمة لهذه الأمة، وهو من أرجى الأحاديث.
[426] وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الله عَلَى عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى الله؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: «فإنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أنْ يَعْبُدُوهُ، وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيئاً، وَحَقَّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيئاً» فقلتُ: يَا رَسُول الله، أفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال البخاري في كتاب الرقاق، باب: من جاهد نفسه في طاعة الله عزَّ وجل، وذكر الحديث بنحوه.
(1/289)
قال بعض العلماء: جهاد المرء نفسه، هو الجهاد الأكمل، وهو أربع مراتب: حملها على تعلم أمور الدين، ثم حملها على العمل بذلك، ثم حملها على تعليم من لا يعلم، ثم الدعاء إلى توحيد الله.
قال القرطبي: حق العباد على الله ما وعدهم به من الثواب والجزاء.
وقال ابن رجب: قال العلماء: يؤخذ من مَنْع معاذٍ من تبشير الناس لئلا ييتكلوا. أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس، لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادًا في العمل.
وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، وليس من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك.
[427] وعن البراءِ بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «المُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ في القَبْرِ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا الله وَأنّ مُحَمّداً رَسُول الله، فذلك قوله تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة} » [إبراهيم (27) ] . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: من دام على الشهادة في الدنيا يلقِّنه الله تعالى إياها في قبره.
[428] وعن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنّ الكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً، أُطعِمَ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا المُؤْمِنُ فَإنَّ الله يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ في الآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقاً في الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» .
(1/290)
وفي رواية: «إنَّ الله لا يَظْلِمُ مُؤْمِناً حَسنَةً يُعْطَى بِهَا في الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا في الآخِرَةِ. وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ للهِ تعالى في
الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أفْضَى إِلَى الآخرَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» . رواه مسلم.
يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى (20) ] .
وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل (97) ] .
[429] وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى بَابِ أحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْم خَمْسَ مَرَّات» . رواه مسلم.
«الغَمْرُ» : الكَثِيرُ.
شبه - صلى الله عليه وسلم - الدَّنَسَ المعنوي بالدنس الحسي، فكما أن الاغتسال كل يوم خمس مرات يذهب الوسخ، فكذلك الصلوات الخمس تذهب الذنوب. ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود (114، 115) ] .
[430] وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيقُومُ عَلَى جَنَازَتهِ أرْبَعونَ رَجُلاً لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيئاً، إلا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: الحث على تكثير عدد المصلين على الجنازة، رجاء أن يغفر الله للميت، بدعائهم وشفاعتهم.
(1/291)
[431] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في قُبَّة نَحْوَاً مِنْ أربَعِينَ رجلاً، فَقَالَ: «أتَرْضَونَ أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ؟» قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: «أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهلِ الجَنَّةِ؟» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بيَدِهِ، إنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الجَنَّةِ وذلك أنَّ الجنَّةَ لا يَدْخُلُهَا إلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، ومَا أنْتُم في أهْلِ الشِّركِ إلا كَالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ في جلدِ الثَّورِ الأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّودَاءِ في جلدِ الثَّورِ الأحْمَر» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأرجو» قال العلماء: كل رجاء جاء عن الله أو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كائن.
قال القرطبي: وهذه الطماعية قد حققت له بقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى (5) ] ، وبقوله: إنا سنرضيك في ... أمتك.
[432] وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ دَفَعَ اللهُ إِلَى كُلِّ مُسْلِم يَهُودياً أَوْ نَصْرانِياً، فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النَّارِ» .
وفي رواية عَنْهُ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ المُسْلِمينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَال الجِبَالِ يَغْفِرُهَا الله لَهُمْ» . رواه مسلم.
قوله: «دَفَعَ الله إِلَى كُلِّ مُسْلِم يَهُوديّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً، فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِن النَّارِ» مَعنَاهُ مَا جَاءَ في حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه -:
(1/292)
«لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْزلٌ في الجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ في النَّارِ، فَالمُؤْمِنُ إِذَا دَخَلَ الجَنَّةَ خَلَفَهُ الكَافِرُ في النَّارِ؛ لأنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ بِكفْرِهِ» ومعنى «فِكَاكُكَ» : أنَّكَ كُنْتَ معْرَّضاً لِدُخُولِ النَّارِ، وَهَذَا فِكَاكُكَ؛ لأنَّ الله تَعَالَى، قَدَّرَ للنَّارِ عَدَداً يَمْلَؤُهَا، فَإذَا دَخَلَهَا الكُفَّارُ بِذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، صَارُوا في مَعنَى الفِكَاك للمُسْلِمِينَ، والله أعلم.
معنى الحديث: أن الله تعالى يغفر ذنوب المسلمين، بفضله، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم، فيدخلهم النار بعملهم.
قال عمر بن عبد العزيز: هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين.
[433] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يُدْنَى المُؤْمِنُ يَوْمَ القِيَامَة مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيهِ، فَيُقَرِّرُهُ بذُنُوبِهِ، فيقولُ: أتعرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعرفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيقول: رَبِّ أعْرِفُ، قَالَ: فَإنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيا، وَأنَا أغْفِرُهَا لَكَ اليَومَ، فَيُعْطَى صَحيفَةَ حَسَنَاتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
«كَنَفَهُ» : سَتْرُهُ وَرَحْمَتُهُ.
هذا الحديث من أرجى الأحاديث لمن لم يجاهر بذنوبه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء (48) ] .
[434] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلاً أصَابَ مِن امْرَأة قُبْلَةً، فَأتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرَهُ، فَأنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
(1/293)
النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} [هود (114) ] فَقَالَ الرجل: أَليَ هَذَا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «لجميعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قوله: أنزل الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ} - كذا هو بحذف الواو، والتلاوة بإثباتها - وفي رواية: فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ} ... الآية.
قال ابن عباس: معناه الصلوات الخمس مكفرة الذنوب إذا اجتنبت الكبائر.
[435] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: جاء رجل إِلَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَصَبْتُ حَدّاً، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى مَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ، قَالَ: يَا رَسُول الله، إنِّي أصَبْتُ حَدّاً فَأقِمْ فيَّ كِتَابَ الله. قَالَ: «هَلْ حَضَرْتَ مَعَنَا الصَّلاةَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «قَدْ غُفِرَ لَكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وقوله: «أصَبْتُ حَدّاً» مَعنَاهُ: مَعْصِيَةً تُوجِبُ التَّعْزيرَ، وَلَيْسَ المُرَادُ الحدّ الشَّرعيَّ الحَقِيقيَّ كَحَدِّ الزِّنَا وَالخمر وَغَيرِهِمَا، فإنَّ هذِهِ الحُدودَ لا تَسْقُطُ بالصَّلاةِ، وَلا يَجُوزُ للإمَامِ تَرْكُهَا.
قال البخاري: باب إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه. وذكر الحديث بنحوه.
قال الحافظ: وقد اختلف نظر العلماء في هذا الحكم، فظاهر ترجمة البخاري حمله على من أقر بحد ولم يفسره، فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب.
وقال الخطابي: في هذا الحديث أنه لا يكشف عن الحدود بل يدفع، مهما أمكن، وقد استحب العلماء تلقينَ من أقرّ بموجب الحد بالرجوع عنه.
وجزم النووي وجماعة: أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر.
(1/294)
وقال صاحب (الهدي) : أصح المسالك فيه أن الحد يسقط بالتوبة. انتهى ملخصًا.
[436] وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لَيرْضَى عَنِ العَبْدِ أنْ يَأكُلَ الأَكْلَةَ، فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا» . رواه مسلم.
«الأَكْلَة» : بفتح الهمزة وهي المرةُ الواحدةُ مِنَ الأكلِ كَالغَدوَةِ وَالعَشْوَةِ، والله أعلم.
في هذا الحديث: غاية الكرم من المولى سبحانه وتعالى، أن يتفضل على عبده بالرزق، فإذا حمده رضي عنه.
[437] وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيلِ ليَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: أن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ليلاً ونهارًا ما لم يغرغره الموت، أو تطلع الشمس من مغربها. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام (158) ] .
[438] وعن أَبي نجيح عمرو بن عَبَسَة - بفتح العين والباءِ - السُّلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ وأنَا في الجاهِلِيَّةِ أظُنُّ أنَّ النَّاسَ
(1/295)
عَلَى ضَلاَلَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أخْبَاراً، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عَلَيهِ، فإِذَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَخْفِياً، جرَآءُ عَلَيهِ قَومُهُ، فَتَلَطَّفَتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أنْتَ؟ قَالَ: «أنا نَبيٌّ» قُلْتُ: وما نبيٌّ؟ قَالَ: «أرْسَلَنِي الله» قُلْتُ: وبأيِّ شَيْء أرْسَلَكَ؟ قَالَ: «أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأنْ يُوَحَّدَ اللهُ لا يُشْرَكُ بِهِ شَيْء» قُلْتُ له: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: «حُرٌّ وَعَبْدٌ» ومعه يَوْمَئذٍ أَبُو بكرٍ وبلالٌ رضي الله عنهما، قُلْتُ: إنّي مُتَّبِعُكَ، قَالَ: «إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ ذلِكَ يَومَكَ هَذَا، ألا تَرَى حَالي وحالَ النَّاسِ؟ وَلَكِنِ ارْجعْ إِلَى أهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بي قَدْ ظَهرْتُ فَأتِنِي» قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى أهْلِي وقَدِمَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة حَتَّى قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ أهْلِي المَدِينَةَ، فقلتُ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ المَدِينَةَ؟ فقالوا: النَّاس إلَيهِ سِرَاعٌ، وَقَدْ أرادَ قَومُهُ قَتْلَهُ، فلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذلِكَ، فقَدِمْتُ المدينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيهِ
فقلتُ: يَا رَسُول الله أَتَعْرِفُني؟ قَالَ: «نَعَمْ، أنْتَ الَّذِي لَقَيْتَنِي بمكّةَ» قَالَ: فقلتُ: يَا رَسُول الله، أخْبِرنِي عَمَّا عَلَّمَكَ الله وأَجْهَلُهُ، أخْبِرْنِي عَنِ الصَّلاَةِ؟ قَالَ: «صَلِّ صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ اقْصُرْ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، فَإنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيطَان، وَحينَئذٍ يَسجُدُ لَهَا الكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإنَّ الصَلاَةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بالرُّمْحِ، ثُمَّ اقْصُرْ عَنِ الصَّلاةِ، فَإنَّهُ حينئذ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فإذَا أقْبَلَ الفَيْءُ فَصَلِّ، فَإنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّي العصرَ، ثُمَّ اقْصرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فإنَّهَا تَغْرُبُ بينَ قَرْنَيْ شَيطانٍ، وَحِينَئذٍ يَسْجُدُ لَهَا الكُفّارُ» .
(1/296)
قَالَ: فقلتُ: يَا نَبيَّ الله، فالوضوءُ حدثني عَنْهُ؟ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءهُ، فَيَتَمَضْمَضُ وَيسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ، إلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه مِنْ أطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ المَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يديهِ إِلَى المِرفقَيْن، إلا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أنَامِلِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأسَهُ، إلا خرّتْ خطايا رأسِهِ من أطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يغسل قدميه إِلَى الكعْبَيْنِ، إلا خَرَّتْ خَطَايَا رِجلَيْهِ مِنْ أنَاملِهِ مَعَ الماءِ، فَإنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ الله تَعَالَى، وأثنى عَلَيهِ ومَجَّدَهُ بالَّذي هُوَ لَهُ أهْلٌ، وَفَرَّغَ قلبه للهِ تَعَالَى، إلا انْصَرفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كهيئته يَومَ وَلَدتهُ أُمُّهُ» .
فحدث عَمرُو بن عَبسَة بهذا الحديث أَبَا أُمَامَة صاحِب رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهُ أَبُو أُمَامَة: يَا عَمْرُو بنُ عَبسَة، انْظُر مَا تقولُ ‍! في مقامٍ واحدٍ يُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: يَا أَبَا أُمَامَة، لقد كَبرَتْ سِنّي، وَرَقَّ
عَظمِي، وَاقْتَرَبَ أجَلِي، وَمَا بِي حَاجَةٌ أنْ أكْذِبَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَلا عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، لَوْ لَمْ أسمعه مِنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَينِ أَوْ ثَلاثاً - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّات - مَا حَدَّثْتُ بِهِ أبداً، وَلكنِّي سمعتُهُ أكثَر من ذلِكَ. رواه مسلم.
قوله: «جُرَآءُ عَلَيهِ قَومُه» هُوَ بجيم مضمومة وبالمد عَلَى وزنِ عُلماءَ، أيْ: جَاسِرونَ مُستَطِيلُونَ غيرُ هائِبينَ، هذِهِ الرواية المشهورةُ، ورواه الحُمَيْدِيُّ وغيرُهُ «حِرَاءٌ» بكسر الحاء المهملة، وَقالَ: معناه غِضَابٌ ذَوُو غَمّ وهَمّ، قَدْ عِيلَ صَبرُهُمْ بِهِ، حَتَّى أثَّرَ في أجسامهم، من
(1/297)
قولِهِم: حَرَى جسمهُ يَحْرَى، إِذَا نَقَصَ مِنْ ألمٍ أَوْ غَمٍّ ونحوهِ، والصَّحيحُ أنَّهُ بالجيمِ.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَ قَرنَيْ شيطان» أيْ ناحيتي رأسِهِ والمرادُ التَّمْثيلُ، وَمعْنَاهُ: أنه حينئذٍ يَتَحرَّكُ الشَّيطَانُ وَشيعَتُهُ، وَيتَسَلَّطُونَ.
وقوله: «يُقَرِّبُ وَضوءهُ» معناه يُحضِرُ الماءَ الَّذِي يَتَوضّأ بِهِ، وقوله: «إلا خَرَّت خطايا» هُوَ بالخاءِ المعجمة: أيْ سقطت، ورواه بعضُهم ... «جَرَت» بالجيم، والصحيح بالخاءِ وَهُوَ رواية الجمهور. وقوله: «فينْتَثرُ» أيْ يَستخرجُ مَا في أنفهِ مِنْ أذىً والنَّثْرَةُ: طَرَفُ الأنْفِ.
في هذا الحديث: الحث على صلة الأرحام لأن الله تعالى قرنها بالتوحيد.
وفيه: مشروعية الصلاة في كل وقت، إلا أوقات النهي.
وفيه: فضل إسباغ الوضوء، وأنّ من صلَّى صلاة لا يحدث فيها نفسه غفرت له ذنوبه.
[439] وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا أرادَ الله تَعَالَى رَحمةَ أُمَّةٍ، قَبَضَ نَبيَّهَا قَبْلَها، فَجعلهُ لَهَا فَرطاً وسلَفاً بَيْنَ يَديْهَا، وإذَا أرادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ، عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ، فَأهلكَها وَهُوَ يَنظُرُ، فَأقرّ عَينَهُ بهلاكِها حِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوا أمْرَهُ» . رواه مسلم.
قد وعد الله الصابرين على المصائب بالأجور. قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ... [البقرة (155 - 157) ] .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته فِيَّ» . وبالله التوفيق.
(1/298)
52- باب فضل الرجاء
قَالَ الله تَعَالَى إخباراً عن العبدِ الصالِحِ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلى اللهِ إنَّ اللهَ بَصِيرٌ بالعِبَادِ فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر (44، 45) ] .
يُخبر تعالى عن مؤمن آل فرعون حين دعاهم إلى التوحيد، وتصديق موسى، ونهاهم عن الشرك، فتوعَّدوه أنَّه قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر (44) ] . أي: وأتوكل عليه، وأستعين، فيعصمني عن كل سوء، {إن اله بصير بالعباد} ، فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} ، ما أرادوا به من الشر.
قال قتادة: نجا مع موسى وكان قبطيًّا.
[440] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ الله - عز وجل -: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنا معه حَيْثُ يَذْكُرنِي، وَاللهِ، للهُ أفْرَحُ بِتَوبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بالفَلاَةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْراً، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِذَا أقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ» متفقٌ عليه، وهذا لفظ إحدى روايات مسلم. وتقدم شرحه في الباب قبله.
ورُوِيَ في الصحيحين: «وأنا معه حين يذكرني» بالنون، وفي هذه الرواية «حيث» بالثاء وكلاهما صحيح.
قوله عزَّ وجل: «أنا عند ظن عبدي بي» ، أي في الرجاء، وأمل العفو، «وأنا معه» ، أي: بالرحمة، والتوفيق، والإِعانة، والنصر، ... «حيث ذكرني في نفسه أو في الملأ» .
(1/299)
وفي الحديث: لطف الله بعباده، وفرحه بتوبتهم، وأن من تقرب إليه بطاعته، تقرب إليه بإحسانه، وفضله، وجزائه المضاعف.
[441] وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ مَوْتِه بثَلاثَةِ أيّام، يقولُ: «لا يَمُوتَنّ أحَدُكُمْ إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله - عز وجل -» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: الحث على حسن الظن بالله تعالى، والتحذير من القنوط خصوصًا عند الخاتمة، قال الله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ} [آل عمران (102) ] ، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - في مرض موته:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... ?? ... جعلت الرجَاء مني لعفوك سُلَّما ... ???
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... ? ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما ... ??
[442] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قَالَ الله تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغت ذُنُوبُك عَنَانَ السماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايا، ثُمَّ لَقَيْتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً، لأَتَيْتُكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
«عَنَانُ السَّماءِ» بفتح العين، قيل: هو مَا عَنَّ لَكَ مِنْهَا، أيْ: ظَهَرَ إِذَا رَفَعْتَ رَأسَكَ، وقيل: هو السَّحَابُ. وَ «قُرابُ الأَرض» بضم القاف، وقيل: بكسرها، والضم أصح وأشهر، وَهُوَ: مَا يقارب مِلأَهَا، والله أعلم.
(1/300)
في هذا الحديث: بشارة عظيمة، وحلم، وكرم عظيم.
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وأسواقكم، ومجالسكم، وأينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.
وقال قتادة: إن هذا القرآن يدّلكم على دائكم ودوائكم، فأمَّا داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار.
قال بعضهم:
أستغفر الله مما يعلمُ اللهُ ... ?? ... إِنَّ الشقيَّ لَمن لا يرحمُ اللهُ ... ???
مَا أحلمَ الله عمن لا يراقبه ... ?? ... كلٌّ مسيء ولكن يحلم اللهُ ... ??
فاستغفر الله مما كان من زلل ... ?? ... طوبى لِمَنْ كف عما يكره اللهُ ... ???
طوبى لِمَن حسنت منه سريرته ... ?? ... طوبى لِمَنْ ينتهي عما نهى الله ... ??
53- باب الجمع بين الخوف والرجاء
اعْلَمْ أنَّ المُخْتَارَ لِلْعَبْدِ في حَالِ صِحَّتِهِ أنْ يَكُونَ خَائفاً رَاجِياً، وَيَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ سَواءً، وفي حَالِ المَرَضِ يَتَمَحَّضُ الرَّجاءُ، وقواعِدُ الشَّرْع مِنْ الكِتَابِ والسُّنَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مُتظاهِرَةٌ عَلَى ذلك.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَلا يَأمَنُ مَكْرَ الله إلا القَوْمُ الخَاسِرونَ} [الأعراف (99) ] .
وقال تَعَالَى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إلا القَوْمُ الكافِرُونَ} [يوسف (87) ] .
الخوف يزجر العبد عن المعاصي، والرجاء يبعثه على الطاعات فلا يأمن العقوبة، ولا يقنط من الرحمة.
(1/301)
وقال تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ} [آل عمران (106) ] .
أي: تبيض وجوه المؤمنين يوم القيامة، وتسوّد وجوه الكافرين.
وقال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنَّة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة.
وقال تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام (165) ] .
في هذا ترهيب وترغيب، وكل ما هو آت قريب.
وقال تَعَالَى: {إنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار (13، 14) ] .
الأبرار: الذين برُّوا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله، واجتناب معاصيه، والفجار بضدِّ ذلك.
وقال تَعَالَى: {فَأمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة (6، 9) ] .
أي: من رجحت حسناته على سيِّئاته فهو من أهل الجنة، ومن رجحت سيِّئاته على حسناته فهو من أهل النار.
والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ معلومة. فَيَجْتَمعُ الخَوفُ والرجاءُ في آيَتَيْنِ مُقْتَرِنَتَيْنِ أَو آيات أَو آية.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر (23) ] .
(1/302)
[443] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤمِنُ مَا عِنْدَ الله مِنَ العُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ الله مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أحَدٌ» . رواه مسلم.
يشهد لهذا الحديث: قوله تعالى: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف (156) ] الآية.
[444] وعن أَبي سعيد الخدرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا وُضِعَتِ الجنازةُ واحْتَمَلَهَا النَّاسُ أَوِ الرِّجَالُ عَلَى أعناقِهِمْ، فَإنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قالتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وَإنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قالتْ: يَا وَيْلَهَا! أَيْنَ يَذْهَبُونَ بها؟ يَسْمَعُ صَوْتَها كُلُّ شَيْءٍ إلا الإنْسانُ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ» . رواه البخاري.
قولها: «قدموني قدموني» ، هو اشتياق إلى ما أعده الله للمؤمن من نعيم القبر وما بعده، وقول الآخر: (يَا ويلها، أين يذهبون بها» ، هو جزع وتحسر من الفاجر، ورهبة مما أُعد له من عذاب القبر وما بعده.
[445] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجَنَّةُ أقْرَبُ إِلى أحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذلك» . رواه البخاري.
فيه: أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقربة إلى النار.
وفي الحديث الآخر: «إن الرجل يتكلم بالكلمة ما يظن أنْ يبلغ ما بلغت،
(1/303)
يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار» . فينبغي للمؤمن أن لا يزهد في القليل من الخير بالفعل والقول، وأن يجتنب الشر قليله وكثيره.
54- باب فضل البكاء من خشية الله تَعَالَى وشوقاً إِليه
قَالَ الله تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء (109) ] .
أي: يزيدهم سماع القرآن إيمانًا وخضوعًا لله عزَّ وجلّ، كما قال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم (58) ] .
وفي الحديث: «حُرَّمت النار على ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله» .
وقال تَعَالَى: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} [النجم (59، 60) ] .
يخبر تعالى عن المشركين أنهم ينكرون القرآن، ويستهزؤون به، ولا يبكون، بخلاف المؤمنين، فإنهم إذا سمعوا القرآن زادهم إيمانًا واقشعرت جلودهم، ولانت قلوبهم، وبكوا لما فيه من الوعد والوعيد.
[446] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَأْ عليَّ القُرْآنَ» قلت: يَا رسول اللهِ، أقرأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: «إِنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيرِي» . فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سورةَ النِّسَاءِ، حَتَّى جِئْتُ إِلى
هذِهِ الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنَا بِكَ
(1/304)
عَلَى هؤُلاءِ شَهيداً} [النساء (41) ] قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» . فَالَتَفَتُّ إِلَيْهِ فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفَان. متفقٌ عَلَيْهِ.
قال البخاري: باب البكاء عند القرآن، وأورد الحديث.
قال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشعار الصالحين.
قال الحافظ: بكى - صلى الله عليه وسلم - رحمة لأمته، لأنه علم أنه لا بد أن يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيمًا فقد يفضي إلى تعذيبهم، والله أعلم.
وفي الحديث: استحباب عرض القرآن على الغير، وجواز الأمر بقطع القرآن للمصلحة.
[447] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فقال: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَليلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً» قَالَ: فَغَطَّى أصْحَابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وُجُوهَهُمْ، وَلَهُمْ خَنِينٌ. متفقٌ عَلَيْهِ. وَسَبقَ بَيَانُهُ في بَابِ الخَوْفِ.
في هذا الحديث: بيان أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر (28) ] .
[448] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في
سبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
في هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله تعالى، لأن الخشية تحمله على
(1/305)
امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فلا يدخلها بوعده الصادق إلا تحلة القسم.
[449] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إنِّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُه مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً ففاضت عَيْنَاهُ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
[450] وعن عبد الله بن الشِّخِّير - رضي الله عنه - قَالَ: أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي ولِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ.
حديث صحيح رواه أَبو داود والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح.
في هذا الحديث: دليل على كمال خوفه - صلى الله عليه وسلم -، وخشيته لربه، وذلك ناشئ عن عظيم الرهبة والإِجلال لله سبحانه وتعالى.
[451] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبَي بن كعب - رضي الله عنه - «إنَّ الله - عز وجل - أَمَرَنِي أنْ أقْرَأَ عَلَيْكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَروا ... } قَالَ: وَسَمَّانِي لك؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَبَكَى أُبَيٌّ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية: فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي.
(1/306)
بكاء أُبَيّ رضي الله عنه فرحًا، وخشوعًا، وخوفًا من التقصير، واستحقارًا لنفسه، قيل: الحكمة في تخصيصها بالذكر لأن فيها {يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} ، وفي تخصيص أُبَيّ التنويه به في أنه أقرأ الصحابة.
وقال ابن كثير: قرأها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة إبلاغ، وتثبيت، وإنذار، لا قراءة تعلم واستذكار، كما قرأ على عمر بن الخطاب سورة الفتح يوم الحديبية.
[452] وعنه قَالَ: قَالَ أَبو بكر لِعُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انْطَلِقْ بِنَا إِلى أُمِّ أيْمَنَ رضي الله عنها نَزورُهَا، كَمَا كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَزُورُها، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فقالا لها: مَا يُبْكِيكِ؟ أمَا تَعْلَمِينَ أنَّ مَا عِنْدَ الله تَعَالَى خَيرٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -! قالت: إني لا أبكي أني لا أَعْلَمُ أنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلكِنِّي أبكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَد انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَهَيَّجَتْهُما عَلَى البُكَاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا. رواه مسلم، وقد سبق في بابِ زِيارَةِ أهلِ الخَيْرِ.
أم أيمن مولاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أم أسامة بن زيد.
وفي الحديث: جواز البكاء حزنًا على فراق الصالحين، وفقد العلم.
[453] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ، قِيلَ له في الصَّلاَةِ، فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» . فقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ غَلَبَهُ البُكَاءُ، فقال: «مُرُوهُ فَليُصَلِّ» .
وفي رواية عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: إنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
(1/307)
فيه: دليل على استحباب البكاء عند قراءة القرآن، قال الله تعالى: ... {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال (2) ] .
[454] وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أنَّ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أُتِيَ بطعام وكان صائِماً، فقال: قُتِلَ مُصْعَبُ بن عُمَيْر - رضي الله عنه - وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يوجَدْ له مَا يُكَفَّنُ فيهِ إلا بُرْدَةٌ إنْ غُطِّيَ بِهَا رَأسُهُ بَدَتْ رِجْلاهُ؛ وَإنْ غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ بَدَا رَأسُهُ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ - أَو قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا - قَدْ خَشِينا أنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبكِي حَتَّى تَرَكَ الطعَام. رواه البخاري.
هذا البكاء من مزيد خوفه من الله تعالى، وشدة خشيته، وعدم نظره إلى عمله.
[455] وعن أَبي أُمَامَة صُدَيِّ بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أحَبَّ إِلى اللهِ تَعَالَى مِنْ قطْرَتَيْنِ وَأثَرَيْنِ: قَطَرَةُ دُمُوع مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَقَطَرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ في سَبيلِ اللهِ. وَأَمَّا الأَثَرَانِ: فَأَثَرٌ في ... سَبيلِ اللهِ تَعَالَى، وَأَثَرٌ في فَريضةٍ مِنْ فَرائِضِ الله تَعَالَى» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
في هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله، والجهاد في سبيل الله، وكثرة الخطا إلى المساجد.
وفي الباب أحاديث كثيرة منها:
(1/308)
[456] حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قَالَ: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَوعظةً وَجلَتْ منها القُلُوبُ، وذرِفت منها الْعُيُونُ. وقد سبق في باب النهي عن البدع.
لفظ الحديث: «وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإِنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإِياكم ومحدثات الأمور، فإِن كل محدثة بدعة» .
55- باب فضل الزهد في الدنيا
والحث عَلَى التقلل منها، وفضل الفقر
قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس (24) ] .
أصل الزهد الرضا عن الله عزَّ وجلّ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنَّعه الله بم أتاه» .
وسُئل الزهري عن الزاهد، فقال: من لم يغلب الحرام صبره، ومن لم يشغل الحلال شكره.
وهذه الآية مثلٌ ضَرَبَهُ الله تعالى لزينة الدنيا، وسرعة زوالها، وفنائها.
وقال تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
(1/309)
فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الْدُّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف (45، 46) ] .
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: المال والبنون حرث الدنيا، والأعمال الصالحاتُ حرثُ الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوام.
وقال تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله ورِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الغُرُورِ} [الحديد (20) ] .
الكفار أشد إعجابًا بزهرة الدنيا، وأما المؤمن فإذا رأى معجبًا انتقل فكره إلى قدره الله، وعلم أنه زائل، وقال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
وقوله تعالى: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران (185) ] ، أي: كمتاع يدلس به على المستام فيُغَر ويشتريه، فمن اغترَّ بها وآثرها فهو مغرور.
وقال تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلْنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَياةِ الْدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ} [آل عمران (14) ] .
في هذه الآية تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.
وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الْدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} [فاطر (5) ] .
أي: لا يذهلكم التمتع بالدنيا عن طلب الآخرة، والسعي لها، ولا يغرنكم الشيطان بأن يمنِّيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية.
(1/310)
قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف (169) .
وقال تَعَالَى: {ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ * كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر (1: 5) ] .
أي: لو تعلمون علمًا يقينًا لما ألهاكم شيء عن طلب الآخرة، حتى صرتم إلى المقابر.
وقال تَعَالَى: {وَمَا هذِهِ الحَياةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت (64) ] .
أي: لو كانوا يعلمون لم يؤثروا الدنيا على الآخرة، التي هي الحياة الحقيقة الدائمة، فإن الدنيا سريعة الزوال، ونعيمها لهو ولعب، كما يبتهج به الصبيان ساعة، ثم يتفرَّقون عنه لاغيين متعبين.
والآيات في الباب كثيرة مشهورة.
وأما الأحاديث فأكثر مِنْ أن تحصر فننبِّهُ بطرف منها عَلَى مَا سواه.
[457] عن عمرو بن عوف الأنصاري - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا عبيدة بنَ الجَرَّاح - رضي الله عنه - إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأتِي بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بقُدُومِ أَبي عُبيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا صَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، انْصَرفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أظُنُّكُمْ سَمعتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟» فقالوا: أجل،
(1/311)
يَا رسول الله، فقال: «أبْشِرُوا وَأَمِّلْوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوالله مَا الفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكِنِّي أخْشَى عليكم أنْ تُبْسَط
الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
بلاد البحرين: بين البصرة وهَجَرْ، وسميت (البحرين) ، لاجتماع البحر العذب والملح فيها، فإن الماء العذب تحت البحر، فإذا حفر الحاجز بينهما نبع العذب وارتفع.
قوله: فتنافسوها كما تنافسوها. التنافس أول درجات الحسد.
وفي رواية عند مسلم: «تنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون» .
قال ابن بطال: فيه: أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها.
[458] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: جلس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فقال: «إنَّ ممَّا أخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا» . متفقٌ عَلَيْهِ.
زهرة الدنيا: زينتها وبهجتها.
قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه (131) ] .
[459] وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ
(1/312)
وَإنَّ الله تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ» . رواه مسلم.
قوله: «خضرة حلوة» ، أي: جامعة بين الوصفين المحبوبين للبصر والذوق، كالفاكهة.
وفي الحديث: التحذير من فتنة المال، وفتنة النساء.
[460] وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلا عَيْشَ الآخِرَةِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
هذا الكلام قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشد أحواله، لما رأى تعب أصحابه في حفر الخندق، وقاله في أسرِّ الأحوال أيضًا لما رأى كثرة المؤمنين في يوم عرفة، لبيك إن العيش عيش الآخر، أي الحياة الدائمة التي لا حزن فيها ولا تعب.
[461] وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ: أهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ: فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى معه وَاحِدٌ: يَرْجِعُ أهْلُهُ وَمَالُهُ وَيبْقَى ... عَمَلُهُ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
الغالب أنّ المرء إذا مات تبعه أهله، وما احتيج إليه من ماله في تجهيزه، وإذا دفن رجعوا ودخل عمله معه في قبره، كما في حديث البراء. «ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح» . الحديث.
[462] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُؤْتَى بِأنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيَا مِنْ
(1/313)
أهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ خَيْراً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأشَدِّ النَّاسِ بُؤسَاً في الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فَيُقَالُ
لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ بُؤساً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقُولُ: لا وَاللهِ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلا رَأيْتُ شِدَّةً قَطُّ» . رواه مسلم.
فيه: أن عذاب الآخرة ينسي نعيم الدنيا، وأن نعيم الآخرة ينسي شدَّة الدنيا.
قال الله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون (112: 114) ] .
وقال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر (34، 35) ] .
[463] وعن المُسْتَوْرِد بن شَدَّاد - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا الدُّنْيَا في الآخِرَةِ إلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ!» . رواه مسلم.
مثَّل - صلى الله عليه وسلم - زمان الدنيا في جانب زمان الآخرة، ونعيمها بنسبة الماء الملاصق بالأصبع إلى البحر، قال الله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ} [التوبة (38) ] .
[464] وعن جابر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بالسُّوقِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ:
(1/314)
«أَيُّكُم يُحِبُّ أنْ هَذَا لَهُ بِدرْهَم؟» فقالوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ ثُمَّ قَالَ:
«أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيّاً كَانَ عَيْباً، أنَّهُ أسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ ميِّتٌ! فقال: «فوَاللهِ للدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» . رواه مسلم.
قوله: «كَنَفَتَيْهِ» أيْ: عن جانبيه. وَ «الأَسَكُّ» : الصغير الأذُن.
فيه: أن الدنيا عند الله أذل وأحقر من التيس الصغير الأصمع الميت عند الناس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه وعالمًا ومتعلمًا» .
[465] وعن أَبي ذر - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في حَرَّةٍ ... بِالمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ» قلت: لَبَّيْكَ يَا رسولَ الله. فقال: «مَا يَسُرُّنِي أنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَباً تَمْضي عَلَيَّ ثَلاَثَةُ أيّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إلا شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إلا أنْ أقُولَ بِهِ في عِبَادِ الله هكذا وَهَكَذَا وَهكَذَا» عن يَمِينِهِ وعن شِمَالِهِ وَعَنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ سَارَ، فقال: «إنَّ الأَكْثَرينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إلا مَنْ قَالَ بالمَالِ هكَذَا وَهكَذَا وَهكَذَا» عن يمينِهِ وعن شِمَالِهِ وِمنْ خَلْفِهِ «وَقَلِيلٌ مَا هُمُ» . ثُمَّ قَالَ لي: «مَكَانَكَ لا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ» ثُمَّ انْطَلَقَ في سَوادِ
(1/315)
اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى، فَسَمِعْتُ صَوتاً، قَدِ ارْتَفَع، فَتَخَوَّفْتُ أنْ يَكُونَ أحَدٌ عَرَضَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأرَدْتُ أنْ آتِيهِ فَذَكَرتُ قَوْله: «لا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ» فلم أبْرَحْ حَتَّى أتَاني، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوتاً تَخَوَّفْتُ مِنْهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ، فقال: «وَهَلْ سَمِعْتَهُ؟» قلت: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ جِبريلُ أتَانِي. فقال: مَنْ
مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ» ، قلت: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ» . متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ البخاري.
اشتمل هذا الحديث: على فوائد كثيرة، وقواعد عظيمة.
وفيه: البشارة بعدم خلود المسلم في النار وإن عمل الكبائر، فإن تاب منها في الدنيا لم يدخل النار إلا تحلة القسم، وإن لم يتب فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه. قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء (116) ] .
[466] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَباً، لَسَرَّنِي أنْ لا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثُ لَيالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إلا شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
[467] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ» . متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية البخاري: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَل مِنْهُ» .
هذا الحديث: جامع لمعاني الخير.
وفيه: دواء كل داء من الحسد وغيره.
(1/316)
وفي الحديث الآخر: «رحم الله عبدًا نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله وشكره، وفي دينه إلى من هو فوقه، فجد واجتهد» .
وعن عمرو بن شعيب مرفوعًا: «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا: من نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضَّله به، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، وأما من نظر في دنياه إلى من هو فوقه وآسف على ما فاته، فإنه لا يكتب شاكرًا ولا صابرًا» .
قال بعض السلف: صاحبت الأغنياء فكنت لا أزال في حزن، فصحبت الفقراء فاسترحت.
وفي حديث مرفوع: «أقلوا الدخول على الأغنياء، فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله» .
[468] وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: ذم الحرص على الدنيا، حتى يكون عبدًا لها، رضاه وسخطه لأجلها.
[469] وعنه - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ سَبعِينَ مِنْ أهْلِ الصُّفَّةِ، مَا منهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ: إمَّا إزارٌ، وَإمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوها في
(1/317)
أعنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَراهِيَةَ أنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. رواه البخاري.
في هذا الحديث: أن الدنيا لو كانت مكرَّمة عند الله، لخصَّ أصفياءه بِهَا، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.
[470] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ» . رواه مسلم.
معنى ذلك: أن الدنيا سجن المؤمن بالنسبة إلى ما أعد له من النعيم، وجنة الكافر بالنسبة إِلى ما أعد له من العذاب وأيضًا فإن المؤمن ممنوع من الشهوات المحرمة، والكافر منهمك فيها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حُفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» .
وعن أبي سهل الصعلوكي الفقيه، وكان ممن جمع رياسة الدين والدنيا، أنه كان في بعض مواكبه إذْ خرج عليه يهودي، بثياب دنسة، فقال: ألستم تزعمون أن نبيكم قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . وأنا كافر وترى حالي، وأنت مؤمن وترى حالك، فقال له: إذا صرت غدًا إلى عذاب الله كانت هذه جنتك، وإذا صرت أنا إلى النعيم، ورضوان الله صار هذا سجني، فعجب الناس من فهمه وسرعة جوابه.
[471] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبَيَّ، فقال: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبيلٍ» .
وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، يقول: إِذَا أمْسَيتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه البخاري.
قالوا في شَرْحِ هَذَا الحديث معناه: لا تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا وَلا تَتَّخِذْهَا
(1/318)
وَطَناً، وَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِطُولِ البَقَاءِ فِيهَا، وَلا بِالاعْتِنَاءِ بِهَا، وَلا تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إلا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَريبُ في غَيْرِ وَطَنِهِ، وَلا تَشْتَغِلْ فِيهَا بِمَا لا يَشْتَغِلُ بِهِ الغَرِيبُ الَّذِي يُريدُ الذَّهَابَ إِلَى أهْلِهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.
في هذا الحديث: الحضُّ على تقصير الأمل، والمبادرة إلى العمل، وترك التراخي والكسل.
في الحديث الآخر: «اغتنم خمسًا فبل خمس شبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك.
[472] وعن أَبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يَا رسولَ الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أحَبَّنِي اللهُ وَأحَبَّنِي النَّاسُ، فقال: «ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبّك اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبّك النَّاسُ» . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.
اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين فإذا عمل بهما أحبه الله وأحبه الناس.
والزهد: هو القناعة بما أعطاك الله، والتعفف عن أموال الناس، وكان عمر يقول على المنبر: إنَّ الطمع فقر وإنَّ اليأس غنى.
وقال أيوب السختياني: لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان، العفة عما
(1/319)
في أي الناس، والتجاوز عما يكون منهم.
وفي الحديث المرفوع: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» .
وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... ?? ... عليها كلاب هَمُّهُن اجتذابها ... ???
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها ... ?? ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها ... ??
[473] وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأ بِهِ بَطْنَهُ. رواه مسلم.
«الدَّقَلُ» بفتح الدَّال المهملة والقاف: رديءُ التمرِ.
فيه: زهده - صلى الله عليه وسلم - وصبره، وحقارة الدنيا عنده، فإن الله تعالى خيره في أنْ يكون ملكًا نبيًا أو عبدًا نبيًا فاختار أن يكون عبدًا، وقال: «يا رب، أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا جعت سألتك، وإذا شبعت شكرتك» .
[474] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا في بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إلا شَطْرُ شَعِيرٍ في رَفٍّ لي، فَأكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
قولها: «شَطْرُ شَعير» أيْ: شَيْءٌ مِنْ شَعير،، كَذَا فَسَّرَهُ التُرْمذيُّ.
في هذا الحديث: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا، وعدم النظر إليها.
(1/320)
وفيه: استحباب عدم كيل القوت توكلاً على الله، وثقة به فإن تكثير الطعام القليل من أسرار الله الخفية، ولا يخالف هذا الحديث: «كيِّلوا طعامكم يبارك لكم فيه» .
قال الحافظ: الكيل عند المبايعة محبوب من أجل تعلق حق المتبايعين وأما الكيل عند الإنفاق فالباعث عليه الشح؛ فلذا كُرِه.
[475] وعن عمرو بن الحارث أخي جُوَيْرِيّة بنتِ الحارِث أُمِّ المُؤْمِنِينَ، رضي الله عنهما، قَالَ: مَا تَرَكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ مَوْتِهِ دِيناراً، وَلا دِرْهَماً، وَلا عَبْداً، وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئاً إلا بَغْلَتَهُ الْبَيضَاءَ الَّتي كَانَ يَرْكَبُهَا، وَسِلاَحَهُ، وَأرْضاً جَعَلَهَا لاِبْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً. رواه البخاري.
فيه: أن الإماء والعبيد الذين ملكهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته لم يبقوا على ملكه بعد وفاته، فمنهم من أعتقه، ومنهم من مات قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - وقد قال ... النبي - صلى الله عليه وسلم - «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» .
[476] وعن خَبابِ بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى، فَوَقَعَ أجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأكُل منْ أجْرِهِ شَيْئاً، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ - رضي الله عنه -، قُتِلَ يَوْمَ أُحُد، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ، بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ، بَدَا رَأسُهُ
، فَأمَرَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنْ نُغَطِّي رَأسَهُ،
(1/321)
وَنَجْعَل عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئاً مِنَ الإذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا. متفقٌ عَلَيْهِ.
«النَّمِرَةُ» : كِساءٌ مُلَوَّنٌ مِنْ صوف. وَقَوْلُه: «أيْنَعَتْ» أيْ: نَضِجَتْ وَأَدْرَكَتْ. وَقَوْلُه: «يَهْدِبها» هُوَ بفتح الياءِ وضم الدال وكسرها لغتان: أيْ: يَقْطُفهَا وَيَجْتَنِيهَا، وهذه استعارة لما فتح الله تَعَالَى عليهم من الدنيا وتمكنوا فِيهَا.
في هذا الحديث: ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم.
وفيه: أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار.
وفيه: أن الكفن يكون ساترًا لجميع البدن.
[477] وعن سهلِ بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
فيه: حقارة الدنيا عند الله تعالى، ولهذا ملَّكها تعالى في الغالب للكفار والفساق لهوانهم عليه، وحَمَى منها في الغالب الأنبياء والصالحين لئلا تُدَنَّسَهُم.
[478] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «أَلا إنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إلا ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَمَا وَالاهُ، وَعالِماً وَمُتَعَلِّماً» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
فيه: ذم ما أشغل من الدنيا عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون (9) ] ، وأما ما أعان على طاعة الله من الدنيا فليس بمذموم، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء
(1/322)
الزَّكَاةِ} [النور (37) ] ، وفي حديث مرفوع: «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر» .
[479] وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا في الدُّنْيَا» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
الضيعة: العقار الذي يحتاج إلى عمل، والمراد لا تتوغلوا في ذلك فترغبوا عن صلاح آخرتكم وتشتغلوا في طلب الدنيا فلا تشبعوا منها.
[480] وعن عبدِ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ عَلَيْنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نعالِجُ خُصّاً لَنَا، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقُلْنَا: قَدْ وَهَى، فَنَحَنُ نُصْلِحُهُ، فَقَالَ: «مَا أرَى الأَمْرَ إلا أعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ» .
رواه أَبو داود والترمذي بإسناد البخاري ومسلم، وقال الترمذي: ... (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
الخُصُّ: بيت يعمل من القصب ونحوه.
وفيه: شاهد لحديث ابن عمر: «إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح» .
[481] وعن كعب بن عياض - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول
(1/323)
الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتِي: المَالُ» . رواه الترمذي، وقال: ... (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
قوله: «فتنة» ، أي: ابتلاء واختبار. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء (35) ] ، وقال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال (28) ] .
[482] وعن أَبي عمرو، ويقالُ: أَبو عبدِ الله، ويقالُ: أَبو ليلى عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ لاِبْنِ آدَمَ حَقٌّ في سِوَى هذِهِ الخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الخُبز وَالماء» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» .
قَالَ الترمذي: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُد سُلَيْمَانَ بنَ سَالمٍ البَلْخيَّ، يقولُ: سَمِعْتُ النَّضْرَ بْن شُمَيْل، يقولُ: الجِلْفُ: الخُبْز لَيْسَ مَعَهُ إدَامٌ، وقال غَيْرُهُ: هُوَ غَليظُ الخُبُزِ. وقَالَ الهَرَوِيُّ: المُرادُ بِهِ هنَا وِعَاءُ الخُبزِ، كَالجَوَالِقِ وَالخُرْجِ، والله أعلم.
الحق هنا: ما يستحقه الإِنسان لاحتياجه إليه في كُنه من الحر والبرد، وستر بدنه، وسد جوعته، وما سوى ذلك فهو من حظوظ النفس لا من حقوقها.
قال بعض الزهاد:
لَقِرْص شعير ثافل غير مالح ... ?? ... بغير إدام والذي خلق النجوى ... ???
مع العزِّ في بيتي وطاعة خالقي ... ?? ... ألذُّ على قلبي من المنِّ والسلوى ... ??
[483] وعن عبدِ الله بن الشِّخِّيرِ - بكسر الشينِ والخاء المشددة المعجمتين - رضي الله عنه -، أنه قَالَ: أتَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمُ
(1/324)
التَّكَاثُرُ} قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مالي، وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إلا مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» ؟! . رواه مسلم.
أي ليس لك من مالك إلا ما انتفعت به في دنياك، بأكل أو لبس أو ادخرته لآخرتك، وما سوى ذلك فهو لورثتك.
قال بعض السلف: اجعل ما عندك ذخيرة لك عند الله، واجعل الله ذخيرة لأولادك.
[484] وعن عبدِ الله بن مُغَفَّل - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
يَا رسولَ الله، وَاللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ، فَقَالَ له: «انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ؟» قَالَ: وَاللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ، ثَلاَثَ مَرَّات، فَقَالَ: «إنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافاً، فإنَّ الفَقْرَ أسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّني مِنَ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
«التجفافُ» بكسرِ التاءِ المثناةِ فوقُ وَإسكانِ الجيمِ وبالفاءِ المكررة: وَهُوَ شَيْءٌ يُلْبَسُهُ الفَرَسُ، لِيُتَّقَى بِهِ الأَذَى، وَقَدْ يَلْبَسُهُ الإنْسَانُ.
لما كان - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس في الدنيا، كان المحب التابع له متّصف بذلك لقوة الرغبة، وصدق المحبة فالمرء مع من أحب، ومولى قوم منهم في العسر واليسر
فمن أحب أن يكون معهم في نعيم الآخرة فليصبر كما صبروا في الدنيا. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران (142) ] .
[485] وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بِأفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى
(1/325)
المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينهِ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
فيه: الحذر من الحرص على المال والشرف، فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة، ورزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإِمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» .
[486] وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: نَامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَصيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أثَّرَ في جَنْبِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً. فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
فيه: الإِرشاد إلى ترك الاهتمام بِعَمارة الدنيا، والحث على الاعتناء بعمارة منازل الآخرة، وأن الدنيا دار عبور إلى دار الحبور.
[487] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يدْخُلُ الفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمئَةِ عَامٍ» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» .
فيه: فضل الفقير الصابر على الغني الشاكر، لأن الأغنياء يحبسون للحساب.
[488] وعن ابن عباس وعِمْرَانَ بن الحُصَيْنِ - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ... «اطَّلَعْتُ في الجَنَّةِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا الفُقَرَاءَ،
(1/326)
وَاطَّلَعْتُ في النَّارِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ» . متفقٌ عَلَيْهِ من رواية ابن عباس، ورواه البخاري أيضاً من رواية عِمْرَان بن الحُصَيْن.
فيه: التحريض على ترك التوسع في الدنيا.
وفيه: التحريض للنساء على المحافظة على أمر الدين ليسلمن من النار.
[489] وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ، وَأصْحَابُ الجَدِّ مَحبُوسُونَ، غَيْرَ أنَّ أصْحَابِ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِم إِلَى النَّارِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
وَ «الجَدُّ» : الحَظُّ والغِنَى. وقد سبق بيان هَذَا الحديث في باب فَضْلِ الضَّعفَة.
أصحاب النار هنا: هم الخالدون فيها، وهم الكفار، قال الله تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} [الليل (15) ] ، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر (71) ] ، وقال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن (55) ] .
[490] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
يشهد لهذا البيت قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص (88) ] ، كان لبيد من فحول شعراء الجاهلية، وهو من هوازان، وَفَدَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1/327)
فأسلم، وحسن إسلامه، وكان من المعمرين، عاش فوق مئة سنة، وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام، ولم يقل شعرًا بعد إسلامه، وكان يقول: أبدلني الله به القرآن إلا بيتًا واحدًا:
ما عاتب المرءَ الكريم كنفسه ... ?? ... والمرء يصلحه القرين الصالح ... ???
قال الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يُزري ... ?? ... لكنت اليوم أشعرَ من لبيد ... ???
56- باب فضل الجوع وخشونة العيش
والاقتصار عَلَى القليل من المأكول والمشروب والملبوس
وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات
قَالَ الله تَعَالَى: {فَخَلَفَ منْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم (59، 60) ] .
أي: خلف من بعد الذين أثنى الله عليهم من الأنبياء والصالحين، خلفُ سوء، أضاعوا الصلاة بتركها أو تأخيرها عن وقتها: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} مالوا إلى زخارف الدنيا {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} شرًّا وخسرانًا.
وقال تَعَالَى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ في زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُريدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَواب اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً} [القصص (79: 80) ] .
قيل: إنَّ قارون خرج على بغلة شهباء عليه الأُرْجُوَان، وعليها سُرْج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيِّه؟
وقال تَعَالَى: {ثُمَّ لًتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر (8) ] .
أي: إذا ألهاكم عن الشكر.
(1/328)
وعن زيد بن أسلم مرفوعًا: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} يعني: شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم.
وقال تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُريدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُريدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء (18) ]
أي: من كانت همَّته مقصورة على الدنيا عجلنا له فيها ما نشاء من البسط، والتقتير، لمن يريد أن نفعل به ذلك، ثم جعلنا له في الآخرة جهنم يصلاها مذمومًا، مدحورًا، مطرودًا، مبعدًا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له» . رواه أحمد.
والآيات في الباب كثيرةٌ معلومةٌ.
أي: في فضل التقلل من الدنيا، والترغيب في الآخرة، كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى (20) ] ، وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص (60) ] .
[491] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: مَا شَبعَ آلُ مُحَمّد - صلى الله عليه وسلم - مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية: مَا شَبعَ آلُ محَمّد - صلى الله عليه وسلم - مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ البُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً حَتَّى قُبِضَ.
(1/329)
فيه: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا، وزهده فيها.
وفيه: تحريض لأمته على الزهد فيها، والإعراض عما زاد على الحاجة منها، ولا منافاة فيه وبين حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - يدخر لأهله قوت سنة، لأنه كان يفعل ذلك في آخر حياته، فيخرجه في الحوائج تعرض عليه.
[492] وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها، أنّها كَانَتْ تقول: وَاللهِ، يَا ابْنَ أُخْتِي، إنْ كُنَّا لنَنْظُرُ إِلَى الهِلاَلِ، ثُمَّ الهِلالِ، ثُمَّ الهِلالِ: ثَلاَثَةُ أهلَّةٍ في شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ في أبْيَاتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ قط. قُلْتُ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قالت: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالمَاءُ، إلا أنَّهُ قَدْ كَانَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ألْبَانِهَا فَيَسْقِينَا. متفقٌ عَلَيْهِ.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث ما كان فيه الصحابة من التقلل من الدنيا في أول الأمر.
وفيه: فضل الزهد، وإيثار الواجد للمعدوم، والاشتراك فيما في الأيدي.
وفيه: جواز ذكر المرء ما كان فيه من الضيق بعد أن يوسع الله عليه، تذكيرًا بنعمته وليتأس به غيره.
[493] وعن أَبي سعيد المقبُريِّ عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّهُ مَرَّ بِقَومٍ بَيْنَ أيدِيهمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ، فَدَعَوْهُ فَأبَى أنْ يأْكُلَ. وقال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعيرِ. رواه البخاري.
«مَصْلِيَّةٌ» بفتح الميم: أيْ مَشْوِيَّةٌ.
فيه: أن من شأن المُحب أن يتبع آثار محبوبه، ويأتم بها.
(1/330)
[494] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: لَمْ يَأكُلِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أكَلَ خُبْزاً مُرَقَّقاً حَتَّى مَاتَ. رواه البخاري.
وفي رواية لَهُ: وَلا رَأى شَاةً سَمِيطاً بعَيْنِهِ قَطُّ.
الخِوان: ما يؤكل عليه الطعام بدون أن يخفض الآكل رأسه، وهو بدعة جائزة. والخبز المرقق: هو الأرغفة الواسعة الرقيقة. والسميط: ما أزيل شعره وشوي بجلده. وقطّ: ظرف لما مضى من الزمان مبني على الضم.
[495] وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ نَبيَّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ. رواه مسلم.
«الدَّقَلُ» : تَمْرٌ رَدِيءٌ.
قوله: (لقد رأيت نبيكم) ، فيه: حث المخاطبين على الاقتداء به، والإعراض عن الدنيا مهما أمكن.
[496] وعن سهلِ بن سعد - رضي الله عنه - قَالَ: مَا رَأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النَّقِيَّ مِنْ حِين ابْتَعَثَهُ الله تَعَالَى حَتَّى قَبضَهُ الله تَعَالَى. فقِيلَ لَهُ: هَلْ كَانَ لَكُمْ في عَهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُنْخُلاً مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ تَعَالَى، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فيَطيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ. رواه البخاري.
قَوْله: «النَّقِيّ» هُوَ بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياءِ: وَهُوَ الخُبْزُ الحُوَّارَى، وَهُوَ: الدَّرْمَكُ. قَوْله: «ثَرَّيْنَاهُ» هُوَ بثاء مثلثة، ثُمَّ راء مشددة، ثُمَّ يَاءٍ مُثَنَّاة من تَحْت ثُمَّ نون، أيْ: بَللْنَاهُ وَعَجَنَّاهُ.
(1/331)
قال في القاموس: والحُوَّاري بضم الحاء وتشديد الواو، وفتح الراء: الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق، وكل ما حُوّر، أي: بُيّض من طعام.
[497] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ... لَيْلَةٍ، فَإذَا هُوَ بأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَقَالَ: «مَا أخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟» قَالا: الجُوعُ يَا رسول الله. قَالَ: «وَأنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأخْرَجَنِي الَّذِي أخْرَجَكُما، قُوما» فقَامَا مَعَهُ، فَأتَى رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، فَإذَا هُوَ لَيْسَ في بيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ المَرْأَةُ، قالت: مَرْحَبَاً وَأهلاً. فقال لَهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيْنَ فُلانُ؟» قالت: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لنَا المَاءَ. إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ للهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أكْرَمَ أضْيَافاً مِنِّي، فَانْطَلَقَ فَجَاءهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إيْاكَ وَالْحَلُوبَ» فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ العِذْقِ وَشَرِبُوا. فَلَمَّا أنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأَبي بَكْر وَعُمَرَ رضي الله عنهما: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أصَابَكُمْ هَذَا النَّعيمُ» . رواه مسلم.
قولُهَا: «يَسْتَعْذِبُ» أيْ: يَطْلُبُ المَاءَ العَذْبَ، وَهُوَ الطَّيِّبُ. وَ «العِذْقُ» بكسر العين وإسكان الذال المعجمة: وَهُوَ الكِباسَةُ، وَهِيَ
الغُصْنُ. وَ «المُدْيَةُ» بضم الميم وكسرها: هي السِّكِّينُ. وَ «الْحَلُوبُ» : ذاتُ اللَّبَن.
وَالسُّؤالُ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ سُؤَالُ تَعْدِيد النِّعَم لا سُؤَالُ تَوْبيخٍ وتَعْذِيبٍ، والله أعلَمُ.
وَهَذَا الأَنْصَارِيُّ الَّذِي أَتَوْهُ هُوَ، أَبُو الْهَيْثَم بْنُ
(1/332)
التَّيِّهَانِ، كَذَا جَاءَ مُبَيَّناً في رواية الترمذي وغيره.
في هذا الحديث: فوائد كثيرة منها: جواز الضيافة للمقيم إذا احتاج إليها، وجواز ترحيب المرأة بالضيفان، وإنزال الناس منازلهم، واستحباب ترك ذبح الحلوب إذا وجد غيرها، والنهي عن ذبحها نهي إرشاد لا كراهة فيه.
وعن ابن عباس مرفوعًا: «إذا أصبتم مثل هذا، فضربتم بأيديكم فقولوا: بسم الله وببركة الله، وإذا شبعتم فقولوا: الحمد لله الذي أشبعنا، وأروانا، وأنعم علينا، وأفضل، فإن هذا كفاف هذا.
قال ابن القيم: كل أحد يُسأل عن تنعمه الذي كان فيه، هل ناله من حل أو لا؟ وإذا خلص من ذلك يسأل هل قام بواجب الشكر فاستعان به على الطاعة أو لا؟
[498] وعن خالد بن عُمَيْر العَدَوِيِّ، قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بنُ غَزْوَانَ، وَكَانَ أمِيراً عَلَى البَصْرَةِ، فَحَمِدَ الله وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ
الإنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لا زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أنَّ الحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَاماً، لا يُدْرِكُ لَهَا قَعْراً، وَاللهِ لَتُمْلأَنَّ أَفَعَجِبْتُمْ؟! وَلَقدْ ذُكِرَ لَنَا أنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسيرَةُ أرْبَعِينَ عَاماً، وَليَأتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ، وَلَقَدْ رَأيْتُنِي سَابعَ سَبْعَةٍ مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَا لَنَا طَعَامٌ إلا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى قَرِحَتْ
(1/333)
أشْدَاقُنَا، فَالتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا، وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أصْبَحَ اليَوْمَ مِنَّا أحَدٌ إلا أَصْبَحَ أمِيراً عَلَى مِصرٍ مِنَ الأَمْصَارِ، وَإنِّي أعُوذُ بِاللهِ أنْ أكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيماً، وَعِنْدَ اللهِ صَغِيراً.
رواه مسلم.
قَوْله: «آذَنَتْ» هُوَ بِمَدّ الألف وذال معْجمةٍ غير مشدَّدة، أيْ: أعْلَمَتْ. وَقَوْلُه: «بِصُرْم» هُوَ بضم الصاد، أيْ: بِانْقِطَاعِهَا وَفَنَائِهَا. ... وَقوله: «ووَلَّتْ حَذَّاءَ» هُوَ بحاءٍ مهملة مفتوحة، ثُمَّ ذال معجمة مشدّدة، ثُمَّ ألف ممدودة، أيْ: سريعة. وَ «الصُّبَابَةُ» بضم الصاد المهملة وهي: البَقِيَّةُ اليَسِيرَةُ. وَقَوْلُهُ: «يَتَصَابُّهَا» هُوَ بتشديد الباء قبل الهاء، أيْ: يجمعها. وَ «الْكَظِيظُ» : الكثير الممتلىءُ. وَقَوْلُه: «قَرِحَتْ» هُوَ بفتح القاف وكسر الراء، أيْ صار فِيهَا قُروح.
في هذا الحديث: فوائد كثيرة، من الترغيب والترهيب، والوعظ والتذكير، وعمق النار، وسعة الجنة وغير ذلك.
[499] وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: أخْرَجَتْ لَنَا عَائِشَةُ رضي الله عنها كِسَاءً وَإزاراً غَلِيظاً، قالَتْ: قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هَذَيْنِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن الدنيا، واكتفاؤه بما تيسر من اللباس.
وفيه: تهييج للمتبعين سبيله على ذلك.
[500] وعن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه - قَالَ: إنِّي لأَوَّلُ رجل من الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ الله، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَا لَنَا طَعَامٌ إلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ، وَهذَا السَّمُرُ، حَتَّى إنْ كَانَ أحَدُنَا
(1/334)
لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خَلْطٌ. متفقٌ عَلَيْهِ.
«الحُبْلَة» بضم الحاء المهملة وإسكان الباءِ الموحدةِ: وَهِيَ وَالسَّمُرُ، نَوْعَانِ مَعْرُوفَانِ مِنْ شَجَرِ الْبَادِيَةِ.
قوله: «إلا ورق الحُبْلة وهذا السَّمُرُ» في رواية للبخاري: «إلا الحبلة وورق السمر» : وهذه الغزوة تسمى غزوة الخبط.
وفيه: ما كان الصحابة عليه من الضيق في أول الإسلام امتحانًا ليظهر صدقهم، قال الله تعالى: {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت (1: 3) ] .
قال الشاعر:
لولا اشتعال النار في جزل الفضاء ... ?? ... ما كان يعرف طيب نشر العود ... ???
[501] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمّدٍ قُوتاً» . متفقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ أهْلُ اللُّغَةِ وَالغَرِيبِ: مَعْنَى «قُوتاً» أيْ: مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ.
معنى الحديث: طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن، ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر.
[502] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: وَاللهِ الَّذِي لا إِلهَ إلا هُوَ، إنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطنِي مِنَ الْجُوعِ. وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوماً عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ بِي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَتَبَسَّمَ حِيْنَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي وَجْهِي وَمَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: «أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ:
(1/335)
«الْحَقْ» وَمَضَى فَاتَّبَعْتُهُ، فَدَخَلَ فَاسْتَأذَنَ، فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنَاً في قَدَحٍ، فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟» قَالُوا: أهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ - أَو فُلانَةٌ - قَالَ: «أَبَا هِرٍّ» قلتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول اللهِ، قَالَ: «الْحَقْ إِلَى أهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي» قَالَ: وَأهْلُ الصُّفَّة أضْيَافُ الإِسْلاَمِ، لا يَأوُونَ علَى أهْلٍ وَلا مَالٍ وَلا عَلَى أحَدٍ، وَكَانَ إِذَا أتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئاً، وَإِذَا أتَتْهُ هَدِيَّةٌ أرْسَلَ إلَيْهِمْ، وَأصَابَ مِنْهَا، وأشْرَكَهُمْ فِيهَا. فَسَاءنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ في أهْلِ الصُّفَّةِ! كُنْتُ أحَقُّ
أنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أتَقَوَّى بِهَا، فَإذَا جَاءُوا وَأمَرَنِي فَكُنْتُ أنَا أُعْطِيهِمْ؛ وَمَا عَسَى أنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأقْبَلُوا وَاسْتَأذَنُوا، فَأَذِنَ ... لَهُمْ وَأخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ: «أَبَا هِرٍّ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ: «خُذْ فَأعْطِهِمْ» قَالَ: فَأخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُل فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأخَذَ الْقَدَحَ فَوضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إليَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: «أَبَا هِرٍّ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ: «بَقيتُ أنَا وَأنْتَ» قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رسول الله، قَالَ: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ» فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ «اشْرَبْ» فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ» حَتَّى قُلْتُ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أجِدُ لَهُ
(1/336)
مَسْلكاً! قَالَ: «فَأرِنِي» فَأعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ الله، وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ. رواه البخاري.
في هذا الحديث من الفوائد: استحباب الشرب من قعود.
وفيه: معجزة عظيمة من علامات النبوة.
وفيه: جواز الشبع.
وفيه: أنّ كتمان الحاجة والتلويح بها أولى من إظهارها.
وفيه: كرم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإيثاره على نفسه، وأن ساقي القوم آخرهم شربًا.
وفيه: استحباب الحمد على النعم والتسمية عند الشرب.
[503] وعن محمد بن سيرين، عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُنِي وَإنِّي لأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى حُجْرَةِ عائِشَةَ رضي الله عنها مَغْشِيّاً عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الجَائِي، فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي، وَيَرَى أنِّي مَجْنُونٌ وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ، مَا بِي إلا الْجُوعُ. رواه البخاري.
في هذا الحديث: صبر الصحابة رضي الله عنهم على الفقر والجوع تتميمًا لهجرتهم إلى الله ورسوله.
وفيه: ثباتهم على دينهم بخلاف من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.
[504] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: تُوُفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِي في ثَلاثِينَ صَاعاً مِنْ شَعِير. متفق عَلَيْهِ.
قال العلماء: الحكمة في عدوله - صلى الله عليه وسلم - عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود، إما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذْ ذاك طعام فاضل عن حاجتهم، أو خشي أنهم لا يأخذون ثمنًا فلم يرد التضييق عليهم.
(1/337)
وذكر ابن الطلاع: أن أبا بكر إِفْتَكَّ الدرع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
[505] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: رَهَنَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ، وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بخُبْزِ شَعِيرٍ وَإهَالَة سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا أصْبَحَ لآلِ مُحَمّدٍ صَاعٌ وَلا أمْسَى» وَإنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أبيَات. رواه البخاري.
«الإهالَةُ» بكسر الهمزة: الشَّحْمُ الذَّائِبُ. وَ «السَّنِخَةُ» بالنون والخاء المعجمة: وَهِيَ المُتَغَيِّرَةُ.
فيه: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن المشتهيات، واجتزاؤه بما يسد الحاجة من القوت.
وفيه: تسلية لذوي الفقر والحاجة من أمته.
قوله: وإنهم لتسعة أبيات.
قال الحافظ: ومناسبة ذكر أنس لهذا القدر مع ما قبله، الإشارة إلى سبب قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا، وأنه لم يقله متضجِّرًا، ولا شاكيًا، وإنما قاله معتذرًا عن إجابة دعوى اليهودي، ولرهنه درعه.
وفي الحديث: جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم.
واستنبط منه جواز معاملة مَنْ أكْثَرُ ماله حرام.
وفيه: جواز بيع السلاح، ورهنه، وإجازته، وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًا.
وفيه: ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التواضع، والزهد في الدنيا، والتقلل منها
(1/338)
مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار، والصبر على ضيق العيش.
وفيه: فضيلة لأزواجه وصبرهن معه على ذلك.
[506] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ ردَاءٌ، إمَّا إزَارٌ وَإمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوا في أعْنَاقِهِم مِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. رواه البخاري.
فيه: فضيلة الصحابة رضي الله عنهم، وصبرهم على الفقر، وضيق الحال، والاجتزاء من اللباس على ما يستر العورة، وقد أثابهم الله على ذلك فاستخلفهم في الأرض، ومكّن لهم دينهم وبدلهم من بعد فقرهم غنىً، ومن بعد خوفهم أمناً مع ما أعد الله لهم في الآخرة من الثواب في الجنة.
[507] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ فِرَاشُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أُدْمٍ حَشْوُهُ مِنْ لِيفٌ. رواه البخاري.
فيه: عدم مبالاته - صلى الله عليه وسلم - بمستلذات الدنيا، كما قال: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي في الدنيا كراكب قَال في ظل دوحة، ثم راح، وتركها» .
[508] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أدْبَرَ الأَنْصَاريُّ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أخَا الأنْصَارِ، كَيْفَ أخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟»
(1/339)
فَقَالَ: صَالِحٌ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟» فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ، وَنَحْنُ بضْعَةَ عَشَرَ، مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ، وَلا خِفَافٌ، وَلا قَلاَنِسُ، وَلا قُمُصٌ، نَمْشِي في تِلك السِّبَاخِ، حَتَّى جِئْنَاهُ، فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْله حَتَّى دَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَأصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ. رواه مسلم.
فيه: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - واستحباب السؤال عن المريض وعيادته.
وفيه: دلالة على الاقتصار على قليل الملبوس.
وفيه: إكرام الوفد، وإنزال الناس منازلهم.
[509] وعن عِمْرَان بنِ الحُصَيْنِ رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قَالَ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» قَالَ عِمْرَانُ: فَمَا أدْري قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتَيْنِ أَو ثَلاَثاً «ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهمُ السَّمَنُ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
القرن: أهل زمان واحد متقارب، وقرنه - صلى الله عليه وسلم - هم أصحابه، ثم قرن التابعين، ثم أتباع التابعين، ثم فشت البدع، وامتحن أهل العلم، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وكثرة شهادة الزور، والخيانة، واتباع الشهوات، ولا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه.
[510] وعن أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ أنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خَيرٌ لَكَ، وَأنْ تُمسِكَهُ شَرٌ لَكَ، ولا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدأ بِمَنْ تَعُولُ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
أي: بذلك الفضل خير لك في الدنيا والآخرة، وإمساكه شر لك لعدم أداء
(1/340)
الحقوق، واشتغال القلب عن التوجه إلى الله، ولا تلام على إمساك ما يكفيك، ويسد حاجتك، وابدأ في الإنفاق بحق من تعول.
[511] وعن عُبيْدِ الله بنِ محْصن الأَنصَارِيِّ الخطميِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ،
عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .
«سِربه» : بكسر السين المهملة: أي نَفْسه، وَقِيلَ: قَومه.
يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [قريش (3، 4) ] ، فإذا كان المسلم آمنًا في محله، صحيحًا عنده من القوت ما يكفه عن سؤال الناس، فهو في نعمة عظيمة.
[512] وعن عبد الله بن عَمْرو بنِ العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» . رواه مسلم.
قال القرطبي: معنى الحديث أنّ من حصل له ذلك فقد حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدارين.
[513] وعن أَبي محمدٍ فضَالَة بن عبيدٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إلى الإسْلاَمِ، وَكَانَ
(1/341)
عَيْشُهُ كَفَافاً وَقَنِعَ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
الكفاف: هو الكفاية من غير زيادة ولا نقص.
[514] وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَبيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِياً، وَأهْلُهُ لا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبزَ الشَّعيرِ. رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
فيه: صبره - صلى الله عليه وسلم - على الجوع.
وفيه: فضيلة لأزواجه بصبرهن على ذلك.
[515] وعن فُضَالَةَ بن عبيدٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ، يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصَّلاةِ مِنَ الخَصَاصَةِ - وَهُمْ أصْحَابُ الصُّفَّةِ - حَتَّى يَقُولَ الأعْرَابُ: هؤُلاء مَجَانِينٌ. فَإذَا صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، لأَحْبَبْتُمْ أنْ تَزْدَادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» .
«الخَصَاصَةُ» : الفَاقَةُ وَالجُوعُ الشَّدِيدُ.
في هذا الحديث: الحث على الصبر على الفقر، وضيق العيش، قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف (90) ] .
[516] وعن أَبي كريمة المقدام بن معد يكرِبَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ ... رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاء شَرّاً مِنْ
(1/342)
بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ لا مَحالةَ فثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسه» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
«أكُلاَتٌ» أيْ: لُقَمٌ.
قيل: إن كسرى سأل طبيبًا، ما الداء الذي لا دواء له؟ قال: إدخال الطعام على الطعام، وسأله عن الحمية، قال: الاقتصاد في كل شيء، فإذا أكل فوق المقدار ضيق على الروح.
[517] وعن أَبي أُمَامَة إياسِ بن ثعلبةَ الأَنْصَارِيِّ الحارثي - رضي الله عنه - قَالَ: ذَكَرَ أصْحَابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوماً عِنْدَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تَسْمَعُونَ؟ ألا تَسْمَعُونَ؟ إنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ، إنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ» يَعْنِي: التَّقَحُّلَ. رواهُ أَبو داود.
«البَذَاذَةُ» - بالباءِ الموحدةِ والذالين المعجمتين - وَهِيَ رَثَاثَةُ الهَيْئَةِ وَتَرْكُ فَاخِرِ اللِّبَاسِ. وَأَمَّا «التَّقَحُّلُ» فبالقافِ والحاء: قَالَ أهْلُ اللُّغَةِ: المُتَقَحِّلُ هُوَ الرَّجُلُ اليَابِسُ الجِلْدِ مِنْ خُشُونَةِ العَيْشِ وَتَرْكِ التَّرَفُّهِ.
إنما كانت البذاذة من الإيمان لما تؤدي إليه من كسر النفس والتواضع، قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب.
وعوتب علي رضي الله عنه في إزار مرقوع، فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب.
وهذا يدل على استحباب ذلك إذا لم يكن فيه رياء، ولا حيلة على الدنيا.
وبالجملة فالمحبوب التوسط في كل شيء.
(1/343)
وقال بعض العارفين - لما أنكر عليه جمال هيئته -: يا هذا، هيأتي هذه تقول الحمدُ لله، وهيأتكم هذه تقول: أعطوني من دنياكم.
[518] وعن أَبي عبد الله جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قَالَ: بَعَثَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَأمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ - رضي الله عنه - نَتَلَقَّى عِيراً لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَاباً مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبو عُبيدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، فَقيلَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا؟ قَالَ: نَمَصُّهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبي، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ، وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصيِّنَا الخَبَطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالماءِ فَنَأكُلُهُ. قَالَ: وَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ فَإذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ، فَقَالَ أَبو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي سبيل الله وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، فَأقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْراً، وَنَحْنُ ثَلاَثُمِئَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، وَلَقَدْ رَأيْتُنَا نَغْتَرِفُ مِن وَقْبِ عَيْنِهِ بِالقِلاَلِ الدُّهْنَ وَنَقْطَعُ مِنْهُ الفِدَرَ كالثَّوْرِ أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، وَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبو عُبَيْدَةَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَأقْعَدَهُمْ في وَقْبِ عَيْنِهِ وَأخَذَ ضِلْعاً مِنْ أضْلاَعِهِ فَأقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا فَمَرَّ مِنْ تَحْتهَا وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ أَتَيْنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «هُوَ رِزْقٌ أخْرَجَهُ اللهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟» فَأرْسَلْنَا إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ فَأكَلَهُ. رواه مسلم.
«الجِرَابُ» : وِعَاءٌ مِنْ جِلْدٍ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ بِكَسرِ الجيم وفتحها والكسر أفْصَحُ. قَوْلُهُ: «نَمَصُّهَا» هو بفتح الميم، وَ «الخَبَطُ» : وَرَقُ شَجَرٍ مَعْرُوفٍ تَأكُلُهُ الإبِلُ. وَ «الكَثِيبُ» : التَّلُّ مِنَ الرَّمْلِ، وَ «الوَقْبُ» : بفتح
(1/344)
الواو وَإسكان القافِ وبعدها بَاءٌ موحدةٌ وَهُوَ نُقْرَةُ العَيْنِ. وَ «
القِلاَلُ» : الجِرار. وَ «الفِدَرُ» بكسرِ الفاءِ وفتح الدال: القِطَعُ. «رَحَلَ البَعِيرَ» بتخفيف الحاءِ: أيْ جَعَلَ عَلَيْهِ الرَّحْلِ. «الوَشَائِقُ» بالشينِ المعجمةِ والقاف: اللَّحْمُ الَّذِي اقْتُطِعَ لِيُقَدَّدَ مِنْهُ، والله أعلم.
في هذا الحديث: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا، والتقلل منها، والصبر على الجوع، وخشونة العيش.
وفيه: كرامة له - صلى الله عليه وسلم - حيث كفى الواحد منهم نهاره ثمرة واحدة.
وفيه: حِل ميتة حوت البحر.
[519] وعن أسماء بنتِ يزيد رضي الله عنها، قالت: كَانَ كُمُّ قَمِيصِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الرُّصْغِ. رواه أَبو داود والترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
«الرُّصْغُ» بالصاد وَالرُّسْغُ بالسينِ أيضاً: هُوَ المَفْصِلُ بَيْنَ الكفِّ والسَّاعِدِ.
قيل: حكمة الاقتصار على الرصغ، أنه متى جاوز اليد شق على لابسه، ومتى قصر عنه تأذي الساعد ببروزه للحر والبرد، وخير الأمور أوساطها.
[520] وعن جابر - رضي الله عنه - قَالَ: إنَّا كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاؤُوا إِلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: هذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ في الخَنْدَقِ. فَقَالَ: «أنَا نَازِلٌ» ثُمَّ قَامَ، وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَة أيّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقاً فَأخَذَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المِعْوَلَ، فَضَرَبَ فَعَادَ كَثيباً أهْيَلَ أَو أهْيَمَ، فقلت: يَا رسول الله، ائْذَنْ لي إِلَى البَيْتِ، فقلتُ لامْرَأتِي: رَأيْتُ
(1/345)
بالنَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم - شَيئاً مَا في ذَلِكَ صَبْرٌ فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فقالت: عِنْدي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحْتُ العَنَاقَ وَطَحَنْتُ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ في البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وَالعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، وَالبُرْمَةُ بَيْنَ الأثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ تَنْضِجُ، فقلتُ: طُعَيْمٌ لي، فَقُمْ أنْتَ يَا رسول اللهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ، قَالَ: «كَمْ هُوَ» ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: «كثيرٌ طَيِّبٌ قُل لَهَا لا تَنْزَع البُرْمَةَ، ... وَلا الخبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حتى آتِي» فَقَالَ: «قُومُوا» ، فقام المُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فقلتُ: وَيْحَكِ جَاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ ومن مَعَهُمْ! قالت: هَلْ سَألَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «ادْخُلُوا وَلا تَضَاغَطُوا» فَجَعَلَ يَكْسرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ وَالتَّنُّور إِذَا أخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزعُ، فَلَمْ يَزَلْ يِكْسِرُ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ مِنْهُ، فَقَالَ: «كُلِي هَذَا وَأهِدي، فَإنَّ النَّاسَ أصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية قَالَ جابر: لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأيْتُ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصاً، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأتِي، فقلت: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإنّي رَأيْتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَمَصاً شَديداً، فَأخْرَجَتْ إلَيَّ جِرَاباً فِيه صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بَهِيمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنتِ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغي، وَقَطَعْتُهَا في بُرْمَتها، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: لا تَفْضَحْنِي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ مَعَهُ، فَجئتهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رسول الله، ذَبَحْنَا بهيمَة لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «يَا أهلَ الخَنْدَقِ: إنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ سُؤْراً فَحَيَّهَلا بِكُمْ» فَقَالَ
النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(1/346)
«لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلا تَخْبزنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أجِيءَ» فَجِئْتُ، وَجَاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأتِي، فقالَتْ: بِكَ وَبِكَ! فقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لي. فَأخْرَجَتْ عَجِيناً، فَبسَقَ فِيهِ وَبَاركَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنا فَبصَقَ فيها وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعِي خَابزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلا تُنْزِلُوها» وَهُم ألْفٌ، فَأُقْسِمُ بِالله لأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطّ كَمَا هِيَ، وَإنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
قَوْله: «عَرَضَتْ كُدْيَةٌ» بضم الكاف وإسكان الدال وبالياء المثناة تَحْتَ، وَهِيَ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ صُلْبَةٌ مِنَ الأرضِ لا يَعْمَلُ فِيهَا الفَأسُ، ... وَ «الكَثيبُ» أصْلُهُ تَلُّ الرَّمْل، وَالمُرَادُ هُنا: صَارَتْ تُراباً نَاعِماً، وَهُوَ مَعْنَى «أهْيَلَ» . وَ «الأَثَافِيُّ» : الأحجَارُ الَّتي يكُونُ عَلَيْهَا القِدْرُ، وَ «تَضَاغَطُوا» : تَزَاحَمُوا. وَ «المَجَاعَةُ» : الجُوعُ، وَهُوَ بفتح الميم. وَ «الخَمَصُ» : بفتح الخاء المعجمة والميم: الجُوعُ، وَ «انْكَفَأتُ» : انْقَلَبْتُ وَرَجَعْتُ. و «البُهَيْمَةُ» بضم الباء، تصغير بَهْمَة وَهيَ، العَنَاقُ، بفتح العين. وَ «الدَّاجِنُ» : هِيَ الَّتي ألِفَتِ البَيْتَ: وَ «السُّؤْرُ» الطَّعَامُ الَّذِي يُدْعَى النَّاسُ إِلَيْهِ؛ وَهُوَ بالفَارِسيَّة. وَ «حَيَّهَلا» أيْ تَعَالُوا. وَقَوْلُهَا «بك وَبكَ» أيْ خَاصَمَتْهُ وَسَبَّتْهُ، لأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ أنَّ الَّذِي عِنْدَهَا لا يَكْفِيهمْ، فَاسْتَحْيَتْ وَخَفِيَ عَلَيْهَا مَا أكْرَمَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هذِهِ المُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ وَالآية البَاهِرَةِ. «بَسَقَ» أيْ: بَصَقَ؛ وَيُقَالُ أيْضاً: بَزَقَ، ثَلاث لُغاتٍ. وَ «عَمَدَ» بفتح الميم، أيْ: قَصَدَ. وَ «اقْدَحي»
أيْ: اغْرِفِي؛ وَالمِقْدَحَةُ: المِغْرَفَةُ. وَ «تَغِطُّ» أيْ: لِغَلَيَانِهَا صَوْتٌ، والله أعلم.
في هذا الحديث: معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفضيلة لأصحابه رضي الله عنهم، حيث صبروا معه على الجوع والحرب، فأثابهم الله على ذلك بأن استخلفهم في
(1/347)
الأرض، ومكّن لهم دينهم، وبدّلهم من بعد خوفهم أمنًا، مع ما أعد لهم من الثواب في الجنة.
[521] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ أَبو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيمٍ: قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضَعيفاً أعْرِفُ فيه الجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأخْرَجَتْ أقْرَاصاً مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أخَذَتْ خِمَاراً لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أرْسَلَتْني إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَذَهَبتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، جَالِساً في المَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهمْ، فَقَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرْسَلَكَ أَبو طَلْحَةَ؟» فقلت: نَعَمْ، فَقَالَ: «ألِطَعَامٍ؟» فقلت: نَعَمْ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «قُومُوا» فَانْطَلَقُوا وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ؟ فَقَالَتْ: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. فَانْطَلَقَ أَبو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأقْبَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ حَتَّى دَخَلا، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «هَلُمِّي مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» فَأتَتْ بِذلِكَ الخُبْزِ، فَأمَرَ بِهِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أمُّ سُلَيْمٍ عُكّةً فَآدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: «ائْذَنْ لِعَشْرَةٍ» فأذنَ لَهُمْ فَأكَلُوا حتى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: «ائْذَنْ لِعَشْرَةٍ» فأذِنَ لهم فَأكَلُوا حتى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: «ائْذَنْ لِعَشْرَةٍ» فأذِنَ لهم.
حَتَّى أكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلاً أَو ثَمَانُونَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية: فَمَا زَالَ يَدْخُلُ عَشرَة، وَيخرجُ عشرةٌ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
(1/348)
أحَدٌ إلا دَخَلَ، فَأكَلَ حَتَّى شَبعَ، ثُمَّ هَيَّأهَا فَإذَا هِيَ مِثْلُهَا حِيْنَ أكَلُوا مِنْهَا.
وفي رواية: فَأَكَلُوا عَشرَةً عَشرةً، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلاً، ثُمَّ أكَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ وَأهْلُ البَيْتِ، وَتَرَكُوا سُؤْراً.
وفي رواية: ثُمَّ أفْضَلُوا مَا بَلَغُوا جيرانَهُمْ.
وفي رواية عن أنس، قَالَ: جِئتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فَوَجَدْتُهُ جَالِساً مَعَ أصْحَابِه، وَقَدْ عَصَبَ بَطْنَهُ، بِعِصَابَةٍ، فقلتُ لِبَعْضِ أصْحَابِهِ: لِمَ عَصَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَطْنَهُ؟ فقالوا: مِنَ الجوعِ، فَذَهَبْتُ إِلَى أَبي طَلْحَةَ، وَهُوَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ بِنْت مِلْحَانَ، فقلتُ: يَا أبتَاهُ، قَدْ رَأيْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَصَبَ بَطْنَهُ بِعِصَابَةٍ، فَسَألْتُ بَعْضَ أصْحَابِهِ، فقالوا: من الجُوعِ. فَدَخَلَ أَبو طَلْحَةَ عَلَى أُمِّي، فَقَالَ: هَلْ مِنْ شَيءٍ؟ قالت: نَعَمْ، عِنْدِي كِسَرٌ مِنْ خُبْزٍ وَتَمَرَاتٌ، فَإنْ جَاءنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَحْدَهُ أشْبَعْنَاهُ، وَإنْ جَاءَ آخَرُ مَعَهُ قَلَّ عَنْهُمْ ... وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
في هذا الحديث: معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه: فطنة أم سليم ورجحان عقلها.
وفيه: استحباب أكل صاحب الطعام وأهله بعد فراغ الضيفان، وإطعام جيرانهم.
وفيه: جواز تسمية زوج الأم أبًا.
وفيه: ما كان عليه الصحابة من الاعتناء بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما هم فيه من ضيق العيش يومئذٍ.
وفيه: اجتزاؤهم بالقوت، وترك ما زاد عليه من شهوة النفس وحظها رضي الله عنهم.
(1/349)
57- باب القناعة والعَفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق
وذم السؤال من غير ضرورة
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرْضِ إلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا}
[هود (6) ] .
أي: هو المتكفل بأرزاق المخلوقات في البر والبحر.
قال مجاهد: ما جاءها من رزق فمن الله عزَّ وجلّ.
وقال تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافاً} [البقرة (273) ] .
أي: الأَوْلى بالصدقات الفقراء المقيمون على طاعة الله، المتعففون عن السؤال.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: استغن عمن شئت تكن نَظِيرَهُ، وأفضِل على من شئت تكن أميرَه، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
وقال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان (67) ] .
أي: الإنفاق بين الإسراف والإقتار هو القوام الذي تقوم به معيشة الإنسان بحسب حاله، وخير الأمور أوساطها.
وقال تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات (56، 57) ] .
أي: ما خلق الله الجن والإنس إلا لأجل عبادته وحده، لا شريك له، وليس محتاجًا إليهم كما يحتاج السادة إلى عبيدهم، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذَّبه أشد العذاب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى:
(1/350)
يَا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنًى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل، ملأتُ صدرك شغلاً، ولم أسد فقرك» . رواه أحمد.
وفي بعض الكتب الإلهية: ابن آدم خلقتك لعبادتي، فلا تلعب، وتكفَّلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل خير، وإنْ فتّك فاتك كل خير، وأنا أحب إليك من كل شيء» .
وَأَمَّا الأحاديث، فتقدم معظمها في البابينِ السابقينِ، ومما لَمْ يتقدم:
[522] عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ الغِنَى عَن كَثرَةِ العَرَض، وَلكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
«العَرَضُ» بفتح العين والراءِ: هُوَ المَالُ.
أي: ليس حقيقة الغنى كثرة المال مع الحرص، وإنما الغني من استغنى بما آتاه الله، وقنع به، وإنما كان الممدوح غنى النفس، لأنها حينئذٍ تكفّ عن بث المطامع فتعز.
وقال الشاعر:
ومن ينفق الساعاتِ في جمع ماله ... ?? ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر ... ???
وقال بعض العارفين:
رضينا بقسمة الجبار فينا ... ?? ... لنا علم وللجهل مالُ ... ????
فإن المال يفنى عن قريب ... ??? ... وإن العلم كنز لا يزال ... ??
[523] وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
(1/351)
«قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وقَنَّعَهُ الله بِمَا آتَاهُ» . رواه مسلم.
الكفاف: ما كف عن السؤال مع القناعة.
وفي الحديث: شرف هذه الحال على الفقر المسهي، والغنى المطغي.
[524] وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قَالَ: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَأعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيم، إنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أخَذَهُ بإشرافِ نَفسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلا يَشْبَعُ، وَاليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى» . قَالَ حكيم: فقلتُ: يَا رسول الله، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لا أرْزَأُ أحَداً بَعْدَكَ شَيْئاً حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدْعُو حَكيماً لِيُعْطِيَه العَطَاء، فَيَأبَى أنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئاً، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - دَعَاهُ لِيُعْطِيَه فَأَبَى أنْ يَقْبَلَهُ. فقالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكيمٍ أنّي أعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَهُ اللهُ لَهُ في هَذَا الفَيء فَيَأبَى أنْ يَأخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكيمٌ أحَداً مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تُوُفِّي. متفقٌ عَلَيْهِ.
«يَرْزَأُ» بِراءٍ ثُمَّ زايٍ ثُمَّ همزة؛ أيْ: لَمْ يَأخُذْ مِنْ أحَدٍ شَيْئاً، وَأصْلُ الرُّزءِ: النُّقْصَان، أيْ: لَمْ يَنقُص أحَداً شَيْئاً بالأخذِ مِنْهُ، وَ «إشْرَافُ النَّفْسِ» : تَطَلُّعُهَا وَطَمَعُهَا بالشَّيْء. وَ «سَخَاوَةُ النَّفْسِ» : هِيَ عَدَمُ الإشرَاف إِلَى الشَيء، وَالطَّمَع فِيهِ، وَالمُبَالاَةِ بِهِ وَالشَّرَهِ.
قال الحافظ: إنما امتنع حكيم من أخذ العطاء، مع أنه حقه، لأنه خشي
(1/352)
أن يقبل من أحد شيئًا، فيعتاد الأخذ فيتجاوز به إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك وترك ما لا يريبه خوفَ ما يريبه.
[525] وعن أَبي بردة عن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزاةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنقِبَت أقدَامُنَا وَنَقِبَت قَدَمِي، وسَقَطت أظْفَاري، فَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أرْجُلِنا الخِرَقَ، فَسُمِّيَت غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ عَلَى أرْجُلِنَا مِنَ الخِرَقِ، قَالَ أَبُو بُردَة: فَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا الحَدِيثِ، ثُمَّ كَرِه ذَلِكَ، وقال: مَا كُنْتُ أصْنَعُ بِأنْ أذْكُرَهُ! قَالَ: كأنَّهُ كَرِهَ أنْ يَكُونَ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ أفْشَاهُ. متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: ما كان فيه الصحابة رضي الله عنهم من الشدة والضيق، فصبروا حتى كانت العقبى الطيبة لهم في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا ... يُوقِنُونَ} [السجدة (24) ] .
وفيه: كراهية إفشاء العمل الصالح إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة.
[526] وعن عمرو بن تَغْلِبَ - بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بِمالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَّمَهُ، فَأعْطَى رِجَالاً، وَتَرَكَ رِجَالاً، فَبَلغَهُ أنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ أثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أمَّا بعْدُ، فَواللهِ إنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَأدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أدَعُ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، وَلَكِنِّي إنَّمَا أُعْطِي أقْوَاماً لِمَا أرَى في قُلُوبِهِمْ مِنَ الجَزَعِ وَالهَلَعِ، وَأكِلُ أقْوَاماً إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ في قُلُوبِهم مِنَ
الغِنَى وَالخَيْرِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ»
(1/353)
قَالَ عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ: فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أنَّ لِي بِكَلِمَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُمْرَ النَّعَم. رواه البخاري.
«الهَلَعُ» : هُوَ أشَدُّ الجَزَعِ، وقيل: الضَّجَرُ.
في هذا الحديث: ائتلاف من يخشى جزعه، أو يرجى بسبب إعطائه طاعة من يتبعه.
وفيه: أن الرزق في الدنيا ليس على قدر درجة المرزوق في الآخرة.
وفيه: أن الناس جُبلوا على حب العطاء، وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة في عاقبته، إلا من شاء الله.
وفيه: أن المنع قد يكون خيرًا للمنوع، كما قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة (216) ] .
وفيه: الاعتذار إلى من ظن ظنَّا والأمر بخلافه.
[527] وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغنهِ الله» . متفقٌ عَلَيْهِ.
وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم أخصر.
اليد العليا: المنفقة؛ والسفلى: السائلة، ومعنى: خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» ، أي: أفضلها ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، ومن يستعفف عن سؤال الناس «يعفه الله» ، أي: يرزقه العفة، ومن يستغن ولا يسأل الناس يغنه الله.
[528] وعن أَبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر
(1/354)
بن حرب - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُلْحِفُوا في الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللهِ لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً، فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئاً وَأنَا لَهُ كَارهٌ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أعْطَيْتُهُ» . رواه مسلم.
فيه: النهي عن الإلحاح في السؤال، وأنه لا يبارك له فيما أُعطي، وقد قال الله تعالى مادحًا أقوامًا لتعففهم: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة (273) ] .
[529] وعن أَبي عبدِ الرحمن عوف بن مالِك الأَشْجَعِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: «ألا تُبَايِعُونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -» وَكُنَّا حَديثِي عَهْدٍ ببَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رسولَ اللهِ، ثمَّ قالَ: «ألا تُبَايِعُونَ رسولَ اللهِ» فَبَسَطْنا أيْدينا، وقلنا: قدْ بايعناكَ يا رسول الله فَعَلامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ وَتُطِيعُوا الله» وأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيفَةً «وَلا تَسْألُوا النَّاسَ شَيْئاً» . فَلَقَدْ رَأيْتُ بَعْضَ أُولئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوطُ أحَدِهِمْ فَمَا يَسأَلُ أحَداً يُنَاوِلُهُ إيّاهُ. رواه مسلم.
فيه: الحث على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمل منن الخلق، وتعظيم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزّة النفس.
وفيه: التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن سؤال الناس أموالهم، فحملوه على عمومه.
وفيه: التنزه عن جميع ما يسمى سؤالاً وإنْ كان حقيرًا.
[530] وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا
(1/355)
تَزَالُ الْمَسْأَلةُ بأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَلَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
«المُزْعَةُ» بضم الميم وإسكان الزايِ وبالعينِ المهملة: القِطْعَةُ.
فيه: النهي عن السؤال من غير ضرورة، وأنه يحشر يوم القيامة ووجهه عظم لا لحم عليه.
[531] وعنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَاليَدُ العُلْيَا هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
قال الحافظ: وللطبراني بإسناد صحيح عن حكيم بن حزام مرفوعًا: «يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطى، ويد المعطى أسفل الأيدي» .
[532] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَألَ النَّاسَ تَكَثُّراً فإنَّمَا يَسْألُ جَمْراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» . رواه مسلم.
فيه: تحريم السؤال من غير حاجة ظاهرة، وأنه كلما كثر سؤاله كثر عذابه.
[533] وعن سَمُرَةَ بنِ جُنْدبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إلا أنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطاناً أَوْ في أمْرٍ لا بُدَّ مِنْهُ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
(1/356)
«الكد» : الْخَدْشُ وَنَحْوُهُ.
فيه: قبح السؤال، ورخص في سؤال السلطان، لأن للسائل في بيت المال حق وكذلك السؤال للضرورة.
[534] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأنْزَلَهَا بالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أنْزَلَهَا باللهِ، فَيُوشِكُ اللهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ» . رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح غريب) .
«يُوشِكُ» بكسر الشين: أيْ يُسْرعُ.
قال وَهْبُ بْن مُنَبِّهٍ لرجل يأتي الملوك: ويحك، تأتي من يغلق عنك بابه، وتدع من يفتح لك بابه.
[535] وعن ثوبان - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي أنْ لا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً، وَأتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟» فقلتُ: أنَا، فَكَانَ لا يَسْأَلُ أحَداً شَيْئاً. رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
[536] وعن أَبي بِشْرٍ قَبيصَةَ بنِ المُخَارِقِ - رضي الله عنه - قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأتَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ: «أقِمْ حَتَّى تَأتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأمُرَ لَكَ
بِهَا» ثُمَّ قَالَ: «يَا قَبيصةُ، إنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلا لأَحَدِ ثلاثَةٍ: رَجُلٌ تحمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَها، ثُمَّ يُمْسِكُ،
(1/357)
وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قواماً مِنْ عَيش - أَوْ قَالَ: سِدَاداً مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلٌ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُولَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَى مِنْ قَوْمِه: لَقَدْ أصَابَتْ فُلاناً فَاقَةٌ. فَحلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يصيب قواماً من عيش، أَوْ قَالَ: سداداً من عيشِ، فما سِوَاهُنَّ مِنَ المسألَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ، يَأكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتاً» . رواه مسلم.
«الحَمَالَةُ» بفتح الحاءِ: أنْ يَقَعَ قِتَالٌ وَنَحْوُهُ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ، فَيُصْلِحُ إنْسَانٌ بَيْنَهُمْ عَلَى مَالٍ يَتَحَمَّلُهُ وَيَلْتَزِمُهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَ «الجَائحةُ» الآفَةُ تُصيبُ مَالَ الإنْسَانِ. وَ «القَوَامُ» بكسر القاف وفتحهَا: هُوَ مَا يَقُومُ بِهِ أمْرُ الإنسَان مِنْ مَال ونحوِهِ. وَ «السِّدَادُ» بكسر السين: مَا يَسُدُّ حَاجَةَ الْمَعْوِزِ وَيَكْفِيهِ، وَ «الفَاقَةُ» : الفَقْرُ. وَ «الحِجَى» : العَقْلُ.
في هذا الحديث: تحريم السؤال إلا في غُرْم، أو جائحة، أو فاقة.
[537] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ المسكينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلكِنَّ المِسكينَ الَّذِي لا يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ، وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلا يَقُومُ فَيَسْألَ النَّاسَ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
أي: ليس المسكين الكامل المسكنة الممدوح هذا الطوَّاف، ولك المسكين المتعفف الذي لا يجد غني يغنيه عن المسألة، ولا يُفطن له، لكتم
حاله، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس، ولا يستطيع ضربًا في الأرض، {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} .
(1/358)
58- باب جواز الأخذ من غير مسألة وَلا تطلع إليه
[538] عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر عن عمر - رضي الله عنهم - قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعْطيني العَطَاءَ، فَأقُولُ: أعطِهِ مَنْ هُوَ أفْقَرُ إِلَيْهِ مِنّي. فَقَالَ: «خُذْهُ، إِذَا جَاءكَ مِنْ هَذَا المَال شَيْءٌ وَأنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، فَإنْ شِئْتَ كُلْهُ، وَإنْ شِئْتَ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا لا، فَلا تُتبعهُ نَفْسَكَ» قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبدُ الله لا يَسألُ أحَداً شَيْئاً، وَلا يَرُدُّ شَيْئاً ... أُعْطِيَه. متفقٌ عَلَيْهِ.
(مُشرف) : بالشين المعجمة: أيْ متطلع إِلَيْهِ.
قال البخاري: باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة، ولا إشراف نفس {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات (19) ] .
وذكر الحديث: قال الحافظ: وفي الحديث أنَّ للإمام أنْ يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجهًا وإن كان غيره أحوج إليه منه، وإن ردَّ عطية الإمام ليس من الأدب.
59- باب الحث عَلَى الأكل من عمل يده
والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء
قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا في الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله} [الجمعة (10) ] .
هذا أمر إباحة بعد النهي عن البيع، وكان عراك بن مالك إذا صلَّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد، فقال: اللَّهُمَّ إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك، وأنت خير الرازقين.
(1/359)
[539] وعن أَبي عبد الله الزبير بن العَوَّام - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ يَأخُذَ أحَدُكُمْ أحبُلَهُ ثُمَّ يَأتِيَ الجَبَلَ، فَيَأْتِيَ بحُزمَةٍ مِنْ حَطَب عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيكُفّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْألَ النَّاسَ، أعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» . رواه البخاري.
[540] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ يَحْتَطِبَ أحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَسْألَ أحداً فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: الحضُّ على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشاق، لما يدخل على السائل من ذل السؤال، وعلى المسؤول من الحرج.
[541] وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ دَاوُدُ - عليه السلام - لا يَأكُلُ إلا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» . رواه البخاري.
كان داود عليه السلام ملكًا نبيًّا، وكان ينسج الدروع ويبيعها، ولا يأكل إلا من ثمنها.
[542] وعنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ زَكرِيّا - عليه السلام - نَجَّاراً» . رواه مسلم.
فيه: جواز الصنائع، وأن النجارة صناعة فاضلة وأنها لا تسقط المروءة.
[543] وعن المقدام بنِ مَعْدِ يكرِبَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
(1/360)
قَالَ: «مَا أكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أنْ يَأكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِه، وَإنَّ نَبيَّ الله دَاوُدَ - عليه السلام - كَانَ يَأكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» . رواه البخاري.
الاكتساب لا ينافي التوكل، فقد كان للجنيد دكان في البزازين، وكان يرخي ستره عليه، فيصلي ما بين الظهر والعصر، وكان إبراهيم بن أدهم يكثر الكسب وينفق منه ضرورته، ويتصدق بباقيه، وكان أحب طرقه إليه حفظ البساتين وخدمتها، لأنه تتم له فيها الخلوة.
وفي الحديث الآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» .
60- باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقةً بالله تعالى
الكرم: الإنفاق بطيب نفس، والجود: الإنفاق فيما يعظم خطره ونفعه.
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ (39) ] .
أي: ما أنفقتم في رضا الله عزَّ وجلّ فهز يخلفه في الدنيا بالمال، أو بالقناعة، وفي الآخرة بالجزاء المضاعف، قال الله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة (245) ] .
وقال تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة (272) ] .
أي: ما تنفقوا من خير فثوابه لأنفسكم، فلا تمنُّوا به، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله.
(1/361)
قال عطاء: إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} ثوابه. {وَأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي: لا تنقصون.
وقال تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فإنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة (273) ] .
أي: فيجازيكم بقدره.
[544] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الحَقّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا ويُعَلِّمُهَا» . متفقٌ عَلَيْهِ.
ومعناه: يَنْبَغي أنْ لا يُغبَطَ أحَدٌ إلا عَلَى إحْدَى هَاتَيْنِ الخَصْلَتَيْنِ.
الحكمة: العلم. وضابطها ما منع الجهل، وزجر عن القبيح، والعلم النافع هو القرآن والسنَّة.
[545] وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيُّكُم مَالُ وَارِثِهِ أحبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟» قالوا: يَا رسول اللهِ، مَا مِنَّا أحَدٌ إلا مَالُهُ أحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ: ... «فإنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ» . رواه البخاري.
فيه: التحريض على ما يمكن تقديمه من المال في وجوه البر لينتفع به في الآخرة.
[546] وعن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: أن الصدقة تقي من النار، ولو كانت قليلة، وفي الحديث الآخر: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النار» .
(1/362)
[547] وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئاً قَطُّ، فقالَ: لا. متفقٌ عَلَيْهِ.
كان - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق بالرد فإن كان عنده المسؤول، وساغ الإعطاء أعطى وإلا وعد كما قال تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} [الإسراء (28) ] .
[548] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبحُ العِبَادُ فِيهِ إلا مَلَكَانِ يَنْزلانِ، فَيَقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً» . متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: الحض على الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملك.
[549] وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ الله تَعَالَى: أنفِق يَا ابْنَ آدَمَ يُنْفَقْ عَلَيْكَ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
الإنفاق الممدوح: ما كان في الطاعات، وعلى العيال والضيفان.
[550] وعن عبد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رَجُلاً سَألَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الإسلامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
المراد: الإطعام على وجه الصدقة، والهدية، والضيافة، ونحو ذلك.
وقوله: «وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» . المراد به: إفشاء السلام على من لقيت.
وفيه: حض على ائتلاف القلوب واستجلاب مودتها.
(1/363)
[551] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرْبَعُونَ خَصْلَةً: أعْلاهَا مَنِيحةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بخَصْلَةٍ مِنْهَا؛ رَجَاءَ ثَوَابهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إلا أدْخَلَهُ الله تَعَالَى بِهَا الجَنَّةَ» . رواه البخاري. وقد سبق بيان هَذَا الحديث في باب بَيَانِ كَثْرَةِ طُرُقِ الخَيْرِ.
في هذا الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على فعل الخير ولو كان قليلاً، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» .
قال ابن بطال: ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالمًا بالأربعين، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك خشية أنْ يكون التعيين لها مزهدًا في غيرها من أبواب البر.
[552] وعن أَبي أُمَامَة صُدّيِّ بن عَجْلانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ أن تَبْذُلَ الفَضلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأن تُمْسِكَه شَرٌّ لَكَ، وَلا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَاليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» . رواه مسلم.
الفضل: ما زاد على ما تدعو إليه حاجة الإنسان لنفسه ولمن يمونه من زوجة، وعبد، ودابة، وقريب؛ فلا يلام على إمساك ما يكف به الحاجة لذلك.
[553] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الإسْلاَمِ شَيْئاً إلا أعْطَاهُ، وَلَقَدْ جَاءهُ رَجُلٌ، فَأعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ
(1/364)
جَبَلَيْنِ، فَرجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، أسْلِمُوا فإِنَّ مُحَمَّداً يُعطِي عَطَاءَ مَن لا يَخْشَى الفَقْر، وَإنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُريدُ إلا الدُّنْيَا، فَمَا يَلْبَثُ إلا يَسِيراً حَتَّى يَكُونَ الإسْلاَمُ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا. رواه مسلم.
في هذا الحديث: جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم ترغيبًا في الإسلام.
وفيه: كمال معرفته - صلى الله عليه وسلم - بدواء كل داء.
[554] وعن عمر - رضي الله عنه - قَالَ: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَسْماً، فَقُلْتُ: يَا رسولَ الله، لَغَيْرُ هؤلاَءِ كَانُوا أحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: «إنَّهُمْ خَيرُونِي أنْ يَسألُوني بالفُحْشِ، أَوْ يُبَخِّلُونِي، وَلَسْتُ بِبَاخِلٍ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من عظيم الخلق، والصبر، والحلم، والإعراض عن الجاهلين.
[555] وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْن، فَعَلِقَهُ الأعْرَابُ يَسْألُونَهُ، حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَة، فَخَطِفَت رِدَاءهُ، فَوَقَفَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أعْطُوني رِدَائي، فَلَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هذِهِ العِضَاهِ نَعَماً، لَقَسَمْتُهُ بَينَكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلا كَذّاباً وَلا جَبَاناً» . رواه البخاري.
«مَقْفَلَهُ» أيْ: حَال رُجُوعِه. وَ «السَّمُرَةُ» : شَجَرَةٌ. وَ «العِضَاهُ» : شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ.
في هذا الحديث: ذم البخل، والكذب، والجبن.
وفيه: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الحلم وحسن الخلق، والصبر على جفاة
(1/365)
الأعراب، وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة.
[556] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَال، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إلا عِزّاً، وَمَا تَواضَعَ أحَدٌ لله إلا رَفَعَهُ اللهُ - عز وجل -» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، لما تدفعه عنه الصدقة من الآفات، وتنزل بسبها البركات.
وفيه: أن من عُرِف بالعفو والصفح ساد وعظم في قلوب الناس، وأن من تواضع رفعه الله في الدنيا والآخرة.
[557] وعن أَبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري - رضي الله عنه - أنّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثَلاَثَةٌ أُقْسمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إلا زَادَهُ اللهُ عِزّاً، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسألَةٍ إلا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقرٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - وَأُحَدِّثُكُمْ حَديثاً فَاحْفَظُوهُ، قَالَ: «إنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلماً، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقَّاً، فَهذا بأفضَلِ المَنَازِلِ.
(1/366)
وَعَبْدٍ رَزَقهُ اللهُ عِلْماً، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بنيَّتِهِ، فأجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالاً، وَلَمَ يَرْزُقْهُ عِلْماً، فَهُوَ يَخبطُ في مَالِهِ بغَيرِ عِلْمٍ، لا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلا يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقّاً، فَهذَا بأَخْبَثِ المَنَازِلِ. وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلا عِلْماً، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي
مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
قوله: «ما نقص مال عبد من صدقة» . يشهد له قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ (39) ] .
قوله: «ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا» ، يشهد له قوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى (43) ] .
قوله: «ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» وهذا مشاهد بالحس ويشهد له قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر (15) ] .
قوله: «إنما الدنيا لأربعة ... » إلخ فالأول عَلِمَ وعَمِلَ صالحًا. والثاني: عَلِمَ وعزم على العمل الصالح لو قدر، فأجرهما سواء والثالث: لم يعْلَمْ ولم يعمَلْ في ماله صالحًا. والرابع: لم يعلَمْ وعزم على العمل السيِّئ، لو قدر على مال فوزهما سواء.
وقال بعض العارفين:
أربعة تعجبت من شأنهم ... ?? ... فالعينُ في فكرتهم ساهرة ... ???
فواحد دنياه مبسوطة ... ?? ... قد أوتي الدنيا مع الآخرة ... ??
وآخر دنياه مقبوضة ... ???? ... وبعدها آخرة وافرة ... ?????
وثالث دنياه مبسوطة ... ?? ... ليست له من بعده آخرة ... ???
ورابع أسقط من بينهم ... ?? ... ليست له دنيا ولا آخرة ... ???
قال الله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء (21) ] .
[558] وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَقِيَ مِنْهَا؟» قالت: مَا بَقِيَ مِنْهَا إلا كَتِفُها. قَالَ: «بَقِيَ
(1/367)
كُلُّهَا غَيْرُ كَتِفِهَا» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» .
ومعناه: تَصَدَّقُوا بِهَا إلا كَتِفَها. فَقَالَ: بَقِيَتْ لَنَا في الآخِرَةِ إلا كَتِفَهَا.
فيه: تحريض على الصدقة والاهتمام بها، وألا يكثر المرء ما أنفقه فيها.
[559] وعن أسماء بنت أَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما، قالت: قَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُوكِي فَيُوكي الله عَلَيْكِ» .
وفي رواية: «أنفقي أَوِ انْفَحِي، أَوْ انْضَحِي، وَلا تُحصي فَيُحْصِي اللهُ عَلَيْكِ، وَلا تُوعي فَيُوعي اللهُ عَلَيْكِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
وَ «انْفَحِي» بالحاء المهملة، وَهُوَ بمعنى «أنفقي» وكذلك «انْضحي» .
في هذا الحديث: أن الجزاء من جنس العمل، وأن من منع ما عنده من المال قطع الله عنه مادة الرزق، وهذا مفهوم قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ (39) ] .
وفيه: الحث على الإنفاق في وجوهه ثقة بالله تعالى.
[560] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: «مَثَل البَخيل وَالمُنْفِقِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَديد مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ إلا سَبَغَتْ - أَوْ وَفَرَتْ - عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ، وَتَعْفُو أثرَهُ، وأمَّا البَخِيلُ، فَلا يُريدُ أنْ يُنْفِقَ شَيْئاً إلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوسِّعُهَا فَلا تَتَّسِعُ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
(1/368)
وَ «الجُبَّةُ» : الدِّرْعُ؛ وَمَعنَاهُ أنَّ المُنْفِقَ كُلَّمَا أنْفَقَ سَبَغَتْ، وَطَالَتْ حَتَّى تَجُرَّ وَرَاءهُ، وَتُخْفِيَ رِجْلَيْهِ وَأثَرَ مَشْيِهِ وَخطُوَاتِهِ.
القبض والشح من جبلة الإنسان قال الله تعالى: {وَكَانَ الإنسَانُ ... قَتُوراً} [الإسراء (100) ] ، والنفقة تستوعب عيوبه.
وفي الحديث: وعدٌ للمنفق بالبركة والصيانة من البلاء والبخيل بضد ذلك. قال الله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ... [الحشر (9) ] .
[561] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَصَدَّقَ بعَدلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللهُ إلا الطَّيبَ، فَإنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
«الفَلُوُّ» بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، ويقال أيضاً: بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو: وَهُوَ المُهْرُ.
فيه: أن الله لا يقبل الصدقة إلا من الكسب الطيب، وهو الحلال. وفي رواية: «ولا يصعد إلى الله إلا الطيب.
قوله: «بيمينه» . قال الترمذي: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيهًا ولا نقول كيف، هكذا رُوي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك، وغيرهم.
[562] وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ، اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت
(1/369)
ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ المَاءَ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، ما اسمُكَ؟ قال: فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ، فقال له: يا عبدَ الله، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوتْاً في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ، يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا، فَقَالَ: أمَا إذ قلتَ هَذَا، فَإنِّي أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ» . رواه مسلم.
«الحَرَّةُ» الأَرْضُ المُلَبَّسَةُ حجَارَةً سَوْدَاءَ. وَ «الشَّرْجَةُ» بفتح الشين المعجمة وإسكان الراءِ وبالجيم: هي مَسِيلُ الماءِ.
في هذا الحديث: أن الصدقة تنتج البركة والمعونة من الله.
وفي الحديث الآخر: «ما نقصت صدقة من مال بل تزيده، بل تزيده» .
61- باب النهي عن البخل والشح
قَالَ الله تَعَالَى: {وَأَمَا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل (8: 11) ] .
البخل: معروف، والشح أبلغ من البخل؛ لأنه يبخل بما عنده، ويطلب ما ليس له. وقوله تعالى: {وَأَمَا مَنْ بَخِلَ} ، أي: بالإنفاق في الخيرات، {وَاسْتَغْنَى} ، أي: بالدنيا عن الآخرة، {وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى} ، أي: بالجزاء في الدار الآخرة، {فَسَنُيَسِّرُهُ} نهيئه {لِلْعُسْرَى} لطريق الشر، وهي الأعمال السيِّئة الموجبة للنار، {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ} الذي يبخل به {إِذَا تَرَدَّى} إذا مات، وهو في جهنم.
وقال تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن (16) ] .
(1/370)
أي: ومن سلم من الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم، {فَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، أي: الفائزون.
قال ابن زيد وغيره: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس.
وقال ابن مسعود: شح النفس: أكل مال الناس بالباطل. أما منع الإنسان ماله فبخل، وهو قبيح.
قال ابن عطية: شح النفس فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده.
وأما الأحاديث فتقدمت جملة مِنْهَا في الباب السابق.
[563] وعن جابر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أنْ سَفَكُوا دِمَاءهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» . رواه مسلم.
أي: استحلوا ما حرم الله عليهم حرصًا على المال، كما احتالوا على ما حرم الله عيهم من الشحوم، فأذابوها فباعوها واحتالوا لصيد السمك فحبلوا له يوم الجمعة وأخذوه يوم الأحد، وغير ذلك مما استحلوا به محارمهم وسفكوا به دماءهم.
62- باب الإيثار والمواساة
قَالَ الله تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
[الحشر (9) ] .
يعني: فاقة وحاجة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم.
وقال تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} ... [الدهر (8) ] . إلى آخر الآيات
(1/371)
يعني: ويطعمون الطعام وهم يحبونه، ويشتهونه، مسكينًا، ويتيمًا، وأسيرًا، وإن كان كافرًا، لوجه الله تعالى لا لحظ النفس، وخوفًا من عذاب يوم القيامة، فوقاهم الله شرَّ ذلك اليوم، ولقاهم نضرة في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم، وجزاهم بما صبروا على ترك الشهوات، وأداء الواجبات جنةً وحريرًا.
[564] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إنِّي مَجْهُودٌ، فَأرسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقالت: وَالَّذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا عِنْدِي إلا مَاءٌ، ثُمَّ أرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثلَ ذَلِكَ: لا وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ مَا عِنْدِي إلا مَاءٌ. فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُضيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا يَا رسولَ الله، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أكرِمِي ضَيْفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي روايةٍ قَالَ لامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فقَالَتْ: لا، إلا قُوتَ صِبيَانِي. قَالَ: فَعَلِّليهم بِشَيْءٍ وَإذَا أرَادُوا العَشَاءَ فَنَوِّمِيهمْ، وَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأطْفِئي السِّرَاجَ، وَأريهِ أنَّا نَأكُلُ. فَقَعَدُوا وَأكَلَ الضَّيْفُ وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «لَقَدْ عَجبَ الله مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
هذا الحديث: أخرجه البخاري في التفسير، وفي فضائل الأنصار.
وفيه: استحباب الإيثار على النفس ولو كان محتاجًا، وكذلك على العيال إذا لم يضرهم.
[565] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طَعَامُ الاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلاَثَةِ كَافِي الأربَعَةِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
(1/372)
وفي رواية لمسلمٍ عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «طَعَامُ الوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَة يَكْفِي الثَّمَانِية» .
المراد بذلك: الحض على المكارم، والتقنع بالكفاية، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما، وإدخال رابع أيضًا بحسب من يحضر.
وعند الطبراني: «كلوا جميعًا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين» . الحديث. فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ من بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما زاد زادت البركة.
وفيه: إشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصل معها البركة.
وفيه: أنه ينبغي للمرء أن لا يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء.
[566] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصرِفُ بَصَرَهُ يَميناً وَشِمَالاً، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَليَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ» . فَذَكَرَ مِنْ أصْنَافِ المالِ مَا ذكر حَتَّى رَأيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ. رواه مسلم.
في هذا الحديث: الأمر بالمواساة من الفاضل، وهو كحديث: إنك يا ابن آدم إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول.
(1/373)
[567] وعن سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه - أنَّ أمْرَأةً جَاءَتْ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ، فَقَالَتْ: نَسَجْتُها بِيَدَيَّ لأَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإنَّهَا إزَارُهُ، فَقَالَ فُلانٌ: اكْسُنِيهَا مَا أحْسَنَهَا! فَقَالَ:
«نَعَمْ» فَجَلَسَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المَجْلِسُ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَواهَا، ثُمَّ أرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ: فَقَالَ لَهُ الْقَومُ: مَا أحْسَنْتَ! لَبِسَهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحتَاجَاً إِلَيْهَا، ثُمَّ سَألْتَهُ وَعَلِمْتَ أنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلاً، فَقَالَ: إنّي وَاللهِ مَا سَألْتُهُ لألْبِسَهَا، إنَّمَا سَألْتُهُ لِتَكُونَ كَفنِي. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. رواه البخاري.
في هذا الحديث: جواز إعداد الشيء قبل الحاجة إليه.
وفيه: حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وسعة جوده وقَبول الهدية.
[568] وعن أَبي موسى - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إِذَا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بالمَديِنَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ في إنَاءٍ وَاحدٍ بالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْهُمْ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
«أرْمَلُوا» : فَرَغَ زَادُهُمْ أَوْ قَارَبَ الفَرَاغَ.
في الحديث: فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار، والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد عند الحاجة.
63- باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك بِهِ
قَالَ الله تَعَالَى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين (26) ] .
يعرف ذلك مما قبل الآية هو قوله تعالى: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ *
(1/374)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ
لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين (18: 26) ] ، أي: فليتسابق المتسابقون، كقوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات (61) ] .
[569] وعن سَهْلِ بن سَعدٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِشَرابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ، فَقَالَ لِلغُلاَمِ: «أتَأذَنُ لِي أنْ أُعْطِيَ هؤُلاء؟» فَقَالَ الغُلامُ: لا وَاللهِ يَا رسولَ الله، لا أُوْثِرُ بِنَصِيبي مِنْكَ أحَداً. فَتَلَّهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في يَدِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
«تَلَّهُ» بالتاءِ المثناة فوق: أيْ وَضَعَهُ. وَهذَا الغُلامُ هُوَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
في الحديث: أن سنَّة الشرب العامة تقديم الأيمن في كل موطن.
وفيه: أن من استحق شيئًا لم يدفع عنه إلا بإذنه.
قال ابن الجوزي: وأنه استأذن الغلام دون الأعرابي في الحديث الآخر؛ لأن الأعرابي لم يكن له علم بالشريعة، فاستألفه بترك استئذانه.
[570] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَا أيُّوبُ - عليه السلام - يَغْتَسِلُ عُرْيَاناً، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْثِي في ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ - عز وجل -: يَا أيُّوبُ، ألَمْ أكُنْ أغْنَيتكَ عَمَّا تَرَى؟! قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لا غِنى بي عن بَرَكَتِكَ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: جواز الاغتسال عريانًا في الخلوة.
(1/375)
وفيه: جواز الحرص على الاستكثار من الحلال في حق من وثق من نفسه بالشكر.
قال بعض العلماء: إنما حرص عليه أيوب عليه السلام لأنه قريب عهد بربه، كما حسر نبينا - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حين نزل المطر، وقيل: لأنه نعمة جديدة خارقة للعادة، وكل ما نشأ عنها فهو بركة.
64- باب فضل الغَنِيّ الشاكر
وهو من أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بِهَا
قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرَى} [الليل (5: 7) ] .
أي: أعطى ماله لوجه الله، واتقى محارمه، وصدق بالحسنى، أي: المجازاة، فسنيسِّره، نهيِّئه في الدنيا لليسرى، أي: للخلة التي توصله إلى اليسرى، والراحة في الآخرة، وهي الأعمال الصالحة.
وقال تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل (17: 21) ] .
أي: وسيجنب النار الأتقى، أي: من اتقى الشرك والمعاصي؛ الذي يعطي ماله في طاعة الله، يطلب تزكية نفسه طلبًا لمرضاة الله، ولسوف يرضى حين يرى جزاءه في الآخرة، وهذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وهي عامة في جميع المؤمنين.
وقال تَعَالَى: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِي وَإنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة (271) ] .
أي: إنْ تبدوا الصدقات فَنِعْمَ ما أبديتم، وإنْ تعطوها مع إخفاء الفقراء فهو خير لكم.
(1/376)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: السر في التطوع أفضل من العلانية، والفريضة علانيتها أفضل.
وقال تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران (92) ] .
أي: لن تنالوا كمال الخير حتى تنفقوا من المال الذي تحبونه، وما تنفقوا من شيء فإنَّ الله به عليم فيجازيكم بحسبه.
والآيات في فضلِ الإنفاقِ في الطاعاتِ كثيرة معلومة.
كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة (274) ] ، وغيرها من الآيات المعروفة.
[571] وعن عبدِ الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» . متفقٌ عَلَيْهِ. وتقدم شرحه قريباً.
فيه: أن شكر المال؛ إنفاقه في وجوه الطاعات، وأن شكر العلم العمل به وتعليمه.
[572] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ القُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله مَالاً، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
(1/377)
«الآناء» : السَّاعاتُ.
أي: لا ينبغي أن يغبط أحد إلا في هذين الخصلتين.
[573] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ فُقَراءَ المُهَاجِرينَ أتَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى، وَالنَّعِيم المُقيم، فَقَالَ: ... «وَمَا ذَاك؟» فَقَالوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيَعْتِقُونَ وَلا نَعْتِقُ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أحَدٌ أفْضَلَ مِنْكُمْ إلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟» قالوا: بَلَى يَا رسول الله، قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتَحْمِدُونَ وَتُكَبِّرُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ مَرَّةً» فَرَجَعَ فُقَرَاء المُهَاجِرِينَ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أهلُ الأمْوالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثلَهُ؟ فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» . متفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذا لفظ رواية مسلم.
«الدُّثُور» : الأمْوَالُ الكَثِيرَةُ، وَالله أعلم.
في هذا الحديث: فضل الغني على الفقير إذا استوت أعماله وأعمال الفقير البدنية.
وفيه: أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف، أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل.
وفيه: أن العمل السهل قد يدرِك به صاحبه فضل العمل الشاق، وأن العمل القاصر قد يساوي المتعدِّي.
65- باب ذكر الموت وقصر الأمل
قَالَ الله تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
(1/378)
الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَياةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران (185) ] .
في هذه الآية: وعد للمصدقين والمتقين ووعيد للمكذبين والعاصيين، وأن الفائز من نجي من النار، وأدخل الجنة، وأنَّ من اغترَّ بالدنيا فهو مغرور خاسر.
وقال تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدْري نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان (34) ] .
قال قتادة: أشياء استأثر الله بهنَّ فلم يطلع عليهنَّ ملكًا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلاً، {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أي سنة، أو في أي شهر، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} ، فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهارًا، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} ، أذكر أم أنثى،
أحمر أو أسود، وما هو، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} أخير أم شرّ، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت، لعلك الميت غدًا، لعلك المصاب غدًا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ، أي ليس من أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر، أم في بر، أو سهل، أو جبل.
وروى الطبراني عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما جعل الله منية عبد بأرض إلا جعل الله له فيها حاجة» .
(1/379)
وقال أعْشَى همدان:
فَمَا تَزُود مِمّا كَانَ يَجْمَعَه ... ?? ... سِوَى حنُوط غادة البَيْن مَع خرق ... ???
وَغَيْرُ نَفْحَةِ أَعْوَاد تَشِب لَهُ ... ?? ... وَقُلْ ذَلِكَ من زَادَ لمُنْطَلَق ... ????
لا تَأسِين عَلَى شَيْء فَكُل فَتَى ... ?? ... إِلَى مَنْيَتِهِ سَيّار فِي عَنَق ... ???
وَكُلّ مَنْ ظَنّ أَنَّ المَوْت يُخْطِئُهُ ... ?? ... مُعَلّل بِأَعَالِيل من حمق ... ???
بِأَيّمَا بَلْدَةٍ تقدر منْيَته ... ?? ... إِلا يَسِير إِلَيْهَا طائعًا شبق ... ???
وقال تَعَالَى: {فَإذَا جَاءَ أجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف (34) ] .
أي: إذا جاء وقت انقضاء أعمارهم لا يتأخرون عنه، ولا يتقدمون.
وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوَالُكُمْ وَلا أوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هم الْخَاسِرُونَ * وَأنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَريبٍ
فَأصَّدَّقَ وأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون (9: 11) ] .
في هذه الآيات: النهي عن الاشتغال بالأموال، والأولاد عن طاعة الله، والأمر بالإنفاق قبل الموت، والحض على المبادرة بالأعمال الصالحة، والتوبة قبل حضور الأجل.
وقال تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلّي أعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يبْعَثُونَ * فَإذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأولئِكَ الَّذِينَ خَسرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وَجَوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ... كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْئَلِ العَادِّينَ * قَالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون (99: 115) ] .
(1/380)
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} ، أي: ردوني إلى الدنيا {لَعَلّي أعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا} ، ردع عن طلب الرجعة، واستبعاد لها {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ، لا محالة، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه {وَمِنْ وَرَائِهِمْ} ، أي: أمامهم، {بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ
يبْعَثُونَ} ، {فَإذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل للبعث {فَلا أنْسَابَ بَيْنَهُمْ} ، أي لا تنفع، {يَومَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ} ، أي: لا يسأل قريب قريبه، بل يفرح أن يجب له حق ولو على ولده.
{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ، أي: موازين أعماله، {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الفائزون بالنجاة والدرجات، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأولئِكَ الَّذِينَ خَسرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وَجَوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} أي: عابسون، وهم الكفار، {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} . وأما المسلمون فمن خفت موازين حسناته فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه، ومصيره بعد ذلك إلى الجنة.
{قَالُوا} ، أي الكفار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً} ، نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بِصَدَدِهِ من العذاب، وقيل: المراد السؤال عن مدة لبثهم في القبور؛ لأنهم أنكروا البعث.
فقيل لهم لما قاموا من القبور: {كَمْ لَبِثْتُمْ} ، {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْئَلِ العَادِّينَ} ، أي: الحاسبين، وهم الملائكة، {قَالَ إنْ
لَبِثْتُمْ إلا قَلِيلاً} ، أي: ما لبثتم فيها إلا زمانًا قليلاً، {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ} ، أي: لما آثرتم الفاني على الباقي، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} ، لعبًا وباطلاً. {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} ، أي: في الآخرة للجزاء، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} ، أي: تقدس، أن يخلق شيئًا عبثًا لا لحكمة، فإنه الملك الحق المنزَّه عن ذلك {لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ ... الْكَرِيمِ} .
(1/381)
وقال تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِم الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد (16) ] .
وَالآيات في الباب كَثيرةٌ معلومة.
{أَلَمْ يَأْنِ} ألم يحن، أي: أما آن للمؤمنين {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهم، وتنقاد له.
قال ابن عباس: إنَّ الله استبطأ المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن.
ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أول ما يرفع من الناس الخشوع» .
وقال ابن مسعود: إنَّ بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، اخترعوا كتابًا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم، واستحلته ألسنتهم، وكَانَ الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، فقالوا: تعالوا ندعوا بني إسرائيل
إلى كتابنا هذا، فمن تابعنا عليه تركناه، ومن كره أن يتابعنا قتلناه، ففعلوا ذلك.
ورُوي عن ابن المبارك أنه في صباه حرك العود ليضربه، فإذا به قد نطق بهذه الآية، فتاب ابن المبارك، وكسر العود، وجاءه التوفيق والخشوع.
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن طاعة الله، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» .
(1/382)
[574] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِمِنْكَبي، فَقَالَ: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، يقول: إِذَا أمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أصْبَحتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه البخاري.
الإنسان في الدنيا غريب ووطنه الحقيقي الجنة، وهي التي أنزل الله بها الأبوين ابتداء، وإليها المرجع إن شاء الله تعالى بفضل الله ورحمته، وهو مسافر في الدنيا بالأعمال الصالحة، وترك الأعمال السيئة، والمسافر لا يأخذ من المتاع إلا ما تدعوا إليه ضرورته، فإن الدنيا دار ممر، والآخرة هي دار المقر، فتزودوا من ممركم لمقركم، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار.
قال الشارح محمد بن علان رحمه الله تعالى:
إذا أمسيت فابتدئ الفلاحا ... ?? ... ولا تهمله تنتظر الصباحا ... ???
وتب مما جنيت فكم أناسًا ... ?? ... قَضَوا نحبًا وقد باتوا صحاحًا ... ??
[575] وعنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . متفقٌ عَلَيْهِ، هَذَا لفظ البخاري.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: «يَبِيتُ ثَلاَثَ لَيَالٍ» قَالَ ابن عمر: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ إلا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي.
فيه: استحباب الوصية، واستحباب كتابتها، فإن كان عليه دين أو عنده أمانة وجب كتابتها.
(1/383)
وفيه: أنه لا ينبغي للمسلم أن يغفل عن الموت والاستعداد له.
[576] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خُطُوطاً، فَقَالَ: «هَذَا الإنْسَانُ، وَهَذَا أجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ جَاءَ الخَطُّ الأَقْرَبُ» . رواه البخاري.
[577] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَطّاً مُرَبَّعاً، وَخَطَّ خَطّاً في الوَسَطِ خَارِجَاً مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطاً صِغَاراً إِلَى هَذَا الَّذِي في الْوَسَطِ مِنْ جَانِبهِ الَّذِي في الوَسَط، فَقَالَ: «هَذَا الإنْسَانُ، وَهذَا أجَلُهُ مُحيطاً بِهِ - أَوْ قَدْ أحَاطَ بِهِ - وَهذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أمَلُهُ، وَهذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإنْ أخْطَأَهُ هَذَا، نَهَشَهُ هَذَا، وَإنْ أخْطَأَهُ هَذَا، نَهَشَهُ هَذَا» . رواه البخاري.
ذُكر فيه صور كثيرة، وأقربها هكذا -، فالخط الأوسط هو الإِنسان، والمربع: أجله، والصغار: الآفات تعرض له، والخارج من المربع أمله.
وفي الحديث: التحريض على قصر الأمل والاستعداد لبغتة الأجل.
[578] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَادِرُوا بِالأعْمَالِ سَبْعاً، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلا فَقْراً مُنْسِياً، أَوْ غِنَىً مُطْغِياً، أَوْ مَرَضَاً مُفْسداً، أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتَاً مُجْهِزاً، أَوْ الدَّجّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أدْهَى وَأمَرُّ» ؟! . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
(1/384)
في الحديث: الأمر بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة، قبل حصول واحدة من هذه النوازل التي تذهل الإِنسان من التوجُّه إلى العبادات.
[579] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» يَعْنِي: المَوْتَ. رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
هاذم اللذات بالمعجمة، أي: قاطعها. وروي بالمهملة أي مزيلها من أصلها.
وفي حديث أنس مرفوعًا: «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها ... عليه» .
[580] وعن أُبَيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ قَامَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللهَ، جَاءتِ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ» قُلْتُ: يَا رسول الله، إنِّي أُكْثِرُ الصَّلاَةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاَتِي؟ قَالَ: «مَا ... شِئْتَ» قُلْتُ: الرُّبُع، قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: فَالنِّصْف؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: فالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: أجعَلُ لَكَ صَلاَتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: «إذاً تُكْفى هَمَّكَ، وَيُغْفَر لَكَ ذَنْبكَ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
في هذا الحديث: تنبيه الناس من سِنَةِ الغفلة وتحريضهم على الطاعات.
(1/385)
والراجفة: هي النفخة الأولى.
والرادفة: الثانية.
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر (68) ] .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «جاء الموت بما فيه» . أي: من الأهوال عند الاحتضار، وفي القبر وأهواله.
وقوله: فكم أجعل لك من صلاتي، أي: من دعائي.
وفيه: جواز ذكر الإنسان صالح عمله، لغرض كالاستفتاء ونحوه.
66- باب استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر
[581] عن بُرَيْدَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُوروها» . رواه مسلم.
النهي عن زيارة القبور كان في أول الإِسلام، لقرب عهدهم بالجاهلية وكلماتها القبيحة، وأفعالهم التي كانوا يألفونها عند القبور، فلما علموا أحكام الشرع أمرهم بزيارتها لأنها تذكر الآخرة.
وروى الحاكم عن أنس مرفوعًا: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها ترق القلب، وتُدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا ... هَجْرًا» .
[582] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّما كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى البَقِيعِ
(1/386)
فَيقولُ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَداً مُؤَجَّلْونَ، وَإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ» . رواه مسلم.
[583] وعن بريدة - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ أنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أهلَ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُسلمينَ، وَإنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ للاَحِقونَ، أسْألُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ العَافِيَةَ» . رواه مسلم.
[584] وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِقُبورٍ بالمدِينَةِ فَأقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ، أنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحنُ بالأثَرِ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
في هذه الأحاديث: استحباب زيارة القبور والدعاء لأهلها.
67- بابُ كراهة تمنّي الموت بسبب ضُرّ نزل بِهِ
وَلا بأس بِهِ لخوف الفتنة في الدين
[585] عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَتَمَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ، إمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ» . متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ البخاري.
(1/387)
وفي رواية لمسلم عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَتَمَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ، وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَهُ؛ إنَّهُ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإنَّهُ لا يَزِيدُ المُؤْمِنَ عُمُرُهُ إلا خَيْراً» .
[586] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ أصَابَهُ، فَإنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلاً، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيِني مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَت الوَفَاةُ خَيراً لي» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذه الأحاديث: النهي عن تمني الموت لضرٍّ أصابه من مرض، أو فقر أو نحو ذلك، وإنما كره تمنيه حينئذٍ لأنه يشعر بعدم الرضا بالقضاء.
وفي الحديث الآخر: «خيركم من طال عمره وحسن عمله» .
[587] وعن قيسِ بن أَبي حازم، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى خَبَّاب بن الأرَتِّ - رضي الله عنه - نَعُودُهُ وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ، فَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا، وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا، وَإنَّا أصَبْنَا مَا لا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعاً إلا التُّرَابَ وَلولا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا أنْ نَدْعُوَ بالمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ. ثُمَّ أتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يَبْنِي حَائِطاً لَهُ، فَقَالَ: إنَّ المُسْلِمَ لَيُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إلا فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ في هَذَا التُّرَابِ. متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ رواية البخاري.
فيه: جواز الكي، والنهي عن الدعاء بالموت، وجواز دفن المال إذا أعطى حقه الواجب فيه.
وفيه: كراهة البناء من غير حاجة.
(1/388)
68- باب الورع وترك الشبهات
قَالَ الله تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور (15) ] .
الورع: ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس. والشبهات: ما لم يتضح وجه حله ولا حرمته.
قال حسان بن أبي سنان: ما رأيتُ شيئًا أهون من الورع: (دع ما يريبك إلى ما يريبك) . وهذه الآية نزلت في قصة عائشة حين رماها أهل الإفك، فقال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم
بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور (15) ] ، أي: تظنون أنه سهل لا إثم فيه، ووزره عظيم.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار بُعْدَ مَا بين المشرق والمغرب» .
وقال تَعَالَى: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر (14) ] .
قال الكلبي: عليه طريق العباد لا يفوته أحد.
وقال ابن عباس: يرى ويسمع ويبصر ما تقول وتفعل وتهجس به العباد.
قال ابن كثير: يعني يرصد خلقه فيما يعملون ويجازي كلا بسعيه.
[588] وعن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبَهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ
(1/389)
الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وَإنَّ لكُلّ مَلِكٍ حِمَىً، ألا وَإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ القَلْبُ» . متفقٌ عَلَيْهِ، وروياه مِنْ طرقٍ بِألفَاظٍ متقاربةٍ.
هذا الحديث: أصل عظيم من أصول الشريعة، وأجمع العلماء على عظم موقعه، وكثرة فوائده.
قوله: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» ، فيه إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة.
قال بعض العلماء: المكروه: عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح: عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر من المباح تطرق إلى المكروه.
قوله: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلح الجسد كله» ، أي: إذا صلح القلب بالإِيمان والعرفان، صلح بالأعمال والأحوال.
وما أحسن قول القائل:
وإذا حلت العناية قلبًا ... ?? ... نشطت للعبادة الأعضاءُ ... ???
فالقلب كالملك، والأعضاء كالرعية، وبصلاح الملك تصلح الرعية، وبفساده تفسد.
[589] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ: ... «لَوْلا أنِّي أخَافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَة لأَكَلْتُهَا» . متفقٌ عَلَيْهِ.
الحديث ذكره البخاري في باب ما يتنزه من الشبهات.
وفي الحديث: أنه ينبغي للإِنسان إذا شك في إِباحة شيء أن لا يفعله ما لم يُفْضِ إلى التنطع وأن الشيء التافه يجوز التقاطه من غير تعريف. ورأى عمر
(1/390)
رضي الله عنه رجلاً ينادي على عنبة التقطها، فضربه بالدِّرَّة وقال: إنَّ من الورع ما يمقت الله عليه.
وقال البخاري: باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات. وذكر حديث عبد الله بن زيد قال: شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يجد في الصلاة شيئًا أيقطع الصلاة؟ قال: «لا حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحًا» . وحديث
عائشة رضي الله عنها: أن قومًا قالوا: يَا رسول الله إنَّ قومًا يأْتوننا باللحم لا ندري أَذكروا اسم الله عليه أَم لا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَمَّوا الله عليه وكلوه» .
قال بعض العلماء: قد أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بجبنة وجبة، فأكل ولبس ولم ينظر لاحتمال مخالطة الخنزير لهم، ولا إِلى صُوفِها من مذبوح أو ميتة. ولو نظر أَحدٌ للاحتمال المذكور لم يجد حلالاً على وجه الأرض. وقال بعضهم: لا يتصور الحلال بيقين إلا في ماء المطر النازل من المساء الملتقي باليد.
[590] وعن النَّواسِ بن سمعان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «البِرُّ: حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» . رواه مسلم.
«حَاكَ» بِالحاءِ المهملةِ والكافِ: أيْ تَرَدَّدَ فِيهِ.
قوله: «البر حسن الخلق» . أي: التخلق بالأخلاق الحميدة، كطلاقة الوجه، وكف الأذى، وبذل الندى، والرفق، والعدل، والإنصاف، والإِحسان، والإِثْمُ هو ما أَثَّر في القلب ضيقًا ونفورًا، وكراهية، وهذا يرجع إِليه عند الاشتباه إِذا كانت الفتوى بمجرد ظن من غير دليل شرعي.
[591] وعن وَابِصَةَ بن مَعبدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أتَيْتُ رَسُول
(1/391)
الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ... «جئتَ تَسْألُ عَنِ البِرِّ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البرُّ: مَا اطْمَأنَّت إِلَيْهِ النَّفسُ، وَاطْمأنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، وَالإثْمُ: مَا حَاكَ في
النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإنْ أفْتَاكَ النَّاسُ وَأفْتُوكَ» . حديث حسن، رواه أحمد والدَّارمِيُّ في مُسْنَدَيْهِمَا.
وهذا الحديث من جوامع الكلم؛ لأَن (البر) كلمة جامعة لجميع أفعال الخير، (والإثم) كلمة جامعة لجميع أَفعال الشر.
[592] وعن أَبي سِرْوَعَةَ - بكسر السين المهملة وفتحها - عُقبَةَ بنِ الحارِثِ - رضي الله عنه - أنَّهُ تَزَوَّجَ ابنَةً لأبي إهَابِ بن عزيزٍ، فَأتَتْهُ امْرَأةٌ، فَقَالَتْ: إنّي قَدْ أرضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أعْلَمُ أنَّك أرضَعْتِنِي وَلا أخْبَرْتِني، فَرَكِبَ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ِ بِالمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ: فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ وَقَد قِيلَ» ؟ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجاً غَيْرَهُ. رواه البخاري.
«إهَابٌ» بكسر الهمزة وَ «عَزيزٌ» بفتح العين وبزاي مكررة.
في هذا الحديث: الحض على ترك الشبه والأخذ بالأحوط في الأمور.
[593] وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قَالَ: حَفِظتُ من ... رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْ مَا يريبُكَ إِلَى ما لا يَرِيبُكَ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
معناه: اتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِيهِ، وَخُذْ مَا لا تَشُكُّ فِيهِ.
فيه: إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه.
(1/392)
[594] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ لأبي بَكر الصديق - رضي الله عنه - غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْماً بِشَيءٍ، فَأكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلامُ: تَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بكر: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الكَهَانَةَ، إلا أنّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي، فَأعْطَانِي بِذلِكَ هَذَا الَّذِي أكَلْتَ مِنْهُ، فَأدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ. رواه البخاري.
«الخَرَاجُ» : شَيْءٌ يَجْعَلُهُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ يُؤدِّيهِ إلى السيد كُلَّ يَومٍ، وَباقِي كَسْبِهِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ.
الكهانة بكسر الكاف: مصدر تكهن، وبالفتح: مصدر كهن، أي قضى له بالغيب. وفي «الورع» لأحمد عن ابن سيرين: (لم أعلم أحدًا استقاء من طعام غير أبي بكر، فإنه أتي بطعام فأكل منه، ثم قيل له: جاء به ابن النعيمان، قال: وأطعمتموني كهانة ابن النعيمان، ثم استقاء) . قال الحافظ: إنما قاء أبو بكر لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن.
[595] وعن نافِع أن عُمَرَ بن الخَطّاب - رضي الله عنه - كَانَ فَرَضَ لِلمُهَاجِرينَ الأَوَّلِينَ أرْبَعَةَ الآفٍ وَفَرَضَ لابْنِهِ ثَلاَثَة آلافٍ وَخَمْسَمئَةٍ، فَقيلَ لَهُ: هُوَ مِنَ المُهَاجِرينَ فَلِمَ نَقَصْتَهُ؟ فَقَالَ: إنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أبَواهُ. يقول: لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ. رواه البخاري.
هذا الحديث: دليلٌ على شدَّة وروع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[596] وعن عَطِيَّةَ بن عُروة السَّعْدِيِّ الصحابيِّ - رضي الله عنه -
(1/393)
قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَبْلُغُ الْعَبدُ أنْ يَكُونَ منَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأسَ بِهِ، حَذَراً لِمَّا بِهِ بَأسٌ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
أي: لا يصل إلى درجة الموصوفين بكمال التقوى حتى يترك ما لا شبهة فيه خشية وقوعه في المكروه والحرام.
69- باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان
أَو الخوف من فتنة في الدين ووقوع في حرام وشبهات ونحوها
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مبِينٌ} [الذاريات (50) ] .
قال البغوي: ففروا إلى الله: فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإِيمان والطاعة. قال ابن عباس: فروا منه إليه وعملوا بطاعته. وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله.
وقال ابن كثير: ففروا إلى الله، أي: الجئوا إليه، واعتمدوا في أُموركم عليه.
قال الشارح: فجمعت لفظة «ففروا» التحذير والاستدعاء. ويُنظر إلى هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» .
قال الحسين بن الفضل: من فر إلى غير الله لم يمتنع من الله.
[597] وعن سعد بن أَبي وقاص - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الله يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيّ الْخَفِيَّ» . رواه مسلم.
(1/394)
والمُرَادُ بـ «الغَنِيّ» غَنِيُّ النَّفْسِ، كَمَا سَبَقَ في الحديث الصحيح.
الخفي: الخامل المشتغل بعبادة ربِّه وأُمور نفسه.
[598] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ يَا رسولَ الله؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ مُجَاهِدٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبيلِ اللهِ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ» .
وفي رواية: «يَتَّقِي اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: فضل العزلة عند خوف الفتنة، ولا ينافيه حديث: «خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه» . ونحوه، لأَن هذا يختلف بحسب الأوقات، والأشخاص، والأحوال.
[599] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ أنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ، وَمَواقعَ الْقَطْر يَفِرُّ بِدينِهِ مِنَ الفِتَنِ» . رواه البخاري.
و «شَعَفُ الجِبَالِ» : أعْلاَهَا.
في هذا الحديث: أيضًا دليلٌ على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه.
[600] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً إلا رَعَى الْغَنَمَ» فَقَالَ أصْحَابُهُ: وأنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ» . رواه البخاري.
المراد بالقيراط هنا: جزء من الدينار والدرهم.
(1/395)
وفيه: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - واعترافه بنعمة الله عليه، والحكمة في رعي الأَنبياء الغنم ليتمرَّنوا بذلك على سياسة الأُمة.
[601] وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لهم رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ في سَبيلِ الله، يَطيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزعَةً، طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي القَتْلَ، أَوْ المَوْتَ مَظَانَّه، أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيمَةٍ ... في رَأسِ شَعَفَةٍ مِنْ هذِهِ الشَّعَفِ، أَوْ بَطنِ وَادٍ مِنْ هذِهِ الأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَيُؤتِي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يأتِيَهُ اليَقِينُ، لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إلا فِي خَيْرٍ» . رواه مسلم.
«يَطِيرُ» : أيْ يُسْرعُ. وَ «مَتْنُهُ» : ظَهْرُهُ. وَ «الهَيْعَةُ» : الصوتُ للحربِ. وَ «الفَزعَةُ» : نحوه. وَ «مَظَانُّ الشَيْءِ» : المواضعُ الَّتي يُظَنُّ وجودُهُ فِيهَا. وَ «الغُنَيْمَة» بضم الغين: تصغير الغنم. وَ «الشَّعَفَةُ» بفتح الشين والعين: هي أعلى الجَبَل.
فيه: فضيلة القتل أو الموت في سبيل الله، قال الله تعالى: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران (157) ] .
وفيه: فضيلة اعتزال الناس عند وقوع الفتنة.
70- باب فضل الاختلاط بالناس
وحضور جُمَعِهم وجماعاتهم، ومشاهد الخير،
ومجالس الذكر معهم، وعيادة مريضهم، وحضور جنائزهم، ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم، وغير ذلك من مصالحهم لمن قدر عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقمع نفسه عن الإيذاء وصبر عَلَى الأذى
اعْلم أنَّ الاختلاط بالنَّاسِ عَلَى الوجهِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ المختارُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء صلواتُ اللهِ وسلامه
(1/396)
عَلَيْهِمْ، وكذلك الخُلفاءُ الرَّاشدون، ومن بعدَهُم مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، ومن بَعدَهُم من عُلَماءِ المُسلمين وأَخْيَارِهم، وَهُوَ مَذْهَبُ أكثَرِ التَّابِعينَ وَمَنْ بَعدَهُمْ، وبه قَالَ الشافعيُّ وأحمدُ وأكثَرُ الفقهاءِ رضي اللهُ عنهم أجمعين. ... قَالَ الله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة (2) ] .
ففي الاختلاط: الاجتماع للتعاون على البر، أي: فعل المأمورات، كالجمعة والجماعات وإقامة الشرائع، وفيه التعاون على التقوى عن المنهيات وترك المحرمات.
والآيات في معنى مَا ذكرته كثيرة معلومة.
كقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران (104) ] ،
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف (4) ] .
71- باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} ... [الشعراء (215) ] .
أي: ألن جانبك للمؤمنين وارفق بهم.
وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ} ... [المائدة (54) ] .
وقد ارتد قبائل من العرب في عهده - صلى الله عليه وسلم - وفي خلافة أبي بكر فقاتلهم أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم. ولما نزلت: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
(1/397)
[المائدة (54) ] ، أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي موسى الأشعري وقال: «هم هذا وقومه» . يعني أهل اليمن.
وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات ... (13) ] .
الشَّعْب: رأس القبائل، كمضر، والقبيلة: كتميم، أي: جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا لا لتفاخروا.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل» .
وقال تَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم (32) ] .
أي: لا تمدحوها ولا تفخروا بأعمالكم.
وفي الحديث الصحيح: «إذا كان أحدكم مادحًا صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا كذا، وكذا، والله حسيبه. ولا أُزكِّي على الله أحدًا» .
وقال تَعَالَى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عنكم جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} ... [الأعراف (48، 49) ] .
الأعراف: السُّوْرُ المضروب بين الجنة والنار، وأصحابه رجال تساوت حسناتهم وسيآتهم يقولون لأهل النار: ما أغنى عنكم مالكم ولا تكبركم، ولا منعكم ذلك عن دخول النار، وهؤلاء الضعفاء الذين كنتم تسخرون منهم
(1/398)
وتحقرونهم في الدنيا وأقسمتم أن الله لا يُدخلهم الجنة، أدخلهم الله إيَّاها برحمته.
[602] وعن عِيَاضِ بنِ حمارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله أوْحَى إِلَيَّ أنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أحَدٌ عَلَى أحَدٍ، وَلا يَبْغِي أحَدٌ عَلَى أحَدٍ» . رواه مسلم.
التواضع: الانكسار والتذلُّل، وضده: التكبر والرَّفع، ومَنْ تواضع لله رفع الله قدره، وطيَّب ذِكْرَه، ورفع درجته في الآخرة.
[603] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زادَ اللهُ عَبْداً بعَفْوٍ إلا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ للهِ إلا رَفَعَهُ اللهُ» . رواه مسلم.
[604] وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّهُ مَرَّ عَلَى صبيَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وقال: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يفعله. متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: تدريب الصبيان على أداب الشريعة، وطرح رداء الكبر والتواضع، ولين الجانب.
[605] وعنه قَالَ: إن كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إمَاءِ المَدينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءتْ. رواه البخاري.
في الحديث: مزيد تواضعه - صلى الله عليه وسلم -، والتحريض على ذلك.
(1/399)
[606] وعن الأَسْوَدِ بن يَزيدَ، قَالَ: سَأَلْتُ عائشةُ رضي الله عنها مَا كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قالت: كَانَ يَكُون في مِهْنَةِ أهْلِهِ - يعني: خِدمَة أهلِه - فإذا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ. رواه البخاري.
جاء ذلك مفسرًا في بعض الروايات: كان في بيته في مهنة أَهله يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعلِّف ناضحه، ويعقل البعير، ويأكل مع الخادم ويحمل بضاعته إلى السوق. ففي ذلك مزيد فضله، وكمال تواضعه - صلى الله عليه وسلم -.
[607] وعن أَبي رِفَاعَةَ تَميم بن أُسَيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يخطب، فقلت: يَا رسول الله، رَجُلٌ غَريبٌ جَاءَ يَسْألُ عن دِينهِ لا يَدْرِي مَا دِينُهُ؟ فَأقْبَلَ عَليَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسيٍّ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأتَمَّ آخِرَهَا. رواه مسلم.
في هذا الحديث: استحباب تلطف السائل.
وفيه: كمال تواضعه - صلى الله عليه وسلم - ورفقه بالمسلمين وشفقته عليهم.
[608] وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أكَلَ طَعَاماً، لَعِقَ أصَابِعَهُ الثَّلاَثَ. قَالَ: وقال: «إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِط عنها الأَذى، وليَأكُلْها وَلا يَدَعْها لِلشَّيْطان» وأُمِرْنا أن نُسْلُتَ
(1/400)
القَصْعَةُ، قَالَ: «فإنَّكُمْ لا تَدْرُونَ في أيِّ طَعَامِكُمُ البَرَكَة» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: رد على من كره لعق الأصابع استقذارًا. قال الخطابي: عاف قَوْمٌ - أَفْسد قلوبهم - الرَّفه لعقها، وزعموا أَنه مستقبح، كأنهم لم يعلموا أَن الطعام الذي علق بالأَصابع جزءٌ ما أَكلوه وليس فيه أَكثر من مصها بباطن الشفة. انتهى.
قلت: إنما يستقذر اللعق أَثناء الأَكل.
وفيه: استحباب أَكل لقمته الساقطة كسرًا لنفسه، وتواضعًا لربه، والتماسًا للبركة.
[609] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَعَثَ الله نَبِيّاً إلا رَعَى الغَنَمَ» قَالَ أصْحَابُهُ: وَأنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: تنبيه على التواضع. وأَن تعاطي الكامل ما فيه كسر النفس لا يخل بمروءته.
[610] وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُراعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لأَجَبْتُ، ولو أُهْدِيَ إِلَيَّ ذراعٌ أَوْ كُراعٌ لَقَبِلْتُ» . رواه البخاري.
قال الحافظ: خصَّ الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الخطير والحقير، لأَن الذراع كانت أَحب إِليه من غيرها، والكراع لا قيمة لَهُ.
وقال ابن بطال: أَشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلى الحض على قبول الهدية وإن قلَّت، لئلا يمتنع الباعث من الهدية لاحتقار الشيء، فحض على ذلك لما فيه من التآلف.
(1/401)
وفي الحديث: إجابة الداعي، وإن قل المدعو إليه، وفي ذلك كله تحريض على التواضع، وحث على تعاطي ما يبعث على التآلف ويغرس الوداد.
[611] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ ناقةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضْبَاءُ لا تُسْبَقُ، أَوْ لا تَكَادُ تُسْبَقُ، فَجَاءَ أعْرَابيٌّ عَلَى قَعودٍ لَهُ، فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ، فَقَالَ: «حَقٌّ عَلَى اللهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إلا وَضَعَهُ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: التزهيد في الدنيا، وإغماض الطرف عن زهرتها.
قال ابن بطال: فيه هوان الدنيا على الله، والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة.
وفيه: الحث على التواضع، وطرح رداء الكبر، والإِعلام بأن أُمور الدنيا ناقصة غير كاملة.
وفيه: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - لحسن خلقه من إِذهاب ما يشق على أَصحابه.
72- باب تحريم الكبر والإعجاب
قَالَ الله تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص (83) ] .
العلوّ: الكبر. والفساد: المعاصي، يعني من تَرك ذلك فله الجنة.
وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء (37) ] .
أي: بطرًا، وكبرًا، وخيلاء، كمشي الجبارين {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ} ، أي: لن تقطعها بكبرك حتى تبلغ آخرها، {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} ، أي: لا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها بكبرك.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يمشي في من كان قبلكم
(1/402)
وعليه بردان يتبختر فيهما إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» .
ورأى البختري العابد رجلاً من آل علي يمشي وهو يخطر في مشيته. فقال له: يَا هذا، إنَّ الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته. قال: فتركها الرجل بعده.
وقال تَعَالَى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان (18) ] .
ومعنى «تُصَعِّر خَدَّكَ لِلنَّاسِ» : أيْ تُمِيلُهُ وتُعرِضُ بِهِ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّراً عَلَيْهِمْ. وَ «المَرَحُ» : التَّبَخْتُرُ.
قال ابن عباس: يقول لا تتكبَّر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلَّموك.
وقال قتادة: ولا تحقرن الفقراء، ليكن الفقير والغني عندك سواء.
ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رب ذي طمرين لا يُؤْبَهُ له، لو أقسم على الله لأَبَره. لو قال: (اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة لأعطاه الله الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئًا» .
وقال عبد الله بن المبارك:
ألا رب ذي طمرين في منزل غدا ... ?? ... زرابيه مبثوثة ونمارقه ... ????
قد اطردت أنواره حول قصره ... ?? ... وأشرق والتفت عليه حدائقه ... ??
وقال تَعَالَى: {إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ
(1/403)
اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ} [القصص (76) ] ... إِلَى قَوْله تَعَالَى: ... {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص (81) ] .
كان قارون ابن عم موسى، آمن به ثم لحقه الزهو والإِعجاب فبغى على موسى وقومه. وكانت مفاتح خزائنه تثقل الجماعة الكثيرة. والفرح المنهي عنه هو انهماك النفس، والأثر، والإِعجاب. وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص (77) ] . بأن تصرفه في مرضاة الله {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . من مأكل، وملبس، ومشرب وغيرها من المباحات.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس لك يَا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت. وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» . {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} . بالمعاصي إن الله لا يحب المفسدين. قال: أي: لما وعظه قومه أخذته العزَّة بالإِثم. {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص (78) ] ، أي: علم بالتجارة، ووجوه تثمير المال وعَلِمَ الله أني أهل له ففضَّلني به عليكم.
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص (78) ] . أي: سؤال استعلام، فإنه تعالى مطلع عليهم وإنما يُسألون سؤال تقريع وتوبيخ.
وقوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص (81) ] ... إلى آخر القصة. ففيها شؤم البغي، وسوء مصرع الكبر والإِعجاب ومحبة الدنيا.
[612] وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّة مِنْ كِبْرٍ!» فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَناً، ونَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: «إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» . رواه مسلم.
(1/404)
«بَطَرُ الحَقِّ» : دَفْعُهُ وَرَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ، وَ «غَمْطُ النَّاسِ» : احْتِقَارُهُمْ.
في هذا الحديث: تحريم الكبر، والوعيد الشديد على مرتكبه. وإن الجمال إذا لم يكن على وجه الفخر والخيلاء والمباهاة بل على سبيل إِظهار نعمة الله لا يدخل في الكبر.
[613] وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أنّ رَجُلاً أكَلَ عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشمالِهِ، فَقَالَ: «كُلْ بيَمِينِكَ» قَالَ: لا أسْتَطِيعُ! قَالَ: «لا اسْتَطَعْتَ» مَا مَنَعَهُ إلا الكِبْرُ. قَالَ: فما رفَعها إِلَى فِيهِ. رواه مسلم.
في هذا الحديث: جواز الدعاء على من قصد الخروج عن أَحكام الشريعة عمدًا.
[614] وعن حارثة بن وهْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا أُخْبِرُكُمْ بأهْلِ النَّار: كلُّ عُتُلٍ جَوّاظٍ مُسْتَكْبرٍ» . متفقٌ عَلَيْهِ، وتقدم شرحه في بابِ ضعفةِ المسلمين.
العتل: الغليظ الجافي، والجواظ: الجموع المنوع، والمستكبر: المختال الفخور.
[615] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «احْتَجّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَت النَّارُ: فيَّ الْجَبَّارُونَ والمُتَكَبِّرُونَ. وقالتِ الجَنَّةُ: فيَّ ضُعفاءُ الناس ومساكينُهُم، فقضى اللهُ بَينهُما: إنكِ الجنّةُ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِك مَنْ أشَاءُ، وَإنَّكِ النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: دليل على أَن غالب أَهل النار الجبارون والمتكبرون،
(1/405)
وأَن غالب أَهل الجنة الضعفاء، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف (48، 49) ] .
[616] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَراً» . متفقٌ عَلَيْهِ.
البطر: الفرح مع قلّة القيام بحق النعمة، وصرفها إلى غير وجهها، والبطر والخيلاء، والزهو، والكبر، والتبختر كلها بمعنى واحد، وهي حرام، وأمَّا الطرب فهو خفَّة مع فرح.
والحديث دليل على أَن الإِسبال حرام إِذا كان على وجه الخُيلاء والبطر، وإلا فيكره.
[617] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاَثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَة، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» . رواه مسلم.
«العَائِلُ» : الفَقِيرُ.
سبب تخصيص، هؤلاء بهذا الوعيد، وإن كان لا يعذر أَحد بذنب، لأَن الشيخ قد ضعفت دواعي الشهوة فيه، والملك لا يخشى من أَحد من رعيته، والفقير قد عدم المال، وهو الداعي فصارت هذه الخصال الثلاث عزيزة في هؤلاء الثلاثة، فكان عذابهم أَشد من عذاب غيرهم.
[618] وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله تعالى: العِزُّ
(1/406)
إزَاري، والكبرياءُ رِدائي، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ» . رواه مسلم.
العز والكبرياء صفتان مختصتان بالله عز وجل لا يشاركه فيهما غيره، كما لا يشارك الرجل في إزاره وردائه، فمن ادعى العز والكبرياء فقد نازع الله في ملكه ومن نازع الله عذبه.
[619] وعنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمشِي في حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ رَأسَهُ، يَخْتَالُ فِي مَشْيَتهِ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ في الأَرضِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
«مُرَجِّلٌ رَأسَهُ» : أيْ مُمَشِّطُهُ، «يَتَجَلْجَلُ» بالجيمين: أيْ يَغُوصُ وَيَنْزِلُ.
قال قتادة: يتجلجل في الأَرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إِلى يوم القيامة.
قيل: إنما فعل به ذلك تدريجًا ليدوم عليه العذاب فيكون أَبلغ في نكايته وإِهانته.
[620] وعن سَلَمةَ بنِ الأكْوَعِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ في الجبَّارِين، فَيُصيبَهُ مَا أصَابَهُمْ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
«يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ» أيْ: يَرْتَفِعُ وَيَتَكبَّرُ.
قال العاقولي: الباء في (يذهب بنفسه) للتعدية، أي: يرفع نفسه ويعتقدها
(1/407)
عظيمة مرتفعة المقدار على الناس، ويجوز أَن تكون للمصاحبة أَي يوافقها على ما تريد من الاستعلاء.
قلت: ويشهد لهذا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات (37: 39) ] .
73- باب حسن الخلق
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم (4) ] .
حسن الخلق: بسط الوجه وبذل المعروف، وكفُّ الأذى. وقال علي: الخلق العظيم آداب القرآن. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق» .
وقال تَعَالَى: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران (134) ] الآية.
أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه وعفوا عمَّن أساء إليهم.
قال الثوري: الإِحسان أن تُحسن إلى المسيء.
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث أُقسم عليهنَّ: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوا إلا عِزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه» .
[621] وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحْسَنَ النَّاس خُلُقاً. متفقٌ عَلَيْهِ.
كان حسن الخلق غريزة في النبي - صلى الله عليه وسلم - جبله الله عليها، واكتسابًا من القرآن، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَدبني ربي فأَحسن تأديِبِي» .
(1/408)
[622] وعنه قَالَ: مَا مَسِسْتُ دِيبَاجاً وَلا حَرِيراً ألْيَنَ مِنْ كَفِّ ... رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلا شَمَمْتُ رَائِحَةً قَطُّ أطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَقَدْ خدمتُ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سنين، فما قَالَ لي قَطُّ: أُفٍّ، وَلا قَالَ لِشَيءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَه؟ وَلا لشَيءٍ لَمْ أفعله: ألا فَعَلْتَ كَذا؟. متفقٌ عَلَيْهِ.
قوله: (ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ، وورد في حديث آخر: أَنه شعث الكف والقدمين، فقيل: إن اللين بحسب أَصل الخلقة والخشونة لعرض عمل.
وفي الحديث: كمال خلقه - صلى الله عليه وسلم - وتسليمه للقدر.
[623] وعن الصعب بن جَثَّامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أهديتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيّاً، فَرَدَّهُ عَلَيَّ، فَلَمَّا رأى مَا في وجهي، قَالَ: «إنّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلا أنّا حُرُمٌ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: الحكم بالعلامة، لقوله: (فلما رأى ما في وجهي) .
وفيه: جواز رد الهداية لعلة، والاعتذار عن ردها تطيبًا لقلب المهدي.
[624] وعن النَّوَاس بنِ سمعان - رضي الله عنه - قَالَ: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن البِرِّ وَالإثم، فَقَالَ: «البِرُّ: حُسنُ الخُلقِ، والإثمُ: مَا حاك في صدرِك، وكَرِهْتَ أن يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» . رواه مسلم.
البر: الطاعة، والإِثم: المعصية، حسن الخلق يقتدر به صاحبه على فعل المحاسن وترك المساوئ، والإِثم يذم صاحبه، والنفس بطبعها تحب المدح، وتكره الذمَّ.
(1/409)
[625] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: لَمْ يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشاً وَلا مُتَفَحِّشاً، وكان يَقُولُ: «إنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاَقاً» . متفقٌ عَلَيْهِ.
الفحش: ما يشتد قبحه من الأَقوال والأَفعال. والتفحش: تكلّف ذلك، أي: ليس ذا فحش في كلامه وأَفعاله.
وقوله: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا» . لأَن حسن الخلق يدعو إِلى المحاسن، وترك المساوئ.
[626] وعن أَبي الدرداءِ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أثْقَلُ في مِيزَانِ العبدِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وَإنَّ الله يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيَّ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
«البَذِيُّ» : هُوَ الَّذِي يتكلَّمُ بِالفُحْشِ ورديء الكلامِ.
في هذا الحديث: فضيلة حسن الخلق، لأَنه يورث لصاحبه محبة الله، ومحبة عباده.
وفيه: قبح الفحش والبذاءة، لأَنه يورث البغض من الله وعباده.
[627] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أكثرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «تَقْوَى اللهِ وَحُسنُ الخُلُقِ» ، وَسُئِلَ عَنْ أكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: «الفَمُ وَالفَرْجُ» . رواه الترمذي، وقال: ... «حديث حسن صحيح» .
التقوى تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه.
(1/410)
[628] وعنه، قال: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكْمَلُ المُؤمنينَ إيمَاناً أحسَنُهُمْ خُلُقاً، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
كلما كان العبد أَحسن أَخلاقًا كان أَكمل إيمانًا.
وقوله: «وخياركم خياركم لنسائهم» . وذلك بالبشاشة وطلاقه الوجه، وكف الأَذى، وبذل الندى، والصبر على إيذائها. وفي رواية: «إِن أكمل المؤمنين إيمانًا أَحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله» .
[629] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ» . رواه أَبُو داود.
في هذا الحديث: فضيلة حسن الخلق، وأَنه يبلغ صاحبه أَعْلى الدرجات. وبسط الوجه، وبذل الندى، وكف الأذى.
[630] وعن أَبي أُمَامَة الباهِليِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا زَعِيمٌ ببَيتٍ في ربَض الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ، وَإنْ كَانَ مُحِقّاً، وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ، وَإنْ كَانَ مَازِحاً، وَبِبَيْتٍ في أعلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» . حديث صحيح، رواه أَبُو داود بإسناد صحيح.
«الزَّعِيمُ» : الضَّامِنُ.
(1/411)
في هذا الحديث: استحباب ترك الجدال، وفي بعض الآثار: (إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العلم، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد بعبد شرًا فتح له باب الجدل، وأَغلق عنه باب العلم) .
وفيه: الحث على التخلق بحسن الخلق وترك الكذب.
[631] وعن جابر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إليَّ، وَأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ، أحَاسِنَكُم أخْلاَقاً، وَإنَّ أبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيَامَةِ، الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهقُونَ» قالوا: يَا رسول الله، قَدْ عَلِمْنَا «الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ» ، فمَا المُتَفَيْهقُونَ؟ قَالَ: ... «المُتَكَبِّرُونَ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
«الثَّرْثَارُ» : هُوَ كَثِيرُ الكَلاَمِ تَكَلُّفاً. وَ «المُتَشَدِّقُ» : المُتَطَاوِلُ ... عَلَى النَّاسِ بِكَلاَمِهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَلءِ فِيهِ تَفَاصُحاً وَتَعْظِيماً لِكَلامِهِ، ... وَ «المُتَفَيْهِقُ» : أصلُهُ مِنَ الفَهْقِ وَهُوَ الامْتِلاَءُ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلأُ فَمَهُ بِالكَلاَمِ وَيَتَوَسَّعُ فِيهِ، ويُغْرِبُ بِهِ تَكَبُّراً وَارْتِفَاعاً، وَإظْهَاراً للفَضيلَةِ عَلَى غَيْرِهِ.
وروى الترمذي عن عبد الله بن المباركِ رحِمه الله في تفسير حُسْنِ الخُلُقِ، قَالَ: «هُوَ طَلاَقَةُ الوَجه، وَبَذْلُ المَعروف، وَكَفُّ الأذَى» .
قال الحافظ: حسن الخلق: اختيار الفضائل، وترك الرذائل، وقد جمع جماعة محاسن الأخلاق في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف (199) ] .
74- باب الحلم والأناة والرفق
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنينَ} [آل عمران (134) ] .
(1/412)
في هذه الآية تحريض على التخلُّق بالإِحسان إلى الناس من العفو عنهم وكظم الغيظ، وغير ذلك.
وقال تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأعْرِضْ عَنِ الجَاهِلينَ} ... [الأعراف (199) ] .
قال مجاهد: {خُذِ الْعَفْوَ} ، يعني: من أخلاق الناس من غير تجسُّس.
وقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} ، أي المعروف، وكل ما يعرفه الشرع، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه.
قال الشعبي: لما أنزل الله عزَّ وجلَّ على نبيه - صلى الله عليه وسلم - {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال: «ما هذا يَا جبريل؟» قال: «إنَّ الله أمرك أن تعفو عمَّن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» .
وقال تَعَالَى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت (34، 35) ] .
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإِساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوّهم كأنه وليٌّ حميم.
وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة.
وقال تَعَالَى: {وَلَمنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى (43) ] .
أي: من صبر على الأذى ولم يجاز على السيئة، فإن ذلك من عزم الأمور المشكورة التي أمر الله بها.
(1/413)
[632] وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأَشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ: «إنَّ فيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأنَاةُ» . رواه مسلم.
الحلم والأناة من صفات العقلاء. وسبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للأشج. ما جاء في حديث الوفد، أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام الأَشج عند رحالهم فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أَحسن ثيابه ثم أَقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقربه وأَجلسه إلى جانبه. ثم قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تبايعوني على أَنفسكم، وقومكم» . فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يَا رسول الله، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه. نبايعك على أَنفسنا، ونرسل من يدعوهم. فمن أتبعنا كان منَّا، ومن أَبى قاتلناه. قال: «صدقت، إن فيك خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا الله. الحلم، والأناة» ، قال: يَا رسول
الله، أكانا فِيَّ أم حدثًا، قال: «بل قديم» . قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.
[633] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّه» . متفقٌ عَلَيْهِ.
[634] وعنها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطي عَلَى الرِّفق، مَا لا يُعْطِي عَلَى العُنْفِ، وَمَا لا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» . رواه مسلم.
[635] وعنها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ في شَيْءٍ إلا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إلا شَانَهُ» . رواه مسلم.
الرِّفق: لين الجانب بالقول والفعل، والأَخذ بالأَسهل، وهو ضد العنف،
(1/414)
وهو الشدة والمشقة، فصاحب الرفق يدرك حاجته أَو بعضها، وصاحب العنف لا يدركها، وإِن أَدركها فبمشقة، وحريٌّ أن لا تتم.
[636] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: بَال أعْرَابيٌّ في المسجدِ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوهُ وَأرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ، فَإنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» . رواه البخاري.
«السَّجْلُ» بفتح السين المهملة وإسكان الجيم: وَهِيَ الدَّلو الْمُمْتَلِئَةُ مَاءً، وَكَذلِكَ الذَّنُوبُ.
في هذا الحديث: الرفق في إنكار المنكر، وتعليم الجاهل.
وفي رواية ابن ماجة: فقال الأعرابي بعد أَن فقه: بأَبي وأُمي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يؤنب ولم يسب، فقال: «إِن هذا المسجد لا يُبال فيه، وإِنما بُني لذكر الله، والصلاة فيه» .
وفي الحديث أيضًا: نجاسة بول الآدمي، ووجوب تنزيه المسجد، وأَنه يكتفي في ذلك بصب الماء عليها من غير تحجير.
[637] وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا» . متفقٌ عَلَيْهِ.
اليسر: ضد العسر. قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج (78) ] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» والتعسير يوجب التنفير.
(1/415)
[638] وعن جريرِ بنِ عبدِ اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «مَنْ يُحْرَمِ الرِفْقَ، يُحْرَمِ الخَيْرَ كلَّهُ» . رواه مسلم.
فيه الحث على الرفق في جميع الأمور، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران (159) ] .
[639] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلاً قَالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أوْصِني. قَالَ: «لا تَغْضَبْ» ، فَرَدَّدَ مِرَاراً، قَالَ: «لا تَغْضَبْ» . رواه البخاري.
الغضب: جماع الشر، وباب من مداخل الشيطان الثلاثة وهي: الغفلة، والشهوة، والغضب. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: قد أفلح من عصم من الهوى، والغضب، والطمع.
[640] وعن أَبي يعلى شَدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الله كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإذَا قَتَلْتُم فَأحْسِنُوا القِتْلَة، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَليُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَه، وَلْيُرِح ذَبِيحَتَهُ» . رواه مسلم.
معنى إِحسان القتلة: أَن لا يقصد التعذيب للمقتول وإِحسان الذبحة أن يرفق بالبهيمة عند الذبح. قال الإِمام أحمد: ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أَنها تعرف ربها، وتعرف أَنها تموت.
[641] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: مَا خُيِّرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أمْرَيْنِ قَطُّ إلا أَخَذَ أيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إثماً، فَإنْ كَانَ إثماً، كَانَ
(1/416)
أبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ. وَمَا انْتَقَمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ في شَيْءٍ قَطُّ، إلا أن تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ الله، فَيَنْتَقِمَ للهِ تَعَالَى. متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: استحباب الأَخذ بالأَيسر في أُمور الدين والدنيا إذا لم يكن فيه معصية.
وفيه: استحباب ترك الانتقام للنفس كما في الحديث: «وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا» .
وفيه: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الحلم والصبر والقيام بالحق، والصلابة في الدين. وهذا هو الخلق الحسن قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم (4) ] .
[642] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّار؟ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّار؟ تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ، هَيّنٍ، لَيِّنٍ، سَهْلٍ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
في هذا الحديث: استحباب ملاطفة الناس، وتسهيل الجانب لهم وقضاء حوائجهم.
وفي الحديث الآخر: «إنكم لا تسعون الناس بأَرزاقكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق» .
75- باب العفو والإعراض عن الجاهلين
قَالَ الله تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلينَ} ... [الأعراف (199) ] .
وذلك لأنَّ في الإِعراض عن الجاهل إخمادًا لشره.
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ... إن الجواب لباب الشر مفتاح
(1/417)
فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب ... ?? ... نعم وفيه لصون العرض إصلاح ... ??
وقال تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر (85) ] .
أي: عاملهم معاملة الحليم الصفوح.
وقال تَعَالَى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} ... [النور (22) ] .
نزلت في شأن الصدِّيق رضي الله عنه لما آلى أن لا ينفق على مسطح لرميه عائشة بالإِفك. فقال أبو بكر: بلى يَا رب، إني أُحبُّ أن تغفر لي، فرجع إلى مسطح ما كان يعطيه قبل.
وقال تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ} [آل عمران (134) ] .
فيه: أن العفو من صفات المحسنين.
وقال تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ... [الشورى (43) ] .
أي: من صبر على الأذى وعفا.
والآيات في الباب كثيرة معلومة.
كما قال تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى (40) ] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل (126) ] .. وغير ذلك.
[643] وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هَلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ
(1/418)
أشَدُّ مَا
لَقيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْني إِلَى مَا أرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأنا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلا وأنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبريلُ - عليه السلام -، فَنَادَاني، فَقَالَ: إنَّ الله تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَد بَعَثَ الله إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ قَدْ سَمِع قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأنا مَلَكُ الجِبال، وَقَدْ ... بَعَثَنِي رَبِّي إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إنْ شئْتَ أطْبَقْتُ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ» . فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» . متفقٌ عَلَيْهِ.
«الأخْشَبَان» : الجَبَلان المُحيطان بمكَّة. وَالأخشبُ: هُوَ الجبل الغليظ.
لما مات أَبو طالب توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف وطلب منهم أَن يؤوه حتى يبلغ رسالة ربِّه فردوا عليه أقبح رد فرجع - صلى الله عليه وسلم - وهو مهموم إِذ فاته ما طلب منهم فلم ينتبه إلا وهو بقرن الثعالب، وهو قرن المنازل ميقات أَهل نجد.
وفي الحديث: بيان شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومه، وعفوه عنهم، ومزيد صبره وحلمه قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء (107) ] ، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران (159) ] .
[644] وعنها قالت: مَا ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئاً قَطُّ بِيَدِهِ، وَلا امْرَأةً وَلا خَادِماً، إلا أنْ يُجَاهِدَ فِي سَبيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إلا أن يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمُ للهِ تَعَالَى. رواه مسلم.
(1/419)
في هذا الحديث: حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -، وحلمه، وصبره، وعفوه، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب (21) ] .
[645] وعن أنس - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أمشي مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أعْرَابِيٌّ فَجَبذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدةً، فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ أثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُر لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: مزيد حُسْن خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - وصبره على سوء أَدب هذا الأَعرابي الجافي، وحلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه عفا عن جنايته عليه، وزاد على العفو بالبشر والعطاء.
قال الشاعر:
بشاشة وجه المرء خير من القِري ... فكيف من يعطي القِري وهو يضحك
وفي رواية البيهقي: (ثم قال: يَا محمد مُر لِيَ من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا من مال أَبيك. فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «المال مال الله وأَنا عبده» .
وذكر في (الشفاء) أنه حمل له على بعير شعيرًا، وعلى الآخر تمرًا.
[646] وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: كأني أنظر إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبِيّاً مِنَ الأنبياءِ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُه عَلَيْهِمْ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
(1/420)
في هذا الحديث: زيادة الفضل بعد الصفح بالدعاء لهم، والاعتذار عنهم.
[647] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ الشَّديدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
والصُّرَعة: الذي يصرع الناس ويغلبهم.
والصُّرْعة: بالسكون الذي يصرعه الناس، أي: ليس القوي المحمود الذي يصرع الناس ويغلبهم، إنما المحمود الذي يغلب نفسه، ويملكها عند الغضب.
76- باب احتمال الأذى
قَالَ الله تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران (134) ] .
كظم الغيظ: حبس النفس عن مرادها من الانتقام. والعفو عن الناس: ترك مؤاخذتهم في ذلك. وفيه: إيماء إلى أن من كان متَّصفًا بهذه الصفات فهو من المحسنين.
وقال تَعَالَى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ... [الشورى (43) ] .
أي: صبر على الإِيذاء وصفح عمن آذاه. {إِنَّ ذَلِكَ} ، أي: ما ذكر {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ، أي: المأمور بها شرعًا.
وفي الباب: الأحاديث السابقة في الباب قبله.
أي: الأحاديث المذكورة في باب العفو، والإِعراض عن الجاهلين تدخل في باب احتمال الأذى.
(1/421)
[648] وعن أَبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رَجُلاً، قَالَ: يَا رسول الله، إنّ لي قَرَابةً أصِلُهم وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إلَيَّ، وَأحْلُمُ عَنهم وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ! فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكأنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ تَعَالَى ظَهيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» . رواه مسلم.
وقد سَبَقَ شَرْحُهُ في بَابِ صلة الأرحام.
في هذا الحديث: الحض على الصبر على الإِيذاء خصوصًا من الأَقارب، وأن من كان كذلك أعانه المولى سبحانه وتعالى.
77- باب الغضب إِذَا انتهكت حرمات الشّرع
والانتصار لدين الله تعالى
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ... [الحج (30) ] .
أي: ومن يجتنب معاصي الله ومحارمه فله على ذلك خير كثير، وثواب جزيل.
قال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه.
وقال الليث: حرمات الله ما لا يحل انتهاكها.
وقال تَعَالَى: {إنْ تَنْصُرُوْا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد (7) ] .
أي: إن تنصروا دين الله، وتقوموا به ينصركم على عدوكم ويكف بأسهم.
وفي الباب حديث عائشة رضي الله عنها السابق في باب العفو.
والمراد منه قولها: وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله تعالى.
(1/422)
[649] وعن أَبي مسعود عقبة بن عمرو البدري - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إنِّي لأَتَأخَّرُ عَن صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا! فَمَا رَأيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ في مَوْعِظَةٍ قَطُّ أشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئذٍ؛ فَقَالَ
: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأيُّكُمْ أمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ؛ فَإنَّ مِنْ وَرَائِهِ الكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَذَا الحَاجَةِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في الحديث: جواز الغضب في التعليم للمصلحة إذا لم يترتب على ذلك مفسدة.
وفيه: استحباب التخفيف مع الإِتمام، وليس فيه حجة للنقارين، فإن التخفيف أمر نسبي راجع إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
[650] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سَفرٍ، وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثيلُ، فَلَمَّا رَآهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هتكَهُ وَتَلَوَّنَ وَجهُهُ، وقال: «يَا عائِشَةُ، أشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بخَلْقِ اللهِ!» . متفقٌ عَلَيْهِ.
«السَّهْوَةُ» : كَالصُّفَّةِ تَكُونُ بَيْنَ يدي البيت. وَ «القِرام» بكسر القاف: سِتر رقيق، وَ «هَتَكَه» : أفْسَدَ الصُّورَةَ الَّتي فِيهِ.
التماثيل: جمع تمثال، وهي الشيء المصور سواء كان شاخصًا أو نقشًا، أو نسجًا، أو دهانًا.
قوله: «الذين يضاهون بخلق الله» ، أي يشبهون ما يضعونه بما يصنعه الله.
وفي الحديث: تحريم التصوير واستعماله.
[651] وعنها أن قرَيشاً أهَمَّهُمْ شَأنُ المَرأَةِ المخزومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فقالوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: مَنْ يَجْتَرِئ عَلَيْهِ إلا
(1/423)
أُسَامَةُ
ابنُ زَيْدٍ حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... «أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله» ؟! ثُمَّ قامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّمَا أهْلَك مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ الله، لَوْ أَنَّ فَاطمَةَ بِنْتَ مُحمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعتُ يَدَهَا» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان.
وفيه: أن شرف الجاني لا يسقط الحد عنه، وأن أحكام الله تعالى يستوي فيها الشريف والوضيع.
[652] وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى نُخَامَةً في القبلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ في وَجْهِهِ؛ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: «إن أحدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، وَإنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبيْنَ القِبلْةِ، فَلا يَبْزُقَنَّ أحَدُكُمْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ» ثُمَّ أخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: «أَوْ يَفْعَلُ هكذا» . متفقٌ عَلَيْهِ.
وَالأمرُ بالبُصَاقِ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ هُوَ فِيما إِذَا كَانَ في غَيْرِ المسجِدِ، فَأمَّا في المسجدِ فَلا يَبصُقُ إلا في ثَوْبِهِ.
في هذا الحديث: النهي عن البصاق قبل القبلة، إذا كان يصلي لأنه يناجي ربه.
78- باب أمر وُلاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم
والشفقة عليهم والنهي عن غشهم والتشديد عليهم وإهمال
مصالحهم والغفلة عنهم وعن حوائجهم
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ... [الشعراء (215) ] .
(1/424)
أمر الله تعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يلين جانبه لمن اتبعه من المؤمنين، وقد أمر الله المؤمنين أن يقتدوا به، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب (21) ] .
وقال تَعَالَى: {إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل (90) ] .
يأمر تعالى بالعدل، وهو القسط والإِنصاف، وبالإِحسان إلى الناس، وبِصِلة الرحم، وينهى عن الفحشاء، وهي ما قبح من قولٍ أو فعلٍ، وعن المنكر: وهو ما ينكره الشرع، وعن البغي وهو العدوان على الناس.
قال بعض العلماء: لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لصدق عليه أنه تبيانٌ لكل شيء وهدىً ورحمةٌ.
[653] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتهِ: الإمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أهلِهِ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ في
بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مال سيِّدِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: وجوب القيام بحق الرعية وإرشادهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، وردعهم عن ما يضرهم في دينهم ودنياهم.
[654] وعن أَبي يعلى مَعْقِل بن يَسارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَستَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّة» . متفقٌ عليه.
(1/425)
وفي رواية: «فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّة» .
وفي رواية لمسلم: «مَا مِنْ أميرٍ يلي أمور المُسْلِمينَ، ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ، إلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ» .
في هذا الحديث: وعيدٌ شديد لمن ولي أمر المسلمين ثم خانهم وغشهم وقدم مصلحته على مصلحتهم.
[655] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هَذَا: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارفُقْ بِهِ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: التنبيه لولاة الأُمور على السعي في مصالح الرعية، والجهد في دفع ضررهم، وما يشق عليهم من قولٍ أو فعل، وعدم الغفلة عن أحوالهم.
[656] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَانَتْ بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُم الأَنبِيَاء، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيكُونُ بَعْدِي خُلفَاءُ فَيَكثرُونَ» ، قالوا: يَا رسول الله، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّل فَالأَوَّل، ثُمَّ أعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، وَاسْأَلُوا الله الَّذِي لَكُمْ، فَإنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» متفقٌ عليه.
فيه: إيماء إلى أنه لا بد للرعية ممن يقوم بأمرها ويحملها على الحق، وينصف المظلوم من ظالمه.
وفيه: الأَمر بوفاء بيعة الخلفية وطاعته، وقتال من بغى عليه، والصبر على ظلمه.
(1/426)
[657] وعن عائِذ بن عمرو - رضي الله عنه - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُبَيْد اللهِ بن زيادٍ، فَقَالَ لَهُ: أيْ بُنَيَّ، إنِّي سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «إنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الحُطَمَةُ» فإيَاكَ أن تَكُونَ مِنْهُمْ. متفقٌ عَلَيْهِ.
الحطمة: العنيف بالبهائم في رعيها، ضرب مثلاً لوالي السوء الذي لا يرفق بالناس ولا يرحمهم. وفي الحديث مشروعية نصيحة الأُمراء.
[658] وعن أَبي مريم الأزدِيِّ - رضي الله عنه - أنّه قَالَ لِمعاوية - رضي الله عنه - سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ وَلاهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فجعل معاوية رجلاً عَلَى حوائج النَّاسِ. رواه أَبُو داود والترمذي.
في الحديث: وعيدٌ شديدٌ لمن احتجب عن الرعية ولم يقض حوائجهم، سواء كان ملكًا، أو وزيرًا، أو قاضيًا، أو أميرًا، أو مديرًا، أو من دونهم ممن له ولاية على شيء من أُمور المسلمين.
79- باب الوالي العادل
قَالَ الله تَعَالَى: {إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل (90) ] الآية.
وقال تَعَالَى: {وَأَقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات (9) ] .
أي: اعدلوا وأنصفوا كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء (135) ] .
(1/427)
[659] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأ في عِبادة الله تَعَالَى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللهِ اجتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ، فَقَالَ: إنّي أخافُ اللهَ، وَرَجُلٌ
تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: فضل هؤلاء السبعة، وأشرفهم، الإِمام العادل، وفي معناه جميع الولاة.
[660] وعن عبدِ اللهِ بن عَمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ: الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأَهْلِيْهِم وَمَا وَلُوْا» . رواه مسلم.
فيه: فضل العدل في جميع الأُمور، وعظم ثواب فاعله.
[661] وعن عوفِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «خِيَارُ أئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ. وشِرَارُ أئِمَّتِكُم الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ!» ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رسول اللهِ، أفَلا نُنَابِذُهُم؟ قَالَ: «لا، مَا أقَامُوا فِيْكُمُ الصَّلاَةَ. لا، مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ» . رواه مسلم.
قَوْله: «تصلّون عَلَيْهِمْ» : تدعون لَهُمْ.
في هذا الحديث: تعظيم الصلاة، وأنه لا يحوز الخروج على الإِمام المقيم
(1/428)
للصلاة، وفي حديث عبادة: «لا إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان» ، وفي حديث أُم سلمة: قالوا: يَا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة» .
[662] وعن عِياضِ بن حِمارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أهلُ الجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلطانٍ مُقْسِطٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحيمٌ رَقِيقُ القَلْبِ لكُلِّ ذي قُرْبَى ومُسْلِمٍ، وعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذو عِيالٍ» . رواه مسلم.
في هذا الحديث: فضل الوالي العادل القائم بطاعة الله سبحانه وتعالى.
وفيه: ثواب الواصل والرحيم بالمسلمين، وفضل المحتاج المتعفف.
80- باب وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية
وتحريم طاعتهم في المعصية
قَالَ الله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء (59) ] .
{أَطِيعُوا اللهَ} ، أي: اتبعوا كتابه، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، أي: خذوا بسنته، {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ، أي: فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
[663] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عَلَى المَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ والطَّاعَةُ فِيمَا أحَبَّ وكَرِهَ، إلا أنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيةٍ، فَإنْ أُمِرَ بِمَعْصِيةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: وجوب السمع والطاعة والانقياد لقول ولي الأمر، سواء كان موافقًا لمراد المأمور، أو مخالفًا له إلا في معصية الله.
(1/429)
[664] وعنه قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمعِ والطَّاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: «فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
وفيه: أن وجوب السمع والطاعة على قدر الاستطاعة قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن (16) ] .
[665] وعنه قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» . رواه مسلم.
وفي رواية لَهُ: «وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ مُفَارِقٌ لِلجَمَاعَةِ، فَإنَّهُ يَمُوتُ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» .
«المِيتَةُ» بكسر الميم.
فيه: وعيد شديد على من خرج على الإِمام ولم يَنْقَدْ له، ووجوب بيعة الإِمام.
[666] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسْمَعُوا وأطِيعُوا، وَإنِ استُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشيٌّ، كأنَّ رأْسَهُ زَبيبةٌ» . رواه البخاري.
كان أهل الجاهلية يأنفون من الدخول تحت الطاعة خصوصًا العرب، فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك واجبٌ لكل أمير ولو أنه حقير.
[667] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ في عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأثَرَةٍ عَلَيْكَ» . رواه مسلم.
(1/430)
فيه: وجوب السمع والطاعة للأمراء على كل حال ولو اختصوا بالمال دون مستحقيه فإن الله سائلهم عن ذلك.
[668] وعن عبدِ اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما قَالَ: كنا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءهُ، وَمِنّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ في جَشَرِهِ، إذْ نَادَى مُنَادِي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: الصَّلاةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبيٌّ قَبْلِي إلا كَانَ حَقّاً عَلَيْهِ أنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُم شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ. وَإنَّ أُمَّتَكُمْ هذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا في أوَّلِهَا، وَسَيُصيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتنَةٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَتَجِيءُ الفتنَةُ فَيقُولُ المُؤْمِنُ: هذه مُهلكتي، ثُمَّ تنكشفُ، وتجيء الفتنةُ فيقولُ المؤمنُ: هذِهِ هذِهِ. فَمَنْ أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، ويُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتَأتِهِ منيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أنْ يُؤتَى إِلَيْهِ. وَمَنْ بَايَعَ إمَاماً فَأعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إن استَطَاعَ، فإنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنْقَ الآخَرِ» . رواه مسلم.
قَوْله: «يَنْتَضِلُ» أيْ: يُسَابِقُ بالرَّمْي بالنَّبل والنُّشَّاب. وَ «الجَشَرُ» : بفتح الجيم والشين المعجمة وبالراء، وهي: الدَّوابُّ الَّتي تَرْعَى وَتَبِيتُ
مَكَانَهَا. وَقَوْلُه: «يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضاً» أيْ: يُصَيِّرُ بَعْضُهَا بَعْضَاً رقيقاً: أيْ خَفِيفاً لِعِظَمِ مَا بَعْدَهُ، فالثَّانِي يُرَقّقُ الأَوَّلَ. وقيل مَعنَاهُ يُشَوِّقُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بتحسينهَا وَتَسويلِهَا، وقيل: يُشبِهُ بَعْضُها بَعضاً.
(1/431)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإن أمَّتكم هذه جعل عافيتها في أولها» . قال القرطبي: المراد به زمان الخلفاء، الثلاثة إلى قتل عثمان فهذه كانت أزمنة اتفاق هذه الأمة واستقامة أمرها وعافية دينها، فلما قتل عثمان هاجت الفتن ولم تزل ولا تزال إلى يوم القيامة.
قوله: «وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» . قال النووي: هذا من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، وبدائع حكمه. وهذه قاعدة ينبغي الاعتناء بها، وهي أن الإِنسان يلتزم ألا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه.
وفي الحديث: وجوب طاعة الإمام وقتال من خرج عليه.
[669] وعن أَبي هُنَيْدَةَ وَائِلِ بن حُجرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَألَ سَلَمَةُ بن يَزيدَ الجُعفِيُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، أرأيتَ إنْ قامَت عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسألُونَا حَقَّهُم، وَيمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأعْرَضَ عنه، ثُمَّ سَألَهُ، فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسْمَعْوا وَأَطِيعُوا، فإنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حملْتُمْ» . رواه مسلم.
فيه: وجوب السمع والطاعة للأمراء وإن لم يقوموا بحق الرعية.
[670] وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا!» قالوا: يَا رسول الله، كَيْفَ تَأمُرُ
مَنْ أدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: «تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
الأثرة: استئثار ولاة الأمر بالأموال على المستحقين فيها. وقد ظهر ذلك، فهو من جملة معجزاته - صلى الله عليه وسلم -.
(1/432)
وفيه: دليل على عدم التعرُّض للأئمة - وإن جاروا - والاعتماد على مكافأة الله تعالى.
[671] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أطَاعَنِي، وَمَنْ يَعصِ الأميرَ فَقَدْ عَصَانِي» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في الحديث: وجوب طاعة الأمراء، وتحريم معصيتهم، وقد قال الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء (80) ] .
[672] وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَره مِنْ أمِيرِهِ شَيْئاً فَلْيَصْبِرْ، فَإنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلطَانِ شِبْراً مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» . متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: الحث على الصبر على جور الولاة، ولزوم طاعتهم وعدم الخروج عليهم.
[673] وعن أَبي بكرة - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ أهانَ السُّلطَانَ أَهَانَهُ الله» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
وفي الباب أحاديث كثيرة في الصحيح. وَقَدْ سبق بعضها في أبواب.
فيه: وعيدٌ شديدٌ على من استخف بشأن السلطان ولم يسمع له ولم يطع لأمره.
81- باب النهي عن سؤال الإمارة واختيار ترك الولايات
إذا لَمْ يتعين عليه أَوْ تَدْعُ حاجة إِلَيْهِ
قَالَ الله تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلوّاً في
(1/433)
الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ للمُتَّقِينَ} [القصص (83) ] .
العلو: التكبُّر والاستكبار، والفساد: المعاصي والظلم.
[674] وعن أَبي سعيدٍ عبدِ الرحمنِ بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَبْدَ الرَّحمن بن سَمُرَةَ، لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ؛ فَإنّكَ إن أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْألَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْألَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَأتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينكَ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
في هذا الحديث: النهي عن سؤال الإِمارة وأن من سألها لا يعان عليها وكذلك غيرها من الولايات. وروى ابن المنذر عن أنس رفعه: «من طلب
القضاء واستعان عليه بالشغماء وُكِلَ إلى نفسه، ومن أُكره عليه أنزل الله له ملكًا يسدده»
فيه: استحباب التكفير عن اليمين وفعل الخير قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة (224) ] .
[675] وعن أَبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إنِّي أرَاكَ ضَعِيفاً، وَإنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي. لا تَأمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» . رواه مسلم.
فيه: أن العاجز عن القيام بحقوق الإِمارة وتنفيذ أُمورها لا يجوز له أن يدخل فيها، وكذلك العاجز عن إصلاح مال اليتيم.
[676] وعنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، ألا تَسْتَعْمِلُني؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنّها أمانةٌ، وَإنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلا مَنْ أخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» . رواه مسلم.
(1/434)
قال القرطبي: ووجه ضعفه عنها: أن الغالب على أبي ذر، الزهادة في الدنيا، والإِعراض عنها، ومن كان كذلك لم يعتن بمصالح الدنيا ولا بأموالها، وبمراعتها تنتظم مصالح الدين ويتم أمره.
[677] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإمَارَةِ، وَسَتَكونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ» . رواه البخاري.
فيه: كراهة الحرص على الإِمارة.
قال بعض السلف: أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة. يعني: لمن لم يقم بحقها ولم يعدل فيها.
82- باب حث السلطان والقاضي وغيرهما من ولاة الأمور عَلَى اتخاذ وزير صالح وتحذيرهم من قرناء السوء والقبول منهم
قَالَ الله تَعَالَى: {الأَخِلاءُ يَوْمَئذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا المُتَّقِينَ} ... [الزخرف (67) ] .
قال ابن كثير: أي: كل صداقة وصحبة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عزَّ وجلّ، فإنه دائم بدوامه.
قلت: والصحبة ثلاث درجات: الأُولى: للدنيا، فهذه تزول بزوال سببها. الثانية: صحبةٌ على المعاصي، فإنها تنقلب عداوةً. الثالثة: صحبة الدين، فإنها تبقي في الدنيا والآخرة.
[678] عن أَبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَليفَةٍ إلا كَانَتْ
(1/435)
لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بالمَعْرُوفِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ» . رواه البخاري.
في هذا الحديث: الحث على اتخاذ وزراء صالحين لولاة الأمور. وأن من سعادة ولي الأمر صلاح جلسائه، ومن شقاوته فساد جلسائه.
وقد قال الشاعر:
لا تسل عن المرء وسل عن قرينه ... ?? ... فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي ... ???
[679] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أرَادَ اللهُ بِالأَمِيرِ خَيْراً، جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صدقٍ، إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ، وَإنْ ذَكَرَ أعَانَهُ، وَإِذَا أرَادَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ، إنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ، وَإنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ» . رواه أَبُو داود بإسنادٍ جيدٍ عَلَى شرط مسلم.
فيه: الحث على اتخاذ وزير صالح، وأن ذلك من علامة سعادة الوالي، والتحذير من وزير السوء، وأنه علامة على شقاوة الوالي.
83- باب النهي عن تولية الإمارة والقضاء وغيرهما
من الولايات لمن سألها أَوْ حرص عليها فعرَّض بها
[680] عن أَبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَا وَرَجُلانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أحَدُهُمَا: يَا رسول الله، أمِّرْنَا عَلَى بَعْض مَا ولاكَ اللهُ - عز وجل -، وقال الآخَرُ مِثلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إنَّا وَاللهِ لا نُوَلِّي هَذَا العَمَلَ أحَداً سَألَهُ، أَوْ أحَداً حَرَصَ عَلَيْهِ» . متفقٌ عَلَيْهِ.
سؤال الولاية والحرص عليها يشعر بأنه لم يَسعَ في ذلك لنفع الإِسلام والمسلمين، وإنما سعى لنفع نفسه بجمع الدنيا، وفي ذلك إهلاك له، وإفساد لأمر الناس دنيا وأُخرى.
(1/436)
====


( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

تطريز رياض الصالحين
كِتَاب الأَدَب
84- باب الحياء وفضله والحث على التخلق به
[681] عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَار وَهُوَ يَعِظُ أخَاهُ في الحَيَاءِ، فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ، فَإنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
الأدب: الأخذ بمكارم الأخلاق. والحياء: من الأدب وهو من الإيمان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .
[682] وعن عمران بن حصينٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
وفي رواية لمسلمٍ: «الحياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أَوْ قَالَ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ» .
الحياء يكف صاحبه عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحثه على مكارم الأخلاق ومعاليها. قال بعض السلف: رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءةً، فاستحالت ديانةً.
[683] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الإيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً: فَأفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إلهَ إِلا
(1/437)
الله، وَأدْنَاهَا إمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
«البِضْعُ» بكسر الباءِ ويجوز فتحها: وَهُوَ مِنَ الثَّلاَثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ.
وَ «الشُّعْبَةُ» : القِطْعَةُ وَالْخَصْلَةُ. وَ «الإمَاطَةُ» : الإزَالَةُ. وَ «الأَذَى» : مَا يُؤْذِي كَحَجَرٍ وشوك وَطِينٍ ورماد وَقَذَرٍ وَنَحْو ذَلِكَ.
الإيمان: يطلق على جميع أمور الدين من اعتقاد القلب، وقول اللسان، وفعل الجوارح.
[684] وعن أَبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، فَإذَا رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ في وَجْهِه. متفقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ العلماءُ: حَقِيقَةُ الحَيَاءِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ القَبِيحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ في حَقِّ ذِي الحَقِّ. وَرَوَيْنَا عَنْ أَبي القاسم الْجُنَيْدِ رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ: الحَيَاءُ: رُؤيَةُ الآلاءِ - أيْ النِّعَمِ - ورُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى حَيَاءً. وَالله أعلم.
85- بابُ حفظ السِّر
قَالَ الله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء (34) ] .
ذكر الآية في حفظ السر لأنه مما يعتاد التعاهد على كتمانه إما لفظًا أو بقرينة الحال.
[685] وعن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِنْ أشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي
(1/438)
إِلَى الْمَرْأةِ وتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» . رواه مسلم.
الإفضاء: مباشرة البشرة، وهو كناية عن الجماع. وفي الحديث وعيدٌ شديدٌ على من ذكر تفاصيل ما يقع بيينه وبين امرأته حال الجماع.
[686] وعن عبدِ الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ عمرَ - رضي الله عنه - حِيْنَ تأيَّمَتْ بِنْتُهُ حَفْصَةُ، قَالَ: لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ - رضي الله عنه -، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ؟ قَالَ: سأنْظُرُ فِي أمْرِي. فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي، فَقَالَ: قَدْ بَدَا لِي أنْ لا أتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا. فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصديق - رضي الله عنه -، فقلتُ: إنْ شِئْتَ أنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بنْتَ عُمَرَ، فَصَمتَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -، فَلَمْ يَرْجِعْ إلَيَّ شَيْئاً! فَكُنْتُ عَلَيْهِ أوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثَ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - فَأنْكَحْتُهَا إيَّاهُ. فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِيْنَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئاً؟ فقلتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أنْ أرْجِعَ إِلَيْك فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلا أنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَهَا، فَلَمْ أكُنْ لأُفْشِيَ سِرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَقَبِلْتُهَا. رواه البخاري.
قوله: «تَأَيَّمَتْ» أيْ: صَارَتْ بِلا زَوْجٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا تُوُفِّيَ - رضي الله عنه -. ... «وَجَدْتَ» : غَضِبْتَ.
في هذا الحديث: عرض الإنسان موليته على أهل الخير.
وفيه: كتم السر والمبالغة في إخفائه.
[687] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كُنَّ أزْوَاجُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
(1/439)
عِنْدَهُ، فَأقْبَلَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها تَمْشِي، مَا تُخْطِئُ مِشيتُها مِنْ مشْيَةِ ... رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئاً، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ بِهَا، وقال: «مَرْحَباً بابْنَتِي» ، ثُمَّ أجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ سَارَّهَا فَبَكتْ بُكَاءً شَديداً، فَلَمَّا رَأى جَزَعَهَا، سَارَّهَا الثَّانِيَةَ فَضَحِكَتْ، فقلتُ لَهَا: خَصَّكِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ بالسِّرَارِ، ثُمَّ أنْتِ تَبْكِينَ! فَلَمَّا قَامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَألْتُهَا: مَا قَالَ لَكِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: مَا كُنْتُ لأُفْشِي عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الحَقِّ، لَمَا حَدَّثْتِنِي مَا قَالَ لَكِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالتْ: أمَّا الآن فَنَعَمْ، أمَّا حِيْنَ سَارَّنِي في المَرَّةِ الأُولَى فأخْبَرَنِي أنّ جِبْريلَ كَانَ يُعَارِضُهُ القُرآنَ في كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَأنَّهُ عَارَضَهُ الآنَ مَرَّتَيْنِ، وَإنِّي لا أُرَى الأجَلَ إِلا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي، فَإنَّهُ نِعْمَ السَّلَفُ أنَا لَكِ، فَبَكَيْتُ بُكَائِي الَّذِي رَأيْتِ، فَلَمَّا رَأى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ، أمَا تَرْضَيْنَ أنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ المُؤُمِنِينَ، أَوْ سَيَّدَةَ نِساءِ هذِهِ الأُمَّةِ؟» فَضَحِكتُ ضَحِكِي الَّذِي رَأيْتِ. متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم.
في الحديث: تقديم المؤانسة قبل الإخبار بالأمر.
وفيه: أن جزاء الصبر على قدر عظم المصيبة.
وفيه: لطف المولى سبحانه من تعقيب الكسر بالجبر، والحزن بالفرح، والعسر باليسر.
وفيه: حفظ السر.
[688] وعن ثَابِتٍ عن أنس - رضي الله عنه - قال: أتَى عَلَيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَأنَا ألْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَسَلمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَني فِي حاجَةٍ، فَأبْطَأتُ
(1/440)
عَلَى أُمِّي. فَلَمَّا جِئْتُ، قالت: مَا حَبَسَكَ؟ فقلتُ: بَعَثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَةٍ، قالت: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إنَّهاَ سرٌّ. قالت: لا تُخْبِرَنَّ بِسرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحَداً، قَالَ أنَسٌ: وَاللهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أحَداً لَحَدَّثْتُكَ بِهِ يَا ثَابِتُ. رواه مسلم وروى البخاري بعضه مختصراً.
في الحديث: حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه: أن حفظ السر يختلف باختلاف الأحوال، فتارةً يجوز إفشاؤه بعد الموت كما في حديث عائشة وفاطمة، وتارة لا يفشي. ولفظ البخاري عن أنس: (أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - سرًا فما أخبرت به أحدًا بعده، ولقد سألتني أمي أم سليم فما أخبرتها به) .
86- باب الوفاء بالعهد وَإنجاز الوَعد
قَالَ الله تَعَالَى: {وَأوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء (34) ] .
أي: أوفوا بالعهد الذي تعاهدون عليه الناس، والعقود التي تعاملون بها فإنَّ كلاً من العهد والعقد مسؤول عنه صاحبه: هل وفَّى به أم لا؟
وقال تَعَالَى: {وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل (91) ] .
يأمر تعالى بالوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأَيمان المؤكدة، ولهذا قال: {وَلا تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل (91) ] .
وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة (1) ] .
قال ابن عباس: يعني: العهود: يعني: ما أحلَّ الله، وما حرَّم، وما حدَّ في القرآن كله ولا تغدروا، ولا تنكثوا.
وقال زيد بن أسلم: هي ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين.
(1/441)
وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف (2، 3) ] .
المقت: أشد البغض. وفي الآية وعيٌد شديدٌ لمخالف الوعد، وناكث العهد.
[689] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
زَادَ في روايةٍ لمسلم: «وإنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ» .
[690] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ
كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو نوعان: اعتقادي، ... وعملي. فالاعتقادي: هو النفاق الأكبر، وصاحبه مع الكفار مخلد معهم في النار. قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة (67، 68) ] .
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً} [النساء (142) ] إلى آخر الآيات. والنفاق العملي: هو النفاق الأصغر وهو من كبائر الذنوب.
(1/442)
[691] وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قَالَ لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أعْطَيْتُكَ هكَذَا وَهَكَذَا» فَلَمْ يَجِئْ مَالُ الْبَحْرَينِ حَتَّى قُبِضَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أمَرَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأتِنَا، فَأتَيْتُهُ وَقُلْتُ لَهُ: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لي كَذَا وَكَذَا، فَحَثَى لي حَثْيَةً فَعَدَدْتُهَا، فَإذَا هِيَ خَمْسُ مِئَةٍ، فَقَالَ لِي: خُذْ مِثْلَيْهَا. متفقٌ عَلَيْهِ.
لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه، ولم يسأله البينة على ما ادَّعاه.
87- باب المحافظة عَلَى مَا اعتاده من الخير
قَالَ الله تَعَالَى: {إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنْفُسِهِمْ} . [الرعد (11) ] .
أي: لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يُغِّيروا ما بأنفسهم فيعصوا ربهم.
وقال تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكَاثاً} [النحل (92) ] .
وَ «الأنْكَاثُ» : جَمْعُ نِكْثٍ، وَهُوَ الْغَزْلُ المَنْقُوضُ.
قال مجاهد وغيره: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده. قال: كانوا يخالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز فنهوا عن ذلك. والآية تتناول نقض سائر العهود؛ لأن القرآن يعم بلفظه ولا يُقْصَرُ على سبب نزوله، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ... [محمد (33) ] .
(1/443)
وقال تَعَالَى: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد (16) ] .
قال ابن عباس: مالوا على الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله.
قال البغوي: والمعنى أنَّ الله عزَّ وجلّ ينهى المؤمنين أن يكونوا - في صحبة القرآن - كاليهود الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر.
وقال تَعَالَى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد (27) ] .
قال ابن كثير: أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عزَّ وجلّ.
[692] وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عبْدَ الله، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
فيه: استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من خير، وكراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبةً.
88- باب استحباب طيب الكلام وطلاقة الوَجه عند اللقاء
قَالَ الله تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنينَ} [الحجر (88) ] .
أي: لين جانبك، وتواضع للمؤمنين
وقال تَعَالَى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران (159) ] .
(1/444)
أي: لو كنت عنيفًا قاسي القلب لنفروا عنك.
[693] وعن عدي بن حاتمٍ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
أي: اتخذوا ما يقيكم من النار ولو كان يسيرًا من مال، أو خلق حسن.
[694] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» . متفقٌ عَلَيْهِِ، وَهُوَ بعض حديث تقدم بطولِه.
الكلمة الطيبة: كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والشفاعة الحسنة، والإصلاح بين الناس ونحو ذلك.
[695] وعن أَبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قَالَ لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً، وَلَوْ أنْ تَلْقَى أخَاكَ بوَجْهٍ طَلْيقٍ» . رواه مسلم
الوجه الطليق: هو المتهلل بالبشر والابتسام.
قال الشاعر:
بَشَاشَةُ وَجْهِ المَرْءِ خَيْرٌ مِنَ القِرَى ... فَكَيْفَ بِمَنْ يُقْرِي القِرَى وَهُوَ يَضْحَكُ
89- باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب
وتكريره ليفهم إذا لَمْ يفهم إِلا بذلك
[696] عن أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةً أعَادَهَا ثَلاَثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاثاً. رواه البخاري.
(1/445)
قال ابن بطال: إنما كان تكرار الكلام والسلام إذا خشي أن لا يفهم عنه، أو لا يسمع سلامه.
وفيه: أن الثلاث غاية ما يقع فيه البيان.
[697] وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ كَلاَمُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلاماً فَصْلاً يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَسْمَعُهُ. رواه أَبُو داود.
أي: أن كلامه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيِّن ظاهر لكل من سمعه ليس فيه تعقيد ولا تطويل. قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيتُ جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا» . انتهى. وجوامع الكلم أن تجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل.
90- باب إصغاء الجليس لحديث جليسه
الذي ليس بحرام
واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه
[698] عن جرير بن عبدِ اللهِ - رضي الله عنه - قال: قَالَ لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ» ثُمَّ قَالَ: «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
فيه: الأمر بالإنصات للعلماء والأمراء.
وفيه: وعيدٌ شديدٌ في التقاتل بين المسلمين، واجتناب الأسباب المؤدية إلى ذلك من التقاطع، والتحاسد، والتباغض، والتدابر والتظالم.
91- بابُ الوَعظ والاقتصاد فِيهِ
قَالَ الله تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل (125) ] .
(1/446)
في هذه الآية: الأمر بالدعاء إلى دين الله، وتوحيده بالقرآن، وما فيه من المواعظ بلين ورفق من غير تغليظ، ولا تعنيف، ولهذا قال: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل (125) ] .
[699] وعن أَبي وائلٍ شقيقِ بن سَلَمَةَ، قَالَ: كَانَ ابنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - يُذَكِّرُنَا في كُلِّ خَمِيسٍ مرة، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ، لَوَدِدْتُ أنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: أمَا إنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أنَّي أكْرَهُ أنْ أُمِلَّكُمْ، وَإنِّي أتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. متفقٌ عَلَيْهِ.
«يَتَخَوَّلُنَا» : يَتَعَهَّدُنَا.
الموعظة: الوعظ، وهو الترغيب في ثواب الله لمن أطاعه، والترهيب من عقابه لمن عصاه.
وفي الحديث: مراعاة الأوقات في التذكير، لأن النفوس من طبعها الملل مما يداوم عليه وإن كان محبوبًا لها.
[700] وعن أَبي اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقههِ، فأطِيلُوا الصَّلاَةَ وَأقْصِرُوا الْخُطْبَةَ» . رواه مسلم
«مَئِنَّةٌ» بميم مفتوحة ثُمَّ همزة مكسورة ثُمَّ نون مشددة، أيْ: عَلاَمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى فِقْهِهِ.
إنما كان قصر الخطبة علامة على فقه الرجل، لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني، وجوامع الألفاظ فيتمكن من التعبير بالكلام الجزل المفيد.
[701] وعن مُعاوِيَة بن الحكم السُّلَمي - رضي الله عنه - قال: بَيْنَا
(1/447)
أنَا أُصَلّي مَعَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَرَمَانِي القَوْمُ بِأبْصَارِهِمْ! فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ، مَا شَأنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأيديهم عَلَى أفْخَاذِهِمْ! فَلَمَّا رَأيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لكِنّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلّى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِأبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأيْتُ مُعَلِّماً قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيماً مِنْهُ، فَوَاللهِ مَا كَهَرَني، وَلا ضَرَبَنِي، وَلا شَتَمَنِي. قَالَ: «إنَّ هذِهِ الصَّلاَةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ، وَقِراءةُ القُرْآنِ» ، أَوْ كَمَا قَالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلتُ: يَا رسول الله، إنّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالإسْلاَمِ، وَإنَّ مِنّا رِجَالاً يَأتُونَ الْكُهّانَ؟ قَالَ: «فَلا تَأتِهِمْ» قُلْتُ: وَمِنّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ؟ قَالَ: «ذَاكَ شَيْء يَجِدُونَهُ في صُدُورِهِمْ فَلا يَصُدَّنَّهُمْ» . رواه مسلم.
«الثُكْلُ» بضم الثاءِ المُثلثة: المُصيبَةُ الفَجِيعَةُ. «مَا كَهَرَنِي» أيْ: مَا نَهَرَنِي.
قوله: «إنما هي التسبيح» ، أي: إنما الكلمات الصالحة فيها التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ونحو ذلك.
وفي رواية: إنما هو، أي: الذي يصلح في الصلاة التسبيح ونحوه.
وفي الحديث: أن من تكلم جاهلاً لا تبطل صلاته.
وفيه: النهي عن إتيان الكهان، والنهي عن التطير، وعن العمل بالطيرة.
[702] وعن العِرْباض بن ساريَةَ - رضي الله عنه - قال: وَعَظَنَا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ ... وَذَكَرَ
(1/448)
الحَدِيثَ وَقَدْ سَبَقَ بِكَمَالِهِ في باب الأمْر بِالمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَّة، وَذَكَرْنَا أنَّ التَّرْمِذِيَّ، قَالَ: (إنّه حديث حسن صحيح) .
في الحديث: استحباب الموعظة بما يحرك القلوب من الكلام الجزل الجامع البليغ.
92- باب الوقار والسكينة
قَالَ الله تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمَاً} [الفرقان (63) ] .
الهون: السيكنة والوقار، أي: يمشون متواضعين غير أشرين، ولا مرحين، ولا متكبِّرين.
قال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا.
وقال الحسن البصري: إنَّ المؤمنين قوم ذلل ذلت منهم والله الأسماع، والأبصار، والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى وما بالقوم من مرض وإنهم والله لأصحّاء، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة. فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجندَ ولكن أبكاهم الخوف من النار أنه من لم يتعزى بعزاء الله تقطع نفسه عن الدنيا حسرات. ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قلَّ علمه، وحضر عذابه.
قال ابن كثير: والمراد بالهون هنا: لسكينة والوقار، وليس المراد أنهم يمشون كالمرض تصنُّعًا ورياء. فقد كان سيِّد ولد آدم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له.
[703] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: مَا رَأيْتُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/449)
مُسْتَجْمِعاً قَطُّ ضَاحِكاً حَتَّى تُرَى مِنهُ لَهَوَاتُهُ إنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. متفقٌ عَلَيْهِ.
«اللَّهْوَاتُ» جَمْعُ لَهَاةٍ: وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتي في أقْصى سَقْفِ الْفَمِ.
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتسم ويضحك ولا يبالغ في الضحك.
93- باب الندب إِلَى إتيان الصلاة
والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار
قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} ... [الحج (32) ] .
أي: تعظيم أوامر الله ناشئ من تقوى قلوبهم.
[704] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَلا تَأتُوهَا وَأنْتُمْ تَسْعَونَ، وَأتُوهَا وَأنْتُمْ تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أدْرَكْتُم فَصَلُّوا وَمَا فَاتكُمْ فَأَتِمُّوا» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
زاد مسلِمٌ في روايةٍ لَهُ: «فَإنَّ أحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاَةِ فَهُوَ في صَلاَةٍ» .
قال النووي: السكينة: التأني في الحركات، واجتناب العبث والوقار في الهيئة كغض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات.
قوله: «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» ، أي: أكملوا ما بقي من صلاتكم.
(1/450)
[705] وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَاءهُ زَجْراً شَديداً وَضَرْباً وَصَوْتاً للإِبْلِ، فَأشَارَ بِسَوْطِهِ إلَيْهِمْ، وقال: «أيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ، فَإنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بالإيضَاعِ» رواه البخاري، وروى مسلم بعضه.
«الْبِرُّ» : الطَّاعَةُ. وَ «الإيضَاعُ» بِضادٍ معجمةٍ قبلها ياءٌ وهمزةٌ مكسورةٌ، وَهُوَ: الإسْرَاعُ.
أي: أن البر ليس بالعجلة وإنما هو بالخضوع، والخشوع والاستكانة لمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
94- باب إكرام الضيف
قَالَ الله تَعَالَى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمَاً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ ألا تَأكُلُونَ} [الذاريات (24: 27) ] .
قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} ، فيه تعظيم لشأن هذا الحديث، وتنبيه على أنه إنما عرف ذلك بالوحي، {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً} ، أي: نسلم عليكم سلامًا. قال: {قَالَ سَلامٌ} ، أي: عليكم {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ، أي: أنتم قوم لا نعرفكم، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} ، أي: انسل خفيةً في سرعة، {فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} ، وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعام بسرعة من حيث لا يشعرون وأتى بأفضل ما وجد من ماله ووضعه بين أيديهم، وقال: ألا تأكلون؟ على سبيل العرض والتلطف.
وقال تَعَالَى: {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ في ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود (78) ] .
(1/451)
{وَجَاءهُ} ، أي: لوطًا {قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} يسرعون إليه عجلة لنيل مطلوبهم من أضيافه. {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي: يأتون الرجال، يعني هذه عادتهم من قبل. {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي} ، أي: فتزوَّجوهن واتركوا أضيافي.
وقال الشيخ ابن سعدي: {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} ، يريدون فعل الفاحشة بأضياف لوط. فقال: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ، لعلمه أنه لا حق بهم فيهن كما عرض سليمان للمرأتين حين اختصما في الولد. فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما. ومن المعلوم أنه لا يقع ذلك، وهذا مِثْلُه. ولهذا قال قومه: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود (79) ] ، وأيضًا يريد بعض العذر من أضيافه.
[706] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
إكرام الضيف تلقيه بطلاقة الوجه، وتعجيل قراه.
وفيه: أن إكرام الضيف، وصلة الرحم، وقول الخير، والصمات عن الشر من الإِيمان.
[707] وعن أَبي شُرَيْح خُوَيْلِدِ بن عَمرو الخُزَاعِيِّ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ» قالوا: وَمَا جَائِزَتُهُ؟ يَا رسول الله، قَالَ: «يَوْمُهُ
(1/452)
وَلَيْلَتُهُ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
وفي رواية لِمسلمٍ: «ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يُقِيمَ عِنْدَ أخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ» قالوا: يَا رسول الله، وَكيْفَ يُؤْثِمُهُ؟ قَالَ: «يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلا شَيْءَ لَهُ يُقْرِيه بِهِ» .
قال العلماء: المطلوب من المضيف أن يبالغ في إكرام الضيف اليوم الأول وليلته، وفي باقي اليومين يأتي له بما تيسر من الإِكرام.
وفي الحديث: الحث على النظر إلى حال المضيف، والتخفيف عنه.
95- باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير
قَالَ الله تَعَالَى: {فَبَشَّرْ عبادِ الذينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فيتَّبِعُونَ أَحْسَنهُ} [الزمر (17، 18) ] .
التبشير: الإِخبار بما يَسرُّ، {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} ، أي: القرآن، ... {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ، أي: يعملون بما فيه.
وقال السدي: أحسن ما يؤمرون به. وقيل: أحسن الأُمور الخير فيها، كالعفو عن الظالم والعفو عن نصف الصداق، والعفو عن المعسر.
وقال تَعَالَى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} . [التوبة (21) ] .
هذه أعظم بشارة؛ لأنَّ الرب عزَّ وجلّ هو المبشر، والمبشر به الجنة، والخلود فيها، والرضوان من الله، والمبشرون المؤمنون.
وقال تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنْتُم تُوعَدُونَ} . [فصلت (30) ] .
وهذه بشارة الملائكة للمؤمنين عند الموت.
وقال تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} [الصافات (101) ] .
(1/453)
وهو إسماعيل عليه السلام.
وقال تَعَالَى: {وَلَقدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبْراهِيمَ بِالبُشْرَى} [هود (69) ] .
وقال تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود (71) ] .
قال ابن كثير: فضحكت سارة استبشارًا بهلاك قوم لوط، لكثرة فسادهم وغلظ كفرهم وعنادهم، فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد بعد الإِياس.
وقال تَعَالَى: {فَنَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران (39) ] .
قيل: سُمِّي محل الصلاة محرابًا لأنَّ المصلي يحارب فيه الشيطان. وقال تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمسِيحُ} [آل عمران (45) ] الآية.
قيل: سُمِّي عيسى عليه السلام كلمة لأنه كان بـ (كُنْ) .
والآيات في الباب كثيرة معلومة.
وأما الأحاديث فكثيرةٌ جِدّاً وهي مشهورة في الصحيح، مِنْهَا:
[708] عن أَبي إبراهيم، ويقال: أَبُو محمد، ويقال: أَبُو معاوية عبد اللهِ ابن أَبي أوفى رضي الله عنه: أنّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشَّرَ خَدِيجَةَ رضي اللهُ عنها ببَيْتٍ في الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ، وَلا نَصَبَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
(1/454)
«القَصَبُ» : هُنَا اللُّؤْلُؤُ الْمُجَوَّفُ. وَ «الصَّخَبُ» : الصِّياحُ وَاللَّغَطُ. وَ «النَّصَبُ» : التَّعَبُ.
في هذا الحديث: فضل خديجة رضي الله عنها.
وفيه: أن الجنة لا تعب فيها؛ لأنها منزل تشريف وإجلال لا دار تكليف وأعمال.
[709] وعن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنَّهُ تَوَضَّأ في بَيْتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: لأَلْزَمَنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا، فَجَاءَ الْمَسْجِدَ، فَسَألَ عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: وجَّهَ ها هُنَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ عَلَى أثَرِهِ أسْألُ عَنْهُ، حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أريسٍ، فَجَلَسْتُ عِندَ البَابِ حتَّى قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجتهُ وتوضأ، فقمتُ إليهِ، فإذا هو قد جلسَ على بئرِ أريسٍ وتوَسَّطَ قُفَّهَا، وكشَفَ عنْ ساقيهِ ودلاهُما في البئرِ، فسلمتُ عَليهِ ثمَّ انصَرَفتُ، فجلستُ عِندَ البابِ، فَقُلْتُ: لأَكُونَنَّ بَوَّابَ رسولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَوْمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - فَدَفَعَ الْبَابَ، فقلتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فقُلتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهبْتُ، فقلتُ: يَا رسول الله، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَستَأْذِنُ، فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» فَأقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لأَبي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَشِّرُكَ بِالجَنَّةِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكرٍ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَمينِ ... النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُ في القُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ في البِئْرِ كَمَا صَنَعَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَجَلَسْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ أخِي يَتَوَضَّأ وَيَلْحَقُنِي، فقلتُ: إنْ يُرِدِ الله بِفُلانٍ – يُريدُ أخَاهُ – خَيْراً يَأتِ بِهِ.
فَإذَا إنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَاب، فقلتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بن الخَطّابِ، فقلتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ يَسْتَأذِنُ؟ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ» فَجِئْتُ عُمَرَ، فقلتُ: أَذِنَ وَيُبَشِّرُكَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالجَنَّةِ، فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القُفِّ عَنْ يَسَارِهِ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ في البِئرِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، فَقُلتُ: إنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلاَنٍ خَيْراً – يَعْنِي أخَاهُ – يَأْتِ بِهِ، فَجَاءَ إنْسَانٌ فَحَرَّكَ الْبَابَ.
(1/455)
فَقُلتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بن عَفَّانَ. فقلتُ: عَلَى رِسْلِكَ، وجِئْتُ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخْبَرْتُهُ، فقالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ مَعَ بَلْوَى تُصِيبُهُ» فَجِئْتُ، فقلتُ: ادْخُلْ وَيُبَشِّرُكَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالجَنَّةِ مَعَ بَلْوَى تُصيبُكَ، فَدَخَلَ فَوجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ، فجلس وِجَاهَهُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخرِ. قَالَ سَعيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وزاد في رواية: وأمرني رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفظِ الباب. وَفيها: أنَّ عُثْمانَ حِيْنَ بَشَّرَهُ حَمِدَ اللهَ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: اللهُ المُسْتَعانُ.
وَقَوْلُه: «وَجَّهَ» بفتحِ الواوِ وتشديد الجيمِ. أيْ: تَوَجَّهَ. وَقَوْلُه: «بِئْر أَرِيْسٍ» هُوَ بفتح الهمزة وكسرِ الراءِ وبعدها ياءٌ مثناة من تحت ساكِنة ثُمَّ سِين مهملة وَهُوَ مصروف ومنهم من منع صرفه، وَ «القُفُّ» بضم القاف وتشديد الفاءِ: وَهُوَ المبنيُّ حول البئر. قَوْلُه: «عَلَى رِسْلِك» بكسر الراء عَلَى المشهور، وقيل: بفتحِهَا، أيْ: ارفق.
في هذا الحديث: حسن ثمرة لزوم الأدب.
وفيه: حسن الأدب في الاستئذان.
(1/456)
وفيه: الصبر على توقيع المصيبة وحمد الله تعالى على السراء والضراء
وفيه: التبشير بالخير.
[710] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كُنَّا قُعُوداً حَوْلَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا أَبُو بَكرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما في نَفَرٍ، فَقَامَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنِ أظْهُرِنَا فَأبْطَأ عَلَيْنَا، وَخَشِينَا أنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ، فَخَرَجْتُ أبْتَغِي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أتَيْتُ حَائِطاً للأنصَارِ لِبَني النَّجَارِ، فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أجِدُ لَهُ بَاباً؟ فَلَمْ أجِدْ! فَإذَا رَبيعٌ يَدْخُلُ في جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَهُ – وَالرَّبِيعُ: الجَدْوَلُ الصَّغِيرُ – فَاحْتَفَزْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقال: «أَبُو هُرَيْرَةَ؟» فقلتُ: نَعَمْ، يَا رسول اللهِ، قَالَ: «مَا شأنُكَ؟» قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأبْطَأتَ عَلَيْنَا، فَخَشِينَا أنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا، ففزعنا، فَكُنْتُ أوّلَ مَنْ فَزِعَ، فَأتَيْتُ هَذَا الحَائِطَ، فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ، وهؤلاء النَّاسُ وَرَائِي. فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيرَةَ» وَأعْطَانِي نَعْلَيْهِ، فَقَالَ: «اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الحَائِطِ يَشْهَدُ أنْ لا إله إِلا الله مُسْتَيْقِنَاً بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ ... » وَذَكَرَ الحديثَ بطوله. رواه مسلم.
«الرَّبِيعُ» : النَّهْرُ الصَّغَيرُ، وَهُوَ الجَدْوَلُ - بفتح الجيمِ - كَمَا فَسَّرَهُ في الحديث. وَقَوْلُه: «احْتَفَزْتُ» روِي بالراء وبالزاي، ومعناه بالزاي: تَضَامَمْتُ وتَصَاغَرْتُ حَتَّى أمْكَنَنِي الدُّخُولُ.
في هذا الحديث: بشارةٌ عظيمةٌ لأهل التوحيد. وأن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه فله الجنة.
[711] وعن ابن شِمَاسَة، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بنَ العَاصِ - رضي الله عنه - وَهُوَ في سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلاً، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الجِدَارِ،
(1/457)
فَجَعَلَ ابْنُهُ، يَقُولُ: يَا أبَتَاهُ، أمَا بَشَّرَكَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكَذَا؟ أمَا بَشَّرَكَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا؟ فَأقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إنَّ أفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أنْ لا إلهَ إِلا الله، وَأنَّ مُحَمَّداً رسول اللهِ، إنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أطْبَاقٍ ثَلاَثٍ: لَقَدْ رَأيْتُنِي وَمَا أحَدٌ أشَدُّ بُغضاً لرسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي، وَلا أحَبَّ إليَّ مِنْ أنْ أكُونَ قدِ اسْتَمكنتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُه، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تلكَ الحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الإسلامَ في قَلْبِي أتَيْتُ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقُلْتُ: ابسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعُك، فَبَسَطَ يَمِينَهُ فَقَبَضْتُ يَدِي، فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قلتُ: أردتُ أنْ أشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِط مَاذا؟» قُلْتُ: أنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: «أمَا عَلِمْتَ أن الإسلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأن الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبلَهَا، وَأنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟» وَمَا كَانَ أحدٌ أحَبَّ إليَّ مِنْ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلا أجَلَّ في عَيني مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطيقُ أن أملأ عَيني مِنْهُ؛ إجلالاً لَهُ، ولو سئلت أن أصفه مَا أطقت، لأني لَمْ أكن أملأ عيني مِنْهُ، ولو مُتُّ عَلَى تِلْكَ الحالِ لَرجَوْتُ أن أكُونَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ.
ثُمَّ وَلِينَا أشْيَاءَ مَا أدْرِي مَا حَالِي فِيهَا؟ فَإذَا أنَا مُتُّ فَلا تَصحَبَنِّي نَائِحَةٌ وَلا نَارٌ، فَإذا دَفَنْتُمُونِي، فَشُنُّوا عَليَّ التُّرابَ شَنّاً، ثُمَّ أقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزورٌ، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأنِسَ بِكُمْ، وَأنْظُرَ مَا أُرَاجعُ بِهِ رسُلَ رَبّي. رواه مسلم.
قَوْله: «شُنُّوا» رُوِي بالشّين المعجمة والمهملةِ، أيْ: صُبُّوه قَليلاً قَليلاً، والله سبحانه أعلم.
في هذا الحديث: أنَّ المؤمن لا تفارقه خشية الله ولو عمل من الصالحات ما عمل، كما قال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون (60) ] .
(1/458)
وفيه: إثبات فتنة القبر، وسؤال الملكين، واستحباب المكث بعد القبر، والدعاء له.
وفيه: كراهة استصحاب النار للميت إلا أن تدعو إليها حاجة.
96- باب وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر
وغيره والدعاء لَهُ وطلب الدعاء مِنْهُ
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قَالَ لِبَنيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وَإلهَ آبَائِكَ إبْراهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحاقَ إلهَاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ... [البقرة (132، 133) ] .
قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا} ، أي: بالملة، وكلمة الإِخلاص لا إله إلا الله {إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} ، ووصى بها أيضًا يعقوب بنيه فقالا: {إنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ} ، أي: دين الإسلام، {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، أي: دوموا على الإسلام حتى تموتوا. وقالت اليهود للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألستَ تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ فردَّ الله عليهم بقوله {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قَالَ لِبَنيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وَإلهَ آبَائِكَ إبْراهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحاقَ إلهَاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ، وإسماعيل عم يعقوب، فهو من التغليب.
وأما الأحاديث:
[712] حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - الَّذِي سبق في بَابِ إكرام أهْلِ بَيْتِ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَامَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا خَطِيباً، فَحَمِدَ الله، وَأثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أمَّا بَعْدُ، ألا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أنْ يَأتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أوَّلَهُمَا: كِتَابُ اللهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ
(1/459)
وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أذَكِّرُكُمُ اللهَ في أهْلِ بَيْتِي» رواه مسلم، وَقَدْ سَبَقَ بِطُولِهِ.
في هذا الحديث: الحث على التمسُّك بكتاب الله، والاعتصام بحبله.
وفيه: التمسُّك بمحبَّة أهل بيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[713] وعن أَبي سليمان مالِك بن الحُوَيْرِثِ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْنَا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَحِيماً رَفيقاً، فَظَنَّ أنّا قد اشْتَقْنَا أهْلَنَا، فَسَألَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا مِنْ أهْلِنَا، فَأخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: «ارْجِعُوا إِلَى أهْلِيكُمْ، فَأقِيمُوا فِيهمْ، وَعَلِّمُوهُم وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِيْنِ كَذَا، وَصَلُّوا كَذَا في حِيْنِ كَذَا، فَإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أكْبَرُكُمْ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
زاد البخاري في رواية لَهُ: «وَصَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» .
قَوْلُه: «رحِيماً رَفِيقاً» رُوِيَ بِفاءٍ وقافٍ، وَرُوِيَ بقافينِ.
في الحديث: ما يدل على تساويهم فِي الأَخذ عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومدة الإِقامة عنده، فلم يبق إلا السن، فلهذا قال: «وليؤمكم أكبركم» ، وأما الأذان: فالقصد منه الإِعلام بدخول وقت الصلاة، فاستوى فيه الكامل وغيره، فلهذا قال: «فليؤذن لكم أحدكم» .
[714] وعن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: اسْتأذَنْتُ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العُمْرَةِ، فَأذِنَ، وقال: «لا تَنْسَانَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ» فقالَ كَلِمَةً ما يَسُرُّنِي أنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا.
وفي رواية قَالَ: «أشْرِكْنَا يَا أُخَيَّ في دُعَائِكَ» . رواه أَبُو داود
(1/460)
والترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ) .
في هذا الحديث: مزيد تواضعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والحث على سؤال الدعاء من سائر المسلمين، وإن كان السائل أفضل.
[715] وعن سالم بنِ عبدِ الله بنِ عمر: أنَّ عبدَ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، كَانَ يَقُولُ للرَّجُلِ إِذَا أرَادَ سَفَراً: ادْنُ مِنِّي حَتَّى أُوَدِّعَكَ كَمَا كَانَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَدِّعُنَا، فَيَقُولُ: «أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ، وَأمَانَتَكَ، وَخَواتِيمَ عَمَلِكَ» رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ غريب) .
[716] وعن عبدِ الله بن يزيدَ الخطْمِيِّ الصحابيِّ - رضي الله عنه - قال: كَانَ ... رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أرَادَ أنْ يُوَدِّعَ الجَيشَ، قَالَ: «أسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكُمْ، وَأمَانَتَكُمْ، وَخَواتِيمَ أعْمَالِكُمْ» حديث صحيح، رواه أَبُو داود وغيره بإسناد صحيح.
في الحديث: كمال فضله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتوديعه لأصحابه مع علو مقامه، وذكر الدين، لأن السفر مظنة التساهل في أمره والأمانة: التكاليف الشرعية، وذكر خواتيم الأعمال اهتمامًا بشأنها؛ لأن الأعمال بالخواتيم.
[717] وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رسولَ الله إنّي أُرِيدُ سَفَراً، فَزَوِّدْنِي، فَقَالَ: «زَوَّدَكَ الله التَّقْوَى» قَالَ: زِدْنِي قَالَ: «وَغَفَرَ ذَنْبَكَ» قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: «وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ» . رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ) .
فيه: استحباب مجيء المسافر لأصحابه، وسؤاله دعاءهم، وعلم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقرينة حال السائل أن مراده الإِمداد بالدعاء، فلذا قال: «زودك الله التقوى» .
97-
(1/461)
باب الاستِخارة والمشاورة
قَالَ الله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران (159) ] ، وقال تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى (38) ] أيْ: يَتَشَاوَرُونَ فِيهِ.
الاستخارة: سؤال خير الأمرين من الله تعالى. وفي المشاورة تطييب لقلوب الأصحاب، واستظهار رأي قد يخفى.
[718] وعن جابر - رضي الله عنه - قال: كَانَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ في الأمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنَ القُرْآنِ، يَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أحَدُكُمْ بِالأمْرِ، فَلْيَركعْ ركْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ ليقل: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وأسْألُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيْمِ، فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أعْلَمُ، وَأنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لِي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أمْرِي» أَوْ قَالَ: «عَاجِلِ أمْرِي وَآجِلِهِ، فاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ. وَإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي في دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي» أَوْ قَالَ: «عَاجِلِ أمْرِي وَآجِلِهِ؛ فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أرْضِنِي بِهِ» قَالَ: «وَيُسَمِّيْ حَاجَتَهُ» رواه البخاري.
في هذا الحديث: استحباب الاستخارة في الأمور كلها. وورد في بعض الآثار (ما ندم من استخار الله وشاور المخلوقين) . وفي كلام الحكمة: أن الناس ثلاثة: رجل، ونصف رجل، ولا رجل، فالرجل من كان له رأي ويستشير. ونصف الرجل من كان له رأي ولا يستشير، أو ليس له رأي ويستشير. والناقص من لا رأي له، ولا يتشير.
(1/462)
98- باب استحباب الذهاب إِلَى العيد
وعيادة المريض والحج والغزو والجنازة ونحوها من طريق، والرجوع من طريق آخر لتكثير مواضع العبادة
[719] عن جابر - رضي الله عنه - قال: كَانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كَانَ يومُ عيدٍ خَالَفَ الطَّريقَ. رواه البخاري.
قَوْله: «خَالَفَ الطَّريقَ» يعني: ذَهَبَ في طريقٍ، وَرَجَعَ في طريقٍ آخَرَ.
قيل: يستحب أن يجعل الطريق للذهاب حيث لا يخشى الفوات.
[720] وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَريق الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَريقِ الْمُعَرَّسِ، وَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ، دَخَلَ مِن الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. متفقٌ عَلَيْهِ.
ثنية العليا: هي المسماة الآن ريع الحمول، والسفلى: الشبيكة.
99- باب استحباب تقديم اليمين
في كل مَا هو من باب التكريم
كالوضوءِ وَالغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ، وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَالنَّعْلِ وَالخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ وَدُخولِ الْمَسْجِدِ، وَالسِّوَاكِ، وَالاكْتِحَالِ، وَتقليم الأظْفار، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَنَتْفِ الإبْطِ، وَحلقِ الرَّأسِ، وَالسّلامِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَالأكْلِ، والشُّربِ، وَالمُصافحَةِ، وَاسْتِلاَمِ الحَجَرِ الأَسْوَدِ، والخروجِ منَ الخلاءِ، والأخذ والعطاء وغيرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ في معناه. ويُسْتَحَبُّ تَقديمُ
(1/463)
اليسارِ في ضدِ ذَلِكَ، كالامْتِخَاطِ وَالبُصَاقِ عن اليسار، ودخولِ الخَلاءِ، والخروج من المَسْجِدِ، وخَلْعِ الخُفِّ والنَّعْلِ والسراويلِ والثوبِ، والاسْتِنْجَاءِ وفِعلِ المُسْتَقْذرَاتِ وأشْبَاه ذَلِكَ.
الجامع لهذا أنه يستحب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التطييب والتكريم، وتقديم اليسرى في كل ما هو من باب الإهانة والاستقذار.
قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أوتِيَ كِتَابَهُ بيَمينِهِ فَيْقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيْه} [الحاقة (19) ] الآيات، وقَالَ تَعَالَى: {فَأصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وَأَصْحابُ المَشْئَمَةِ مَا أصْحَابُ المَشْئَمَةِ} [الواقعة (8، 9) ] .
عن أبي عثمان قال: المؤمن يُعطى كتابه بيمينه في ستر من الله، فيقرأ سيَّئاته، فكلما قرأ سيئَّة تغيَّر لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه. ثم ينظر فإذا سيَّائته قد بُدِّلت حسنات. قال فعند ذلك يقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} .
وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة (25) ] قال ابن السائب: تُلوى يده اليسرى خلف ظهره، ثم يُعطى كتابه.
وقال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة (8، 9) ] .
قال ابن عباس: أصحاب الميمنة: هم الذين كانوا على يمين آدم حين أُخرجت الذرية من صلبه، وأصحاب المشأمة: هم الذين كانوا على شمال آدم.
وقال الحسن: أصحاب الميمنة: هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم، وكانت أعمارهم في طاعة الله. وأصحاب المشأمة: هم المشائيم على أنفسهم، وكانت أعمارهم في المعاصي.
[721] وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/464)
يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ في شَأنِهِ كُلِّهِ: في طُهُورِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ. متفقٌ عَلَيْهِ.
فيه: استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم، واستحباب استعمال اليسرى في ما كان من باب الاستقذار. قال الشارح، ويكون إمساك السواك باليد اليمنى.
[722] وعنها قالت: كَانَتْ يَدُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَكَانَتِ يده الْيُسْرَى لِخَلائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أذَىً. حديث صحيح، رواه أَبُو داود وغيره بإسنادٍ صحيحٍ.
الأذى: كالامتخاط، والاستنجاء، ونحو ذلك.
[723] وعن أم عطية رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لهن في غَسْلِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ رضي الله عنها: «ابْدَأنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
فيه: استحباب التيامن في غسل الميت كاستحبابه في غسل الحي.
[724] وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا انْتَعَلَ أحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدأْ بِالشِّمَالِ. لِتَكُنْ اليُمْنَى أوَّلَهُمَا تُنْعَلُ، وَآخِرُهُمَا تُنْزَعُ» . متفقٌ عَلَيْهِِ.
فيه: استحباب البداءة باليمين في لبس النعل، وبالشمال في نزعها ويقاس على ذلك لبس الثوب، والسراويل ونحوها.
[725] وعن حفصة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ
(1/465)
يجعل يَمينَهُ لطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ، وَيَجْعَلُ يَسَارَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ. رواه أَبُو داود وغيره.
[726] وعن أَبي هُريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا لَبِسْتُمْ، وَإِذَا تَوَضَّأتُمْ، فَابْدَأوا بأيَامِنِكُمْ» . حديث صحيح، رواه أَبُو داود والترمذي بإسناد صحيح.
فيه: مشروعية البداءة بغسل اليد اليمنى قبل اليسرى في الوضوء، وكذلك في الرجلين.
[727] وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى مِنىً، فَأتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أتَى مَنْزِلَهُ بِمِنَىً ونحر، ثُمَّ قَالَ لِلحَلاقِ: «خُذْ» وأشَارَ إِلَى جَانِبهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ الأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية: لما رمَى الجَمْرَةَ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ، نَاوَلَ الحَلاقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأنْصَارِيَّ - رضي الله عنه -، فَأعْطَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ، فَقَالَ: «احْلِقْ» ، فَحَلَقَهُ فَأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ: «اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» .
فيه: البدء بيمين المحلوق. وفيه: فضيلة أبي طلحة، وهو زوج أم سليم، وهو الذي حفر قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(1/466)
==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق